الثورة نت:
2025-03-09@21:43:52 GMT

بين يدي اليمن الواحد

تاريخ النشر: 24th, May 2024 GMT

أضحت الوحدة الاندماجية التي حدثت بين شطري الوطن عام 90م قضية وطنية بالغة التعقيد، فالحديث عن أهميتها واستراتيجيتها وأثرها لم يعد حديثاً مجدياً بعد أن تركت الصراعات وحرب صيف 94م ظلالاً قاتمة على واقعها وتصاعدت دعوات فك الارتباط واتسعت قاعدتها الجماهيرية ومبرراتها الموضوعية، ذلك أن الحروب لا تترك إلا جرحاً غائراً في العمق النفسي، ولن تخفي بين جذوات انتصاراتها إلا رماداً قد يشتعل في لحظة تاريخية فارقة كالذي حدث تحت سماء الربيع العربي، حيث أن الشعور بالظلم والانكسار والهزيمة شكل دافعاً مهماً في عملية التحول في المواقف التي شهدها اليمن، فالذين كانوا يجرمون القول بالانفصال أصبحوا الآن أكثر تقبلاً له، والذين كانوا يدعمون الحراك ويتعاطفون معه أصبحوا الآن أكثر ضيقاً بطرحه إلى درجة الصدام الدامي والمواجهة المسلحة في أكثر من مكان، ولم يكن مثل ذلك إلا نتائج منطقية لمقدمات كان الاستبداد والاستفراد أبرز مظاهرها.


ويمكن أن يقال أن فقدان القيمة والمعنى والشعور بفقدان القوة عوامل نكوص وانكسار تعمل على إيقاظ الهويات التاريخية المتناثرة، وهي عوامل تشظي تفت في عضد الوحدة الوطنية وتساعد على إنتاج كيانات متصارعة، وهو الأمر الذي يمكن قراءته في تجليات المرحلة ومظاهرها ومناخاتها الثقافية والسياسية، فالقضية الجنوبية أصبحت حقيقة لا يمكن القفز على مفردات وجودها وهي جزء من قضية وطنية كبرى ذات أبعاد وأشكال متعددة تركتها مناخات الصراعات منذ أكثر من نصف قرن من الزمان، والوقوف أمامها يتطلب نقداً ذاتياً ورؤية تصالحية مع التاريخ.
ما لا يدركه فرقاء العمل السياسي الوطني أن الربيع العربي الذي يتباهى به الكثير منهم عمل على التفكيك الذي عزز من الهويات التاريخية والثقافية وأنتج كيانات في ظاهرها الجدة والعصرنة، وفي كوامن جوهرها الامتدادات التاريخية التي تحاول إعادة التكيف مع الواقع الجديد، ولن تكون تلك الكيانات الجديدة إلا كيانات متصارعة تبحث عن الوجود والبقاء والحفاظ على القيمة والمعنى.. وفي ظني أن غياب المشروع الحضاري الجامع سيكون سبباً في ملء الفراغات التي تشتهي الامتلاء، فغياب المشروع لا يدل على ربيع عربي بل سيكون دالاً على عدميته، والعدمية لا تنتج إلا عدماً مثلها وتشظياً، يتناثر على إثرها الوطن إلى دويلات متعددة وهذا ما قال به الواقع بعد أكثر من عقد ونيف من الزمان على حدوثه .
فالوحدة بالمعنى الجزئي في الجنوب لا يتجاوز عمرها 23 عاماً (1967م – 1990م)، وبالمعنى الكامل (90-2024م) لا يتجاوز عقدين من الزمن أما عقدها الثالث فقد قضته في صراعات وحروب واضطرابات أمنية دون استقرار، ومثل هذا التراكم البسيط لن يحقق استقراراً لاستحكام العامل التاريخي والثقافي فيه، لذلك فالتقسيم الإداري الذي يراعي التجانس التاريخي والثقافي هو الخيار الأمثل لأمن واستقرار ونماء هذا اليمن، ولن يكون التقسيم الجديد حلاً في حد ذاته إلا إذا تكامل مع قيم ومبادئ الدولة المدنية الحديثة التي تضمن تكافؤ الفرص وتحقق عدالة التوزيع ويعمل على المساواة ويعزز ويقدس سيادة القانون ويعمل على تحديث البنى الاجتماعية والثقافية، فالبنى القبلية يجب أن تحل محلها البنى المؤسسية، ووعي الغنيمة يجب أن ينزاح إلى وعي الإنتاج، والتراث الفكري يجب أن يُقرأ بوعي الحاضر، ومثل ذلك يتطلب عملاً مضاعفاً وتكاملياً، ونحسب أن المناخات العامة مهيأة لقرع نواقيس البداية فيه، فالتعدد في وسائل الاتصال واتساع الأفق المعرفي يجعل المهمة أيسر مما كانت عليه في الماضي، فالفراغ الذي تركه هذا الربيع يجب أن يُملأ بمفاهيم مدنية وحداثية، وعلى المثقف الحقيقي أن يستعيد دوره الجماهيري ويستعيد سلطته التي صادرها عليه السياسي لتكون الحياة أكثر نمواً وتطلعاً ورغادة عيش.
لقد مارس الواقع قمعاً وإرهاباً فكرياً ونفسياً واجتماعياً توارى على إثر ضرباته المثقف الحقيقي ليبحث عن قيمته في ذاته ولم يجدها، ورأينا كيف أنّ ذلك الواقع لم ينتج مثقفاً نوعياً يكون امتداداً للجاوي والبردوني والمقالح، وغياب المثقف الحقيقي دال على غياب البعد الحضاري، إذ أن ثمة تلازماً عضوياً بين البعد الحضاري والنهضة الفكرية والثقافية والإبداعية، وسياقات التاريخ تحدثت عن ذلك التلازم، فالبعد الحضاري لم يكن إلا نتيجة لمقدمات موضوعية ومنطقية، واستقرار الأوطان يظل رهن وعي نخبها، ويقظة الهويات التاريخية لن تكون إلا رهن الممارسات الخاطئة التي تقوم بها الأنظمة، لذلك فإن دعوات فك الارتباط ليست إلا نتيجة لمقدمات خاطئة، واتساع دائرة تلك الدعوات من الجنوب إلى تهامة، سوف يضاعف من الشعور بالتفرد والاستقلالية ويضاعف من الإحساس بالضيق بالآخر، وهو الأمر الذي يصطلح عليه بـ«تجزئة الهوية الوطنية» ومظاهر تجزئة الهوية دالة على وجود خلل في المنظومة الاجتماعية والثقافية والسياسية، لذلك فتفعيل دور المثقف الفرد والنوعي وتفاعله الإيجابي ومشاركته قد تخفف من وطأة الأحداث وتحد من امتدادها وتساعد في لملمة المتناثر لوعيه ولأهميته العضوية ولإدراكه لنتائج المقدمات والقرارات.
لقد أضحى اليمن على ريشة برق، إما أن يطير إلى المستقبل الآمن والمستقر بسرعة البرق، أو ينفجر ويتناثر بالسرعة ذاتها.. ، فالحوار في اعتقادنا صيغة إجماع توافقية نضمن من خلالها وجودنا وتفاعلنا المثمر والجاد مع المستقبل الآمن والمستقر الذي يتجاوز أخطاء المراحل ليصنع مرحلته، وليس مرجعية تضمن حل إشكالات الجماعات والأفراد التاريخية، ولعل قانون العدالة الانتقالية لابد أن يتكفل بحل كل الإشكالات التاريخية وفق رؤية تصالحية لا عقابية ، فاللحظة التاريخية عليها أن تجبّ ما قبلها، وقد أثبت هذا النهج نجاحه وتأثيره المتنامي على الأفراد والجماعات في تحقيق الانسجام والوئام والتفاعل مع المستقبل- كما في موضوع الطلقاء في فتح مكة- فإلغاء الآخر قضية غير منطقية لكون الإلغاء يصنع قوة مضادة ومناهضة لن تترك إلا أثراً مدمراً يهدد الحياة والسلم والاجتماعي، فكل دولة في التاريخ خلقتها الدولة التي سبقتها، وعلينا أن نتجاوز هذه الإشكالية التاريخية بالتأكيد والنص على الدولة المدنية الحديثة، التي تضمن للجماعات والأفراد حق الوجود وحق التعبير وتضمن عدالة التوزيع وتكافؤ الفرص، فالشرارة قد تصبح ناراً، وكل صغير قد يكبر، ودعوات فك الارتباط كانت صغيرة، فتجاهلناها وها هي تهدد الوطن اليمني بالانفصال، ولن يكون غيرها إلا مثلها إذا لم نتداركه من الآن.

المصدر: الثورة نت

كلمات دلالية: یجب أن

إقرأ أيضاً:

العودة إلى جلقني.. تواطؤ المثقف وتعلقاته

زرياب عوض الكريم

(نشرت في 14.8.2024 تحت عنوان جلقني الجريمة وتواطو المثقف)

في 13 أغسطس الجاري إقتحمت عصبة من شباب قوة الدعم السريع بلدة (جلقني) على ضفاف جنوب النيل الأزرق ، المستوطنة القروية الوادعة لإثنية الفولان Fulbe ، بغاية إقتياد عدد من فتياتهم المأثور سيرة جمالهن ، تمتعاً وتسرياًَ على قاعدة شائنة الجيش الياباني الغازي Women of comfort ، لكنهم واجهوا شجاعة لم يتوقعونها من الأهالي - المستضعفين في كل التوازنات ، الذين لم يسترخصوا دماءهم ، أو يروعهم التهديد والتخويف والمساومة بين أعراضهم و أرواحهم ، لم يروعهم قسوة الإثنية التي تزدري - الفولان- في ذهنيتها الشعبية وتسترخص كرامتهم وأعراضهم وأموالهم أفياءاً وأنفالاً تستحلهم بوصم الدونية الإثنولوجية ؟

إنسحب المقاتلين لائذين يطلبون فزع رفاقهم ، بمسرد أن الأسلحة البيضاء التي قاومت جنايتهم أسلحة مقاومة شعبية وبإفتراء تواجد قوة من الجيش النظامي في داخل البلدة ، السردية التكييفية التي باتوا يفترونها بين يدي كل صفعة مناطقية وجهوية لغرورهم القبلي و خيلاء إستعلائهم الماجن ، فكان التدوين الإنتقامي والتكتيك الدارج بقصف المكان الطاهر الذي اثخن جرحهم المكابر ، تشفياً أوقع مذبحة تجاوز ضحاياها من القتلى الثلاثين.

بعد ذيوع خبر المذبحة وإفتضاح الجريمة وتوالي البيانات والبينات بالشائنة عادت قوة أخرى لتغطية الجريمة الأولى والثانية بإجبارها السكان على الإدلاء بإعترافات مصورة لإنكار الواقعة جملة وتفصيلاً ، لا تزييف الرواية وحده، تحت تهديد السلاح.

ثم ماذا بعد؟

إرهاق الإنكار لم يأخذ مكتب العلاقات العامة الإستشاري في لندن وكمبالا للحماس إلى تكذيب الحقائق ، إمتدت الساعات تطوي أختها وشوكة الإنتظار ، ليظهر فيما يبدو أنهم إختاروا حيلة أو ميكانيزم التجاهل ، ميكانيزم التهوين من كرامة آلاف البشر الذين تدوسهم البنادق والسياط في نقاط التفتيش العسكرية (الإرتكازات) ولا ترى فيه العائلة السياسية للقوة شبه العسكرية ما يستحق الإهتمام والتصويب ماتضيفه لدائرة إرهاقها ، ما يستحق الإصغاء وعناء الإجماع أو إرهاق التحرك لتكييف همجية القبيلة وحيواتها القلقة ، أو أيضاً عزل قاعدة الكيتش - الفاقد الإجتماعي من قطاع الطرق ومجرمي البادية (الدامرة) عن اللحاق بهوامش المعركة لإدراك الغنيمة ، وتطويع نظامها الإجتماعي للحرب social Order الدارج منذ زمن (القيمان) في القرن السادس عشر - الغارات القبلية ، التي تستذهن قيم السلب والتنفل والتسري (الأسر القبلي للنساء).

إرهاق المكابرة - الممانعة الذهنية

لم يتكبد هذه المرة مثقف القبيلة ولا المثقفين المتواطئين ، جشاء الإغتسال من دمهم البارد ، من ميكافيليتهم السياسية ، فتكرار مسبحة الموتى وسلسال المذابح لن يتوقفان ، ببساطة جلقني الجريمة لا البلدة لم تحرجهم ! فقد توقفوا عن الحرج منذ وهلة ليست قريبة .. الوعي الباطن المتخن بجلد المثقف وأوبار السياسي الميكافيلي لم يعد يحتمل المسائلة وغباء الضحية.. ليتجرد متعرياً كما تعود أن يتعرى ولا تثقله قيود المجاملة والمساكنة والتعايش ، ليعود متخيراً إلى عزلته الطبيعية إلى كهف أوهامه المجردة. إلى صمته المزاجي وسكينته العصبية.

جلقني ليست مستوطنة ود النورة

مشكلة (جلقني) أنها ليست مستحيلة ، ليست عصية في أطياف حُلم مثقف القبيلة (الاشوس) وتعلقاته الطبقية نحو الآخر المستحيل ، نحو النموذج الأعلى (ترجمة جابر عصفور) ، نحو الثقافة العليا بتعبير شارلس تايلور الأصلي ، مثقف القبيلة المصدوم بحرقة مكبوتة ومكتومة من فقدان الفردوس الأصلي ، الذي تم حرمانه بقسوة من إرتياد الكمباوند - الكمبرادوري ، من أن يكون شمالياً ؟

اي مُركب عُقدة تلك ؟ عقدة أوديب أم عقدة إلكترا التي أصابت كل المهمشين المطوفين من قبل في ردهات الصدمة إن لم تكن قارعة الجنون؟ أهي ذاتها صدمة النبي الأعزل - تروتسكي والمهاتما الطريد - محمد احمد المهدي؟

حروب التخلص من مساومات نخب الهامش (السودان غير المفيد) في المينوبول (الخرطوم) منذ عبدالله تورشين 1885 مروراً بالتخلص من نخبة الخلاسيين (اولاد ريف) والكريول (الملكية) مزدوجاً 1924، مروراً بالتخلص من النخبة الجنوبية وفقرة الوضعية الخاصة للجنوب one state two regimes 1955 ، مروراً بالتخلص من إلتزامات أكتوبر 1964 في مذابح إنتهت بتصفية وليم دينق 1968 ، مروراً بالتخلص من إتفاقيات أديس أبابا 1972 ونيفاشا خلال حروب 2012 و1983 ، وحتى التخلص من تأثير وحضور شخصيات محسوبة على الهامش مثل حسن الترابي 1999 ، التي أجملها القاضي أبل الير في كتابه الأثير عن القوميين الشماليين ونقض العهود (التمادي في نقض العهود).

حروب التخلص من المساومة السياسية والمُشاركة في عقلية القوميين الشماليين والأنتلجنتسيا الكمبرادورية المحتكرة ، أصابت نخبة قوة الدعم السريع وإثنيته السياسية بالصدمة ، صدمة الإبعاد من النادي السياسي الكولونيالي (الفردوس النخبوي المفقود) ، تبعتها متلازمة ستوكهولم Stockholm فنزعت إلى شراء إعتراف النخبة الشمالية وصكوكها من خلال وثيقة الإتفاق الإطاري الذي لم يتفاوض عليه أحد ولم يناقشه احد ولم يتفق عليه الناس غض النظر عن أية محمدة في محتواه أو إشكالية النوايا السيئة وغير الحسنة في الأخذ به أو رده.

ماحدث في مستوطنة (كيبوتز) ود النورة الزراعي القروية ، التي يعكس وجودها المعماري من الأساس التفاوتات الهيكلية والإجتماعية في هذا البلد بين نموذج (الكيبوتزات) الذي تمثله - ود النورة و(الدامرات) التي تتعرض للقصف الجوي أو (الكنابي) في الفاو مثلاً التي تعرضت لتصفيات عنصرية دون إهتمام في بيانات حقوق الإنسان أو التعاطف الزائف والمطفف في أجندة النخبة التمييزية حتى في موت البشر وقتل الناس جملة.

التعقيب السياسي من - القيادة- , الإهتمام الإعلامي من الحاشية الذي حول مصادمة أهلية مسلحة مع قوات شبه عسكرية إلى مسألة رأي عام كإستثناء في الممارسة السياسية ودالة السلوك التنظيمي لقوة الدعم السريع نفسه ، رغم الخلفية الصدامية والصراعية للموضوع (رفض إثنية زبونية لمؤسسة المركز / الكمبرادور أو قبيلة الكواهلة تعييناً الخضوع لسلطة الأمر الواقع الجديدة) من خلال تبني مقاربة النظام الذي كانت حاضنة إجتماعية له في المقاومة المسلحة والعزل الإجتماعي لمجتمع الجنجويد بعيداً عن أي سياق علائقي لخطاب مظلومية مضادة.

كان ذلك جزءاً من محاولة إرضاء مجتمعات السودان المفيد أو المركز ، وتكريس إستثناءها وتفوقها الطبقي على بقية المواطنين في مكاييل الظلم والعدالة المطففة التي ظلت مجتمعات الهامش تتجرعها بألم وصمت وقور.

متلازمة ستوكهولم في تبني العائلة السياسية لقدس RSF لقضايا مجتمعات المركز وهمومها ومظلومياتها الحقيقية والمتوهمة ليس من باب السلم الأهلي الإجتماعي وتوازناته ، بل من باب كسب رضا تلك المجتمعات منذ 2019 ، في مقابل إزدراء الشعور الجمعي لمجتمعات (جلقني) و (أم روابة) اللتين سلطت عليهما اراذل مجتمعات المقاتلين - الكيتش وأطلقت أيديهم عبثاً وتقتيلاً من غير رقابة ولا عناية اللهم إلا تحكيم ضمائر أولئك السفاحين من مليشيات الإستطلاع (أم باقة) سيئة السمعة ، بأنفسهم.

تطفيف لا يمكن لعين تخطأته في المعاملة ! ، في ام روابة و جلقني سؤال (المعاملة كيف..؟) ليس مطروحا من أساسه ، لأن معايير القيادة ومن وراءها العائلة السياسية مختلة ومزدوجة فهي لا ترجوا ولا يروعهم ولاء البلدتين حتى يشغلا مساحة من هامش إنشغالاتهم الجمة.

لم تغادر سيكولوجية العائلة السياسية للقوة شبه العسكرية ونخبته الإجتماعية متلازمة ستوكهولم وهي تسعى بغير عزة ذات ، خلف المنابر التفاوضية مع دولة 1956 وحتى عن موائد التنازلات عن الدماء الزاكية وتضحيات المهمشين أولئك المقاتلين البواسل والاشاوس حقاً الذين قامت على اكتافهم حرب 15 إبريل في منابر جدة والمنامة ، بدلاً عن الحوار المجتمعي المفتوح مع الإثنيات الوطنية المقاومة والمحايدة من الصراع مع دولة مابعد الإستعمار وتعهد مشاعرهم الجمعية ومظلومياتهم من ممارسات الحرب ومصالحهم اليومية.

لم يغادروا ذلك ، حتى دخلوا في مرحلة أعمق تعقيداً ، في عزلة عن المجتمعات الوطنية ، وهم الذين ليسوا حديثي عهد بالحرب و الصراع مع المركز ، في صدمات طبعت موقفهم النفسي - البارد من مسألة الإنتهاكات ، متلازمة جوسكا (Jouska) أو - صراع العقل الغريب The Odd Mind Conflict الذي أصاب جزءاً كبيراً من مقاتلي الدعم السريع خصوصا من نشطاءه الشباب الذين انخرطوا حديثاً وحثيثا في محافل النخبة السياسية وصدمتهم الحرب أكثر مما صدمتهم مواقف مجتمعات المركز الزبونية وغير الزبونية المنحارة ضدهم وبدون تفكير بشكل اتوماتيكي لمؤسسة القمع والعنف التاريخي (القوات المسلحة) ، كأن أولئك الشباب والفتية من الإثنية السياسية للدعم السريع اكتشفوا لأول مرة طبيعة الصراع الإجتماعي الطاغية على كل الإصطفافات والإنحيازات ، أو أنهم أمام دولة كولونيالية كلية الوجود ومتكتلة حول نظامها الإقطاعي.

النظرة السوداوية والتفكير السلبي غير المكترث بشأن مسألة الإنتهاكات أو إزدراء ألام ومظلوميات المجتمعات المحايدة في ظل الضغوط النفسية للمقاتلين أمام الآلة البربرية والهمجية لدولة 1956 ، هي ظلال متلازمتي جوسكا و سوساك Susac syndrome - المعاناة مع الماضي بالتذكر والنسيان في الآن نفسه ، على قيادة الدعم السريع و سلوكها المتناقض من قضايا الأمن الشخصي وحقوق الإنسان في الحرب بين مجتمعات الهامش كمجتمات ضد مجتمعات ، وبين مجتمعات الهامش في مواجهة مجتمعات المركز.

أوليس حميدتي - محمد حمدان دقلو ، هو الذي قال في ليلة فقدانه لموسى قارح وآلاف الرفاق (لم يعد لدينا ما نخسره ! ) ؟

**

هل ثورة المهمشين كانت دائماً صدمة الأنبياء المطرودين من كارتيل الخرطوم وفردوسها النخبوي؟

عُقدة الدهشة أم عقدة الذهول - الإنشداه ؟؟

اي نفساني لعين psychologist هذا الذي صنع عقدة عبدالله التعايشي من هاتيك المدينة التي نبذته قبل أن يتهيأ له ملكه وبعد - أربعة عشر عاماً؟

صدمة الترابي التي جعلت منه مثقفاً مضاداً counter Intellctual تسع وثلاثين عاماً ، و نبياً أعزلاً مذهولاً في خصومة اللصوص الذين قال عنهم يوماً إنهم هبة السماء .. لعقد ونصف؟

من متوالية ثورات الطرداء ، التي لم تكن حرب 15 إبريل 2023 آخر تطوافها.

**

مشكلة ثورة المهمشين - الأنبياء المنبوذين من المدينة التي تطوّب لصوصها بماءها المقدس ، الذين يلوذون بالهامش حيث Tribal area أحراش القبيلة بتعبير اللورد هايلي Hailey في غانا (1947) ، أنها كما في تعبير إلكس دي وال .. الثورة التي لا / لم يُردها أحد (في الغرب) .

هل ذات الغرب اللعين يقرأ من مزامير كنائس أكسوم في جبال تغراي الشاهقات عن خراب سوبا ، كما تقرأ كنائس أثينا نبوءات القديس ميثوديوس Methodius - عن خراب الإسكندرية ؟ (أدب الأبوكالبيس : عبدالعزيز رمضان).

هل يغترف من مراياهم عن إثيوبيا المقدسة دولة الكنيسة الوحيدة الأصيلة في إفريقيا .. أن بقايا البطلموس - كارتيل الجلابة هم المسيحيون المتخفين الذين يرسمون الصليب في النهر خلسة حين طقوس العبور والزواج أو المورسكيين المسيحيين بتعبير معاكس؟ (ترجمان الملك : فضل الله).

هل لا يريد الغرب الأوروبي فعلا ميلس زيناوي آخر أو لتلك الحيثيات ، ماو يزحف من الريف (جغرافيا التهديد) إلى المدينة  - جغرافيا الخوف ؟.

كان بوسع قيادة القوة شبه العسكرية وعائلتها السياسية بدلاً عن تبني مسارات الإنسداد ، مسارات حروب الإرهاب الثوري والتمرد لا الثورة وما بينهما من شقة أكبر من قدرة تأويل أو عِرافة سياسية على ردم هوتها بالتبرير أو التبسيط ، مسارات البحث عن إكتساب شرعية دولة 1956 كينونة الأمر الواقع de facto غير التمثيلية والكارزماتية غير العقلانية (ماكس فايبر) ، بالتفاوض ومساومة مُخلفات الإستعمار التركو مصري 1820 ، كان بوسعهم استعراض التاريخ الإنساني المعاصر بأفق أوسع من الإيغال في المحلية وإعادة إنتاج العطب التاريخي لمازق الإستعمار ونظامه الإجتماعي للحرب ، مأزق الإمتيازات والعنف والإنفصال عن الواقع الإجتماعي ، كان بوسعهم الحوار مع المكونات الإثنية الوطنية العقارية وغير العقارية (التي لا تملك أراضي - الأقليات) وإنتاج شرعية وسلطة تمثيلية بنسبة غالبة تتخطى ممانعة المقاطعين الذين ستتجاوزهم المساومة السياسية ، كان بوسعهم بناء ألف حاضرة ميتربوليتانية أو كوزوموبوليتانية حتى ، غرباً في جغرافيات السودان غير المفيد أو جغرافيات التهديد أو هامش الآخر أو أحراش القبيلة بتعبير لورد هايلي المذكور ، بدلاً عن منازعة سوبا الخربة التي لم تتسع لأحد غير لصوصها المطوبين وحتى عاهراتها المبجلات.

تواطؤ المثقف ميكافيلي وصدمة الأمير

جريمة جلقني الأولى (الإنكار) والثانية (الصمت) ، هي شاهد على تواطؤ المثقف المجتمعي  في كل الأحوال - مثقف القبيلة في تعبير ومقارنة أخرى ، (الخيانة الثقافية) cultural collusion أو (خيانة الضمير الذاتي) ، وتساقط أقنعته أو تهافته عقلانياً وفلسفياً أمام مصالحه الطبقية ، وكيف به أن ترهقه الحقيقة حتى يلتجئ للممانعة النفسية والعقلانية لميكانيزمات الدفاع الذاتي المتحايلة ، ولا يفترض به أن ترهقه الحقيقة.

فموقف عبدالرحيم حمدان دقلو من إغلاق التحقيق في ملف الإغتصابات التي وثقت بعضها صوتاً وصورة في نقاط التجمع والتفتيش في أحياء كافوري وبحري وغيرها من الأشهر السبعة الأولى للحرب 2023 ، حتى بعد مظاهرات جمعة الكرامة في جنوب الخرطوم وما أعقبه من تشكيل لجنة (المظاهر السالبة) التي فرض عليها تابوهاته وقيوده المسبقة قبل تشكيلها برئاسة عصام فضيل ، حول إنكار مسألة الإغتصابات جملة وتفصيلاً من حيث المبدأ ، ورفض التحقيق فيها ، في حيثياتها النفسية الثقافية المعروفة بالنظام الإجتماعي للحرب والنظام الأخلاقي لمجتمعات مقاتليه (مجتمعات الحرب المساندة) الذي لا يرى في السرقة أو التسري خطيئة من أساسه تستوجب التحريم ، حيثياتها القانونية التي تتواثق الشواهد الآنية والتاريخ العملياتي لقوة الدعم السريع في ممارسة تكتيكات التطهير العرقي ومنهجية الإبادة من منظور صراعولوجيا قبلية ، حيثياتها السيسيولوجية حول التعطش الجنسي للمقاتلين في كل الحروب على مدار التاريخ ، الأمر الذي أفرغ لجنة عصام فضيل التي لم تخلص إلى أي تقرير جنائي ولا محاكمات ميدانية ، من سمعتها القضائية وسلطاتها المخولة أو شرفها الأخلاقي ، إلى لجنة إدارية بلا صلاحيات ولا سمعة.

ذلك الموقف كان مثالاً على تواطؤ المثقف وخيانته الثقافية التي لم تتحسس من تسييس حقوق الإنسان ومسألة الإنتهاكات والتصويب الإعلامي من بروباغندا النظام السابق ، بقدرما كانت تتحسس من ثمن المساومة الإجتماعية (الوصمة) والإبتزاز الإجتماعي ، وتستخدم وعيها الطبقي ومعرفتها القبلية في التهوين والإستخفاف بحياة البشر وتعريض الأمن الشخصي للمجتمعات غير المسلحة في نطاق السيطرة.. تهديد الأمن الشخصي لمئات النساء.

مثله مواقف منصور خالد الذي قال في معرض تفعيل ميكانيزمات الدفاع الذاتي إن الأنتلجنتسيا الشمالية ليست مضمرة للشر بسوء نية لكنه عجز عن تجرع الحقيقة انها من مخلفات الإستعمار ومجتمعات الحرب في منظومته الإقطاعية الحديثة (الأوروبية) ولا يمكنها أن تفرز ثورة وطنية ديمقراطية تستهدفها في الحقيقة بالإزالة والتصفية ، ومرة أخرى حين وصف إسترقاق النساء بالأسر القبلي في حروب الدينكا والنوير الذين كان يدافع مترافعا عن إثنيتهم السياسية وكفاحهم الطبقي ، في مقابل غازي سليمان المحامي الذي أنكر في محافل حقوق الإنسان الدولية مظاهر الرق في علاقات الصراع بين البقارة (العطاوة) الإثنية الزبونية وقتها لدولة 1956 والمونجانق (الدينكا) بما في ذلك مذبحة الضعين.

كان المثقفين الشماليين المتواطئين الخائنين ثقافياً دائماً ما يتلقفون العبقريات التحريفية والتبريرية لماضيهم المتواطئ مع الإستعمار الرأسمالي المركنتيلي (التركو مصري) تجاه الشعوب الأكثر تخلفاً من ناحية نمط الإنتاج والمستضعفة للتخلص من عقدة الذنب من خلال محاولة تبرير البنى غير الرأسمالية في مجتمعاتهم مثل القنانة العمالية والقنانة المسلحة أو تبني أيدلوجية هروب من أسئلة الماضي والمستقبل.

تساقطت أعذار مثقف القبيلة الاشوس ، تعاظمت إمتحاناته أمام إسقاطات إشكالية العلاقة بين البقاري (العطاوة) والفولان في الصراع المسلح ، لم يعد لخطاب الحرب الأهلية أو سرديته الكبرى قيمته الإستهلاكية ذاتها ، في إنتظار خروج ذلك المثقف الاشوس من خباء التبرير أو سوق المساومة اللااخلاقية إلى مهمة لم يخبرها (العمل).

جلقني تتعزى بمن؟

[لا تظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض، ما جئت لألقي سلاماً بل سيفا].    متى 10 : 34.

هل يتوقف سلسال الدم الذي غمر جلقني عن معاقبة  الضحايا وتخليصهم من خطيئتهم الأولى خطيئة التعايش مع دولة 1956 ؟

أو هل يكف حميدتي- محمد حمدان دقلو عن عزلته الزاهدة في خطيئة المحايدين من الصراع ؟ الذين لم يختاروا الإيمان بالثورة ولم تكن أحب إليهم من زهدهم في الكرامة الإنسانية والعدالة الأرضية حتى يمنحهم غفران الأنبياء الطرداء والأنبياء المقاتلين ،  غفران النبي يعقوب ؟.

*نشرت برفقة الترجمة الفرنسية للأستاذ علوي حمزة.

northernwindpasserby94@gmail.com  

مقالات مشابهة

  • انتزاع أكثر من ألف لغم خلال الاسبوع الماضي في اليمن
  • العودة إلى جلقني.. تواطؤ المثقف وتعلقاته
  • أكثر الأدوية المزورة التي يتناولها الملايين
  • المثقف في العصر الرقمي .. بين الضياع والبحث عن دور
  • تقرير حقوقي: أكثر من 8400 انتهاك بحق المرأة في اليمن
  • حماس تدعو الدول والشعوب لرتفع مستوى إسنادها للمستوى الذي يمثله اليمن
  • منظمة: أكثر من 180 مفقوداً في انقلاب قاربين للمهاجرين قبالة اليمن
  • تحرك مفاجئ لأربع دول بشأن اليمن.. ما الذي يجري في الكواليس؟
  • فقدان أكثر من 180 شخصًا إثر غرق أربعة قوارب مهاجرة قبالة اليمن وجيبوتي
  • غرق أكثر من 180 مهاجراً قبالة السواحل اليمن وجيبوتي