مكبات بشرية في 4 دول عربية.. قصة تمويل أوروبا لرمي المهاجرين بالصحراء
تاريخ النشر: 24th, May 2024 GMT
"الجزائر هناك، اتبعوا الضوء"، يصرخ مسؤول تونسي على مهاجرين سود، مضيفا "إذا رأيتكم هنا، سوف أطلق عليكم النار".
رضخ للتحذير الكاميروني فرانسوا ذو الـ38 عاما، فقفز من فوق شاحنة صغيرة بالقرب من الحدود الجزائرية التونسية المقفرة.
في اليوم السابق، اعترض خفر السواحل التونسي قاربا متهالكا كان يحاول نقل فرانسوا وغيره من المهاجرين من جنوب الصحراء الكبرى إلى أوروبا، بمن فيهم زوجته وربيبه البالغ من العمر 6 سنوات.
المجموعة المكونة من 30 مهاجرا، بينهم امرأتان حبليان، زُج بهم في رحلة سفر لا يقل عن نحو 560 كيلومترا في عمق الصحراء.
هذه المعاناة رواها فرانسوا وتم التحقق منها من خلال مطابقة نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) على هاتفه مع الصور، ومقاطع الفيديو التي التقطها خلال 9 أيام من التجوال.
وهذا مثال على الممارسات الصارمة التي تقوم بها 3 دول، على الأقل، في شمال أفريقيا لإيقاف المهاجرين من جنوب الصحراء الكبرى عن محاولة العبور إلى أوروبا.
وقد كانت هذه الرحلة موضع تحقيق مشترك أجرته صحيفة واشنطن بوست و"لايتهاوس ريبورتس"، ومجموعة من وسائل الإعلام الدولية على مدار عام كامل.
شراكات قوية ضد الضعفاءيتناول التحقيق دعم وتمويل الاتحاد الأوروبي وبعض دوله عمليات تقوم بها حكومات في شمال أفريقيا، تتضمن احتجاز عشرات الآلاف من المهاجرين كل عام، ووضعهم في مناطق نائية، وغالبا ما تكون صحاري قاحلة.
وتظهر سجلات ومقابلات كشفها التحقيق أن الأموال الأوروبية استُخدمت لتدريب الأفراد وشراء المعدات لوحدات متورطة في انتهاكات حقوق الإنسان.
ووفق التحقيق المشترك تم إرجاع المهاجرين إلى المناطق الأكثر قسوة في شمال أفريقيا، والتخلي عنهم دون طعام أو ماء، مع مواجهة أخطار أخرى من قبيل التعذيب حتى الموت.
وبحسب الشهادات والوثائق، قامت قوات الأمن الإسبانية في موريتانيا بتصوير ومراجعة قوائم المهاجرين قبل نقلهم إلى مالي رغما عنهم، وتُركوا في العراء لعدة أيام بمنطقة تنشط فيها جماعات مسلحة.
وفي موريتانيا والمغرب وتونس، قامت مركبات بجمع المهاجرين السود من الشوارع ونقلهم بالإضافة لمن في مراكز الاحتجاز إلى المناطق النائية، وفقا للقطات مصورة وصور تم التحقق منها إلى جانب شهادات المهاجرين ومقابلات مع المسؤولين.
وهذه المركبات من نوع وطراز مركبات سبق أن قدمتها الدول الأوروبية لقوات الأمن المحلية في هذه البلدان.
وقد قدم الاتحاد الأوروبي أكثر من 400 مليون يورو لتونس والمغرب وموريتانيا بين عامي 2015 و2021، في إطار أكبر صندوق للهجرة، يُسمى "الصندوق الائتماني للطوارئ من أجل أفريقيا"، وهو مبادرة لتعزيز النمو الاقتصادي المحلي ووقف الهجرة غير النظامية.
ولمواجهة موجة الهجرة غير النظامية العام الماضي، تحركت أوروبا لتعميق شراكاتها في شمال أفريقيا، حيث قدمت 105 ملايين يورو إضافية لتونس.
كما وقعت أوروبا اتفاقا في فبراير/شباط الماضي مع موريتانيا، يتضمن منحها 210 ملايين يورو إضافية.
معلومات وأدلة
يركّز التحقيق على تونس والمغرب وموريتانيا، وهي 3 دول لديها علاقات عميقة مع الاتحاد الأوروبي.
يستند التحقيق إلى معلومات مباشرة من الصحفيين، وتحليل الأدلة البصرية، ورسم الخرائط الجغرافية المكانية، والتحليلات الداخلية للاتحاد الأوروبي مع وثائق ومقابلات مع 50 مهاجرا "كانوا ضحايا المكبات الصحراوية" بالإضافة إلى مسؤولين أوروبيين وشمال أفريقيين، وغيرهم من الأشخاص المطلعين على العمليات.
ومثل فرانسوا، وافق العديد من المهاجرين على التحدث بشرط عدم ذكر أسمائهم خوفا من الانتقام.
في تونس، تم استخدام الأدلة المرئية والشهادات للتحقق من 11 مكبا بشريا، يضم كل منها ما يصل إلى 90 مهاجرا في الصحراء، بالقرب من الحدود مع ليبيا والجزائر، بالإضافة إلى حالة واحدة تم فيها تسليم المهاجرين إلى مسلحين ليبيين.
وأفادت تقارير بمقتل ما لا يقل عن 29 شخصا، وفقدان العشرات بعد إلقائهم أو طردهم من تونس على الحدود الليبية، وفقا لبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا ومنظمات إنسانية.
إن الاتحاد الأوروبي، بموجب قوانينه الخاصة وكذلك المعاهدات الدولية، ملزم بضمان إنفاق أمواله بطرق تحترم حقوق الإنسان الأساسية.
لكن المفوضية الأوروبية أقرت بأن تقييمات حقوق الإنسان لا يتم إجراؤها عند تمويل مشاريع إدارة ملف المهاجرين في الخارج.
وقال متحدث باسم المفوضية الأوروبية، في بيان، إن مساعدات إدارة المهاجرين لدول شمال أفريقيا تهدف إلى مكافحة الاتجار بالبشر و"الدفاع عن حقوق" المهاجرين. وأضاف أن الكتلة تسعى إلى مراقبة البرامج من خلال بعثات التحقق الفوري وفرق المراقبة والتقييمات الخارجية.
وتظهر السجلات والمقابلات أن الأموال الأوروبية استخدمت لتدريب الأفراد وشراء المعدات للوحدات المتورطة في المكبات الصحراوية، وانتهاكات حقوق الإنسان.
النقل إلى الصحراء.. الردع القوي
لكن المساءلة عن كيفية استخدام المعدات والتمويل كثيرا ما يكون غامضا، ويعترف كبار المسؤولين الأوروبيين سرا بأنه من "المستحيل" تنظيم كل الاستخدامات.
وفي تعليقاتها أمام المشرعين الأوروبيين في يناير/كانون الثاني، اعترفت مفوضة الشؤون الداخلية في الاتحاد الأوروبي إيلفا جوهانسون بتقارير عن وجود مكبات بشرية في الصحراء في بلد واحد على الأقل، هو تونس.
قالت جوهانسون إنها لا تستطيع أن تؤكد توقف هذه الممارسة، لكنها نفت بشكل قاطع أن يكون الاتحاد الأوروبي "يرعى" إساءة معاملة المهاجرين أو ترحيلهم من خلال الدعم المالي.
كذلك، نفى مسؤولون كبار في تونس والمغرب وموريتانيا التمييز العنصري وإلقاء المهاجرين في المناطق النائية، وأصروا على احترام حقوق المهاجرين.
وقال مسؤولون في تونس وموريتانيا إن بعض المهاجرين أُعيدوا أو تم ترحيلهم عبر حدود بلدانهم القاحلة.
وقالت ماري لور باسيليان غاينشي -خبيرة في حقوق الإنسان وقانونية في جامعة جان مولان ليون 3 الفرنسية- إن "الحقيقة أن الدول الأوروبية لا تريد أن تكون لديها أيادٍ قذرة، إنها لا تريد أن تُتهم بانتهاك حقوق الإنسان، لذا فإنها تتعاقد من الباطن على هذه الانتهاكات مع دول أخرى. لكنني أعتقد، بموجب القانون الدولي، أنها مسؤولة".
ويقول محللون ومسؤولون سابقون إن الهدف من العمليات في شمال أفريقيا واضح، وهو الردع. ويضيف أحد المقاولين الذين عملوا في المشاريع الممولة من قِبل الاتحاد الأوروبي "عليك أن تجعل الحياة صعبة بالنسبة للمهاجرين".
وقال الشخص، الذي طلب حجب اسمه حتى لا يعرّض العقود المستقبلية للخطر، "إذا كان مهاجر من غينيا موجودا في (أحد هذه البلدان) وأخذته إلى الصحراء مرتين، ففي المرة الثالثة يطلب العودة الطوعية إلى وطنه".
ووفق ما توصّل له التحقيق، فإن العمليات المناهضة للمهاجرين غالبا ما تتضمن ملاحقات أو مداهمات عشوائية في الشوارع على أساس التمييز العنصري، وهو ما تم الاعتراف باستخدامه في الاتحاد الأوروبي.
لكن وزارة الداخلية المغربية قالت، في بيان، إن مزاعم التمييز العنصري في عمليات ترحيل المهاجرين "لا أساس لها من الصحة"، وأضافت أن المهاجرين تم نقلهم فقط لحمايتهم من "شبكات الاتجار"، ومن أجل "زيادة الحماية".
وأضافت أن "الدعم الفني" الأوروبي لإدارة ملف المهاجرين كان "ضئيلا مقارنة بالجهود والتكاليف التي تكبدتها بلادنا".
لقد كشف التحقيق أن الصحراء بمثابة عقوبة متكررة وخطيرة على نحو متزايد للمهاجرين الذين يجرؤن على عبور البحر إلى أوروبا.
وكان فرانسوا، الكاميروني البالغ من العمر 38 عاما، قد انطلق 4 مرات في قوارب مكتظة من الساحل التونسي، على أمل الوصول إلى أوروبا، وفي المرات الأربع، تم رده من البحر إلى اليابسة.
يقول فرانسوا إنه شهد 3 مرات علميات رمي مهاجرين على الحدود الجزائرية التونسية المقفرة، ويضيف أنه ورفاقه يتوسلون للحصول على الخبز والماء، ويحصلون عليهما في بعض الأحيان.
ويروي أنهم بعد تعرضهم لاعتداء عنيف في إحدى القرى، خرجوا للطريق "في وسط الصحراء، ينظرون يمينا ويسارا، ولا يرون شيئا.
المكب البشري بتونس.. فتش عن ألمانيا وإيطاليا
روايات الشهود والصور التي استعرضتها صحيفة واشنطن بوست تتحدث عن وجود الحرس الوطني التونسي في "مركز عمليات المكب (البشري) الصحراوي".
وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى أنه بين عامي 2015 و2023، نشرت الشرطة الفدرالية الألمانية 449 موظفا، وأنفقت أكثر من مليون يورو لتدريب ما يقرب من 4000 من الحرس الوطني التونسي.
ومع استمرار عمليات المكب في نوفمبر 2023، تم افتتاح مركز تدريب على إدارة الحدود بقيمة 9 ملايين يورو في تونس، بتمويل من النمسا والدنمارك وهولندا.
وقال فرانسوا "أعتقد أن تونس ليست مسؤولة عما يحدث. الاتحاد الأوروبي لا يحبنا. لماذا يُنظر إلى الرجل من جنوب الصحراء الكبرى على أنه قمامة؟".
وأقر الرئيس التونسي قيس سعيد مؤخرا بوجود "تنسيق مستمر لإعادة المهاجرين إلى الدول المجاورة"، وأكد أن القوات العسكرية التونسية تتدخل لوقف الهجرة غير الشرعية. وقال في وقت سابق "تونس لن تكون مكانا لهم، وتونس تعمل على ألا تكون نقطة عبور لهم".
وأدت التكتيكات التونسية إلى تراجع الأعداد على طريق وسط البحر الأبيض المتوسط، وشهد هذا الطريق انخفاضا بنسبة 59% في عدد الوافدين في الربع الأول من هذا العام.
وشددت وزارة الخارجية التونسية، في بيان لها، على أنها تدعم حقوق المهاجرين، ولا تطردهم إلا "طوعا" وبعد ذلك فقط تعيدهم إلى بلدانهم الأصلية.
ورفضت الوزارة جميع الروايات الواردة في هذا التحقيق، والتي قدمها المهاجرون ضد قوات الأمن التونسية، ووصفتها بأنها تحريضية.
وأعلنت الوزارة عن تنفيذ 2718 عملية خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام الحالي، وقالت إنها "أنقذت" و"منعت" 21 ألفا و545 مهاجرا من عبور البحر إلى أوروبا، وأوقفت 21 ألفا و462 آخرين من "التسلل إلى الأراضي التونسية" برا.
وقالت رئيسة الوزراء الإيطالية اليمينية المتشددة جيورجيا ميلوني، خلال زيارة إلى تونس في أبريل/نيسان الماضي، إن هذا التعاون يحقق العديد من النتائج، مشيدة بجهود سعيّد.
انتهاكات في موريتانيا بشراكة مع إسبانيا
وفي موريتانيا، قام المسؤولون الإسبان بتوفير المركبات لنقل المهاجرين، والمساعدة في الاعتراضات البحرية، "وشن غارات على المهاجرين ومهربي البشر، وتمويل مراكز احتجاز جديدة"، وفقا للمقابلات مع المسؤولين الموريتانيين ومقاطع الفيديو الترويجية الإسبانية.
ووفق التحقيق، فإنه وبتواطؤ من إسبانيا في يناير/كانون الثاني، نُقلت إيدياتو (23 عاما) وبيلا (27 عاما)، وهما صديقتان من غينيا، إلى مركز احتجاز المهاجرين في نواكوشط، وهو عبارة عن مجموعة من المباني المحاطة بأسوار شديدة، بعد محاولة فاشلة للعبور بحرا إلى ليبيا ومنها إلى إسبانيا.
وأصبح المركز نقطة تجميع يستخدمها المسؤولون الموريتانيون قبل نقل المهاجرين إلى الحدود البعيدة مع مالي، وغالبا ما يكون ذلك دون طعام أو ماء، وفقا لمقابلات مع محتجزين وعمال إغاثة.
وقال شخص مطلع على حبس إدياتو وبيلا إن اثنين من مسؤولي الشرطة الإسبانية قاما بتصوير المرأتين أثناء احتجازهما. ووفقا للشخص، الذي تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته خوفًا من الانتقام، قام الضباط أيضا بمراجعة قائمة السجناء الذين تم ترحيلهم لاحقا إلى مالي.
كما هو الحال مع المهاجرين الآخرين الذين تمت مقابلتهم في هذا التحقيق، قالت السيدتان إنهما حُرمتا من الإجراءات القانونية الواجبة.
وفي إحدى المقابلات، تذكرت النساء رؤيتهن الضباط "البيض"، الذين أخبرهن المسؤولون الموريتانيون أنهم من الشرطة الإسبانية قبل نقلهم إلى حافلة الترحيل.
ولاحظ مراسلون على الأرض سيارة تويوتا كوستر بيضاء ذات نوافذ معتمة، وتبعت حافلة الترحيل لمسافة 16 كيلومترا على طول الطريق السريع المؤدي إلى مالي.
وقد تم شراء العديد من المركبات التي تستخدمها السلطات الموريتانية لاحتجاز وترحيل المهاجرين بأموال إسبانية، وفقا لمسؤول أوروبي كبير تحدث بشرط عدم الكشف عن هويته.
وقام الصحفيون بتصوير شاحنات صغيرة من طراز تويوتا تدخل وتخرج من مرافق الاحتجاز، وهي من نوع وطراز مركبات قدمتها وكالة التنمية ووزارة الداخلية الإسبانيتان لموريتانيا.
وذكرت وثيقة مسربة للمفوضية الأوروبية تعود لعام 2023 أن المفوضية أجرت مقابلات مع أكثر من 300 شخص تم ترحيلهم من موريتانيا إلى غوغي في مالي.
وثيقة البرلمان الأوروبي قالت إن طالبي اللجوء والمهاجرين في موريتانيا يواجهون عمليات طرد جماعي تعسفية إلى السنغال ومالي، والترحيل دون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة.
وردا على طلب تفصيلي للتعليق، لم تؤكد وزارة الداخلية الإسبانية أو تنفي علمها بالمكبات الصحراوية، واستخدام المركبات المشتراة بأموال إسبانية في تلك العمليات، أو أن ضباطها كانوا في مركز احتجاز يوثقون ترحيل المهاجرين قسرا.
واعترفت الوزارة بأن إسبانيا نشرت قوة قوامها حوالي 50 ضابطا من الشرطة والحرس المدني في موريتانيا "للتحقيق وتفكيك مافيا الاتجار بالبشر".
وقالت الوزارة إن تلك القوات تعمل "باحترام كامل لحقوق الإنسان والحريات" للمهاجرين، ونفت وكالة التنمية الإسبانية علمها بوجود مكبات بشرية، وقالت إن ضباط الشرطة الإسبانية العاملون في برامجها بموريتانيا "لم يشهدوا قط أي تصرفات من قِبل الشرطة الموريتانية تنتهك حقوق الإنسان".
وقالت الوكالة إن هؤلاء الضباط نفوا أيضا تصوير "أي مهاجرين في أي مركز".
وردا على سؤال حول ضباط الشرطة الإسبانية في مركز الاحتجاز، قال المتحدث باسم الحكومة الموريتانية الناني ولد اشروقة إن الاتفاقية الثنائية مع مدريد "تنص على عدد من الالتزامات المتبادلة، بما في ذلك تبادل المعلومات في مجال مكافحة الهجرة غير القانونية مع احترام خصوصية الأفراد وحماية بياناتهم الشخصية".
وقال إن المهاجرين الذين يحاولون عبور البحر إلى أوروبا يتعرضون للترحيل، لكنه نفى الادعاءات بأن المهاجرين في موريتانيا تعرضوا لسوء معاملة. وأضاف أنه يتم تسليم أولئك الذين يتم ترحيلهم إلى "السلطات المختصة" في "المراكز الحدودية الرسمية" قبل نقلهم لبلدانهم الأصلية.
وذكر أن المهاجرين لا يُعادون إلا إلى بلدانهم الأصلية.
لكن المرأتين من غينيا قالتا إن القوات الموريتانية تركت مجموعتهما في جزء مقفر وغير مأهول بالسكان من الحدود مع مالي، ثم "طاردتهم" نحو الحدود "مثل الحيوانات" وساروا لمدة 4 أيام حتى وصلوا إلى قرية في مالي، حيث رتبوا في النهاية رحلة إلى أحد أقاربهم في السنغال.
وقالت بيلا "لو كنت أعرف أن كل هذا سيحدث، لما حاولت الذهاب إلى أوروبا. أقسم أنني لن أفعل ذلك. لأننا عانينا كثيرا، ليس لدينا شيء".
قصة بيع مهاجرين في ليبيا
ويعاني بعض المهاجرين المحتجزين من مصائر أسوأ، حيث يتذكر موسى -مهاجر من الكاميرون يبلغ من العمر 39 عاما- أنه كان يختبئ في رمال الصحراء مع رجال سود آخرين على الحدود الليبية التونسية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
ويروي أنه تم القبض على المهاجرين من جنوب الصحراء الكبرى في شوارع صفاقس التونسية، وإجبارهم على ركوب شاحنات من نوع نيسان بيضاء عليها شعار الشرطة الوطنية التونسية.
وفي موقع لحرس الحدود على الطرق الوعرة، قال موسى إنه شاهد رجال المليشيات الليبية وهم يسلمون حقيبة إلى أحد المسؤولين التونسيين.
لقد خمن ما سيؤكده خاطفوه الليبيون الجدد في وقت لاحق "لقد تم بيع المهاجرين". وأكد ابن عم موسى، وهو كاميروني يبلغ من العمر 20 عاما وكان معتقلا معه، روايته.
كما استعرض التحقيق شهادات تتضمن ادعاءات مماثلة قدمها مهاجرون آخرون لمنظمة "أطباء بلا حدود".
وفي تونس، تمتلك قوات الأمن ما لا يقل عن 143 شاحنة صغيرة من طراز نيسان نافارا قدمتها إيطاليا وألمانيا بين عامي 2017 و2023 "لمحاربة المتاجرين بالبشر" أو "مكافحة الهجرة غير القانونية والجريمة المنظمة"، وفقا للمنشورات على حسابات تلك الدول بفيسبوك.
وقال موسى وابن عمه إنهما أُجبرا، مع مهاجرين آخرين، على ركوب سيارة من النوع والطراز نفسهما.
وقد تحققت صحيفة واشنطن بوست من عدة مقاطع فيديو تظهر نفس سيارات نيسان تشارك في عمليات احتجاز أخرى للمهاجرين في صفاقس.
ورفضت السلطات الإيطالية التعليق على هذا الموضوع.
لكن وزارة الداخلية الألمانية اعترفت بالعلم بعمليات نقل محدودة للاجئين ومهاجرين إلى المنطقة الحدودية الليبية التونسية، والجزائرية التونسية في صيف عام 2023.
وقالت إن برلين "أوضحت مرارا وتكرارا للشركاء التونسيين "أن حقوق الإنسان للمهاجرين يجب أن تُحترم"، واصفة القضية بأنها "موضوع نقاش عادي".
وقال موسى إنه بعد بيعه لرجال مليشيا بملابس مدنية يحملون بنادق آلية، تم نقله إلى سجن صغير ذي أرضية ترابية في موقع "العسة" الليبي، على بُعد حوالي 56 كيلومترا جنوب المعبر الحدودي الساحلي في رأس أجدير.
وهناك، تم تكديس ما يقرب من 500 مهاجر، وطلب منه الوسطاء تقديم رقم هاتف لعائلته في الكاميرون، التي طُلبت منها فدية.
وتفاخر أحد الحراس بأن موسى وغيره من المهاجرين قد تم شراؤهم بمبلغ 20 دينارا تونسيا لكل منهم، أي ما يزيد قليلا عن 6 دولارات، وفق روايته.
يقول موسى إنه كان يتم إطعامهم مرة واحدة يوميا، حيث كانوا يتدافعون للحصول على المعكرونة المقدمة لهم.
وأضاف أنه وغيره من المهاجرين تعرضوا للضرب بشكل متكرر، وفي حديثه عبر الفيديو من مدينة ليبية، أظهر ندوبا على قدميه.
ولإبقاء المهاجرين في الطابور، كان خاطفوه يطلقون النار في بعض الأحيان بشكل عشوائي من أسلحتهم، وفق شهادته.
وقال موسى إنه شهد وفاة 3 مهاجرين متأثرين بجروح ناجمة عن رصاصات طائشة.
وتم إطلاق سراح موسى بعد أن دفعت والدته ألف دولار ثمنا لحريته، وقد أكدت الوالدة رواية ابنها، وقالت إنها أمضت شهرين في جمع مبلغ الألف دولار.
ويضيف موسى أنه لم يكن قادرا على الاستحمام أثناء الحبس، وخرج مصابا بالجرب والقمل، وبعد دفع الفدية عنه تم نقله إلى مدينة ليبية ساحلية، حيث يعمل الآن في وظائف غريبة لدى أصحاب عمل مختلفين.
يقول الشاب الكاميروني إن بعض مشغليه يلوحون بالسلاح بعد انتهاء عمله، ثم يرفضون دفع أجره، مضيفا أنه يفتقر إلى الوسائل اللازمة لمغادرة ليبيا.
ويختم بالقول "إن ما يفعلونه بنا لا يزال يمثل نظام العبودية. إنهم لا يحترمون البشر، ولا يحترمون الرجل الأفريقي".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الشرطة الإسبانیة الاتحاد الأوروبی فی شمال أفریقیا وزارة الداخلیة المهاجرین إلى المهاجرین فی فی موریتانیا حقوق الإنسان من المهاجرین مهاجرین فی إلى أوروبا الهجرة غیر البحر إلى وقالت إن موسى إنه من العمر فی تونس قالت إن
إقرأ أيضاً:
الأحياء التخليقية.. نماذج بشرية
أ. د. حيدر أحمد اللواتي **
يطرحُ بعض المُراقبين تحديات اجتماعية من المُتوقع أن تُوَاجِه البشرية جرّاء السماح بتطبيق تقنيات الأحياء التخليقية على البشر؛ إذ يُشيرون إلى مشكلة عدم تكافؤ الفرص؛ لأنَّ الأفراد في الدول المُتقدِّمة والمُتمكِّنة اقتصاديًا سيحصلون على فرص كبيرة لإجراء هذه التغييرات، بينما سيُحرم الأفراد في الدول الفقيرة من ذلك؛ وسيؤدِّي ذلك إلى فوارق جِينِيَّة على المستوى البشري؛ فهناك بشر لديهم جينات قوية وأكثر قدرة على التأقلم مع البيئة ومقاومةً للأمراض، بينما هناك آخرون لا يملكون مثل هذه الجينات المُتطوِّرة، وسيؤدي ذلك إلى أبشع صور الاستغلال!
ومما يزيد من فرص حدوث هذا النوع من الفوارق الجينية أنَّ عددًا من الدول الغنية كالسويد والنرويج والدنمارك، قد تسمح باستخدام هذه التقنيات وتنتشر في مجتمعاتها بشكل أسرع؛ وذلك لانعدام القيود الدينية تقريبًا في تلك المجتمعات الغنية. ولا بُد من الإشارة إلى أنَّ عمليات اختيار الأجنة بناءً على الخارطة الجينية للجنين، أصبح معمولًا به في عدد من الدول، ويُوَفِّرُه عددٌ من الشركات المُتخصِّصة في مجال قراءة الخارطة الجينية؛ فعملية التخصيب الصناعي في العادة تؤدي إلى تخصيب عدد من البويضات، وبالتالي ومن خلال قراءة الخارطة الوراثية لتلك الأجنة المُتكوِّنة، يتم اختيار الجنين الأصلح، والذي يتميز بخارطة جينية أفضل.
ولا يقتصر الأمر على هذا النوع من البحوث العلمية؛ بل هناك من البشر من جرت "هندسته جِينِيًّا"، لكن هذه العمليات ما زالت محدودة من حيث أعدادها، ولا يُعرَف آثار هذه العمليات، فمثلًا هناك تقنية تُعرف بتقنية الآباء الثلاثة، وقد تمت هذه العملية بنجاح في عام 2016، لزوجيْن أردنيين؛ إذ كانت الزوجة مُصابة باضطراب وراثي يُعرِّض الجنين لاحتمال الإصابة بمرض مُعين بنسبة عالية جدًا، ولحماية الجنين من الإصابة بهذا المرض الوراثي تم أخذ النواة من بويضة الأم المصابة بالمرض الوراثي، ونقَلها إلى بويضة امرأة سليمة سبق نزع نواتها، وبذلك غدت هذه البويضة تحملُ صفاتٍ من امرأتين مختلفتين، وبعد ذلك تمَّ استخدام هذه البويضة في التلقيح الصناعي، وقد تمَّت العملية بنجاح في المكسيك؛ وذلك لأنها لم يكن مسموحاً بها في الولايات المتحدة.
وكما هو واضح فإنَّ نسبة من الجينات- وإن كانت بسيطة للغاية والتي تُقدَّر بأنها أقل من 0.1%- جاءت من الأم المُتبرِّعة بالبويضة، ولذا تُطلق على هذه التقنية "تقنية الآباء الثلاثة"، وقد استُخدِمَت بنجاح أيضًا في بريطانيا عام 2023.
لكنَّ الحدث الأكثر خطورةً وإثارة كان في الصين، وذلك عام 2018، عندما أعلن الطبيب الصيني ولادة أول طفلتين تم هندسة خارطتهما الجِينِيَّة، وذلك بهدف حمايتهما من مرض "الآيدز" الذي كان الأب مُصابًا به، وقد أدّى هذا الإعلان إلى موجة من الشجب والاستنكار، كما تم حبس الطبيب لمدة 3 سنوات لإقدامه على عمليات غير مُرخَّص لها، لكنَّ الطفلتين وُلِدَتَا وهُمَا بكامل صحتهما، وتُعدان أول طفلتين تعرضتا لهندسة جينية وتغيير جيني كبير نسبيًا.
وتُشير بعض الدراسات إلى أن الجينات التي تم هندستها تؤثِّر أيضًا على القدرات الدماغية لهما؛ إذ تقوم بتحسين ذاكرتهما، وترفع مستوى الذكاء عند الطفلتين، وما زالت الطفلتان على قيد الحياة وتعيشان مع أسرتيهما.
إنَّ طبيعة هذه التقنيات أنها تنتشر، بغض النظر عن الحواجز الموضوعة أمامها. وعلى الرغم من المحاولات التي بذلتها الدول المختلفة لمنع انتشار السلاح النووي، إلّا أن هذه المحاولات لم تنجح، وانتشرت هذه الأسلحة. وكذلك الحال مع الأسلحة البيُولوجية والكيميائية، ولذا فإن الوقوف أمام أمواج التقنيات التي تغزو عالمنا لا يُجدي نفعًا في غالب الأحيان.
ومن هُنا، يرى البعض أن اختراع التقنيات وتطويرها لم يَعُد التحدي الذي يواجه البشرية، إنما التحدي يكمُن في السيطرة على التقنيات، بحيث تظل في مجالات مُعيَّنة تُفيد المجتمعات البشرية ولا تضرُّها، وهذا يرتبط ارتباطًا وثيقًا بثقافة المجتمعات التي تُطوِّر التقنيات والمبادئ والقيم التي تُؤمِن بها، ومن هُنا فإن التقنيات التي يتم إنتاجها في الغرب إنما هي نتاج الثقافة والقيم الغربية، لكنها تؤثر بشكل كبير جدًا على سلوكنا وعلى طريقة تفكيرنا، بحيث غدت أجيالنا اليوم نتاج هذه التقنيات سلوكًا وتفكيرًا، بقدر كَوْنِ هذه التقنيات منتجات لعقول البشر التي انتجتها.
وأخيرًا.. من الخطأ النظر إلى هذه البحوث العلمية على أنها تَرَفٌ فكريٌ؛ بل هي بحوث سيكون لها بالغ الأثر علينا في المستقبل القريب، ولربما ستغدو جزءًا من الاستراتيجية الأمنية لبعض الدول؛ إذ بدلًا من استخدام الآلة الحربية للتخلص من الأعداء، فإنَّ التقنية الحيوية قد تُوفِّر بديلًا طبيعيًا ودون الحاجة إلى خوض حروب طاحنة، ولذا رُبما نشهد في هذا القرن نهاية الانسان بنسخته الحالية؛ لتُنتَج منه نسخةٌ مُطوَرةُ من فصيل "الإنسانيات"، لكن هذه المرة بانتخابٍ بشريٍ وبأجندة سياسية لا بانتخاب الطبيعة!
* سلسة من المقالات عن تاريخ علوم الحياة وحاضرها وفلسفتها والتقنيات القائمة عليها
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس
رابط مختصر