الروس عرضوا مساعدات عسكرية “بلا سقف”… أي حليف سيختار الــجيش السوداني؟
تاريخ النشر: 23rd, May 2024 GMT
الروس عرضوا مساعدات عسكرية “بلا سقف”… أي حليف سيختار الــجيش السوداني؟
متابعات – تاق برس
أثارت زيارة المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط ونائب وزير خارجيته، ميخائيل بوغدانوف، إلى السودان العديد من الأسئلة حول توجهات الموقف الروسي من طرفي الحرب في السودان، لا سيما وأنه ترأس وفداً ضمّ ضباطاً عسكريين.
وعلى الرغم من ظهور عدة تقارير صحافية وثّقت لتقديم مجموعة “فاغنر” شبه العسكرية مساعدات لقوات الدعم السريع، إلا أن السياسة الروسية لا تتبنّى موقفاً معادياً تجاه الجيش، بل وتحافظ على العلاقات الرسمية مع السودان.
يتطلب فهم أهداف تلك الزيارة أخذ بعض التحولات في روسيا والسودان بعين الاعتبار، كأفول حقبة “فاغنر”، وتحقيق الجيشين الروسي والسوداني الكثير من المكاسب الميدانية في الحربين اللتين يخوضاهما – الأول في أوكرانيا والثاني داخلياً. فهل قررت موسكو دعم الجيش على حساب الدعم السريع؟ وماذا ستطلب في مقابل ذلك؟ وهل سيحسم الجيش خياره الصعب في المفاضلة بين التوجه نحو الغرب، أم نحو روسيا؟
زيارة بوغدانوف
زار الوفد الروسي مدينة بورتسودان في 28 نيسان/ أبريل الماضي، والتقى بكلٍ من نائبي القائد العام للجيش إبراهيم جابر وشمس الدين الكباشي، ونائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي مالك عقار، ثم برئيس المجلس وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان.
وقد أعلن بوغدانوف خلال لقاءاته عن موقف روسي جديد تجاه طرفي الصراع، وهو أنّ “بلاده تتعامل مع مجلس السيادة الانتقالي والحكومة في بورتسودان بوصفهما الممثل الشرعي للشعب السوداني في التعامل الدولي”. وأكد مسؤولو البلدين الرغبة في ترقية وتعزيز العلاقات، بما يخدم المصالح المشتركة في المجالات الاقتصادية والتجارية وتدريب الكوادر.
وفي تصريح خاص لرصيف22، يقول سفير السودان لدى روسيا الاتحادية محمد الغزالي سراج إنّ “الوفد اطّلع خلال الزيارة على تطورات الأوضاع في السودان، لا سيما التطورات على الأرض في مسارح العمليات العسكرية لدحر التمرد والمؤامرات التي يتعرض لها السودان”. مضيفاُ “تم التأكيد على رغبة السودان في التفاوض والتوصل للسلام، إلا أن ذلك يتطلب أولاً الالتزام بما تّم الاتفاق عليه في منبر جدة”.
أثارت زيارة المبعوث الخاص للرئيس الروسي ميخائيل بوغدانوف إلى السودان على رأس وفد ضمّ ضباط عسكريين العديد من الأسئلة حول توجهات الموقف الروسي من طرفي الحرب في السودان، فهل قررت موسكو دعم الجيش على حساب الدعم السريع؟ وهل سيحسم الجيش موقفه بالتوجه نحو الغرب أم روسيا؟
وحول الاتفاقيات الموقعة بين البلدين، يقول إن الزيارة أكدت الرغبة في تنفيذ المشروعات المشتركة الموقعة في آب/ أغسطس 2022، والتي شملت بروتوكولاتها عدداً من المجالات تضمنت التنقيب عن الذهب والنفط والطاقة والعلوم والتكنولوجيا والزراعة، متى ما كان ذلك ممكناً. لافتاً إلى أنّ بعض المشروعات في مجال التنقيب عن الذهب لا تزال قائمة رغم الحرب.
كما يشير السفير الغزالي إلى أنّ الزيارة ستؤسس لدورٍ هام لروسيا في مرحلة إعادة الإعمار، خاصة في تحديث الجيش السوداني، نظراً للعلاقات العسكرية القديمة والراسخة بين البلدين وكون معظم الأسلحة والعتاد والمعدات العسكرية المُستخدمة روسية الصنع.
هذه الزيارة جاءت بعد أيام من وصول ثلاث سفن روسية محملة بالديزل منخفض الكبريت إلى ميناء الخير في بورتسودان في الثاني والخامس والسابع عشر من نيسان/ أبريل الماضي. وتبعها في الثاني من أيار/ مايو الجاري لقاء بين عضو مجلس السيادة الفريق إبراهيم جابر والسفير الروسي في بورتسودان.
يقول مصدر أمني سوداني لرصيف22 إن “الوفد الروسي بحث خلال زيارته التعاون العسكري، والذي يشمل التدريب المُشترك وتقديم معدات عسكرية وأمنية وافتتاح قاعدة تموين السفن الروسية على ساحل البحر الأحمر والتي تم الاتفاق عليها مع الرئيس السابق عمر البشير”. ويوضح أنّ “العلاقة بين البلدين قائمة على المصالح المتبادلة، خاصة في مجالات القواعد العسكرية، والتعدين، والذهب وغيره من المواد الخام في السودان”.
في السياق ذاته، كشف مصدر عسكري لـ”سودان تربيون” أنّ الوفد الروسي عرض على الجانب السوداني تقديم مساعدات عسكرية نوعية “بلا سقف”، وهذا العرض “يشمل خبرات عسكرية نوعية قد تتطلب وجوداً روسياً على الأرض السودانية”، وفق التقرير.
ما بعد فاغنر
على النقيض من ذلك، يرى السفير السابق والخبير الدبلوماسي، الصادق المقلي، أنّه لا يمكن الحديث عن دعم عسكري روسي للجيش السوداني في ظل الحصار الغربي لروسيا، التي كلما اقتربت عسكرياً من السودان كلما ضاق عليها الخناق غربياً.
يشير سفير السودان لدى روسيا بأن الزيارة ستؤسس لدور هام لروسيا في مرحلة إعادة الإعمار، خاصة في تحديث الجيش السوداني بالعتاد والمعدات العسكرية المُستخدمة الروسية الصنع.
ويقول لرصيف22، إنّ التعاون السابق بين فاغنر والدعم السريع في استخلاص وتصدير الذهب إلى روسيا انتقل إلى الحكومة الروسية بعد ضمّ عناصر المجموعة إلى الجيش. ويتابع بأنّ روسيا تعول أكثر على توغلها في أفريقيا أكثر من السودان لمصالحها الاقتصادية والاستراتيجية، التي تستفيد فيها من نشاط “فاغنر” في مقايضة الماس والذهب مقابل حراسة الأنظمة الأفريقية، ومواجهة المد الفرنسي والصيني وإلى حدٍ ما الأمريكي في القارة.
ويبقى السؤال الأكثر أهميةً حول ما إذا كانت روسيا تربط تعاونها العسكري المُقترح بموافقة السودان على منحها الحق في إنشاء قاعدة تموين سفنها الحربية. وتتطلب الإجابة عن ذلك الأخذ في الاعتبار متغيرات الواقع الميداني في الصراع بين الجيش والدعم السريع، حيث تمكن الأول دون مساعدة عسكرية من روسيا بل وبمساعدة غريمتها أوكرانيا من تحقيق انتصارات كبيرة في العاصمة الخرطوم.
يذهب الباحث في العلاقات الدولية والتاريخ المقيم في موسكو أحمد دهشان، إلى أنّ الموقف الروسي تجاه السودان حتى وقت قريب يخالف تصورات البعض بأنّه نبع من قرار روسي مركزي أشرف عليه الكرملين.
ويقول إنّه “صحيح توجد مؤسسات دولة وقرار واحد، ولكن في حالة الدول التي لا تعتبر حليفة وفي نفس الوقت كانت بعيدة عن روسيا أو تبحث الأخيرة عن موطئ قدم فيها، وعلى وجه التحديد السودان ومنطقة الساحل الأفريقي، فقد لجأت موسكو إلى طرق غير تقليدية، ومن ضمنها الاستعانة بالشركات العسكرية الخاصة وعلى رأسها مجموعة فاغنر”.
يعلل دهشان ذلك، لرصيف22، بأنّ فاغنر عملت في هذه الأماكن كمجسات تربة – إن جاز الوصف – لتمهيد الأرض للسياسة الروسية، ولم تكلف الدولة شيء وقامت بأعمال لا يليق ولا ينبغي للدولة أنّ تقوم بها لأنها أعمال غير مشروعة وقد تضعها تحت طائلة القانون أو العقوبات، وفي نفس الوقت حققت هذه الشركات أرباحاً ماليةً.
ويرى أنّ تاريخ تطبيق تلك المقاربة على السودان يعود إلى العام 2017 الذي شهد الزيارة الأولى للرئيس السابق عمر البشير إلى روسيا. ويقول إنّه بطلب وتسهيل من البشير بدأت فاغنر وشركات روسية في التعامل مع الدعم السريع في استخراج الذهب، وعلى هذا الأساس نشأت علاقة قوية بين الطرفين ولم تتأثر بالثورة الشعبية وعزل البشير.
يُكمل دهشان تحليله بأنّه بالتوازي مع ذلك أقامت وزارة الدفاع الروسية علاقات مع الجيش السوداني، وفي ذلك الوقت كان التنافس بين فاغنر والوزارة على أشده بشكل عام، ولكن تردد الجيش السوداني وخاصة بعد الثورة في منح روسيا حقّ إقامة قاعدة تموين عسكرية جعل علاقة فاغنر مع الدعم السريع تهيمن على العلاقات بين البلدين.
وأيضاً سبقت تحولات الحرب في السودان أخرى في روسيا، وبدأت بتمرد قائد فاغنر الراحل يفغيني بريغوجين على الدولة في حزيران/ يونيو 2023، وانتهت بمقتله في آب/ أغسطس من العام نفسه.
لجأت موسكو إلى الاستعانة بالشركات العسكرية الخاصة وعلى رأسها مجموعة فاغنر لتمهيد الأرض للسياسة الروسية، ولم تكلف الدولة شيء وقامت بأعمال لا يليق ولا ينبغي للدولة أنّ تقوم بها لأنها أعمال غير مشروعة، وقد تضعها تحت طائلة القانون أو العقوبات، وفي نفس الوقت حققت هذه الشركات أرباحاً ماليةً
يقول دهشان إنّ “فاغنر في طور النهاية لأنها تتحول إلى جهاز بيروقراطي تابع للدولة، وتفقد بذلك المرونة والقدرة على الحركة واتخاذ القرارات السريعة بشكل كبير”. تبعاً لذلك، فإن العلاقات الروسية الخارجية باتت بيد وزارتي الدفاع والخارجية، ومن هذا المنطلق جاءت زيارة الوفد الروسي الذي ضمّ دبلوماسيين وعسكريين بهدف استكشاف العلاقات مع الجيش السوداني.
الموقف من الدعم السريع
يقول سفير السودان في موسكو إنّ “الزيارة أثارت حفيظة داعمي التمرد كدولة الإمارات ومناصريها وداعميها إقليمياً ودولياً”.
بدوره يشير مستشار قائد الدعم السريع الباشا طبيق إلى أنّ روسيا لا تقدم دعم عسكري دون مقابل، وأنّها تستغل ضعف حكومة الأمر الواقع وتفرض شروطها المتمثلة في منحها ميناء لبناء قاعدة بحرية، لتعزيز وجودها ومواجهة التمدد الأمريكي.
ويُقلل في حديثه لرصيف22 من تأثير أي تعاون عسكري مرتقب بين الجيش وروسيا على الوضع الميداني. يقول إنّه “لن يحدث تأثير مباشر على المشهد العسكري، ولكن ما نخشاه هو تطبيق النموذج السوري والليبي في السودان، وأن تتقاسمه الدول الكبرى وفق مصالحها”.
بدوره، يحدد الباحث أحمد دهشان عدّة عوامل تدفع نحو تحوّل الموقف الروسي لصالح الجيش، وهي أنّ حرب الدعم السريع طالت وفقد القدرة على حسمها في وقت قصير كما كان متوقعاً، كما أنّ قدرته على استخراج الذهب وبيعه إلى روسيا لم تعد كما كانت في الماضي، فضلاً عن ممارسات السلب والنهب واسعة النطاق التي باتت ملجأ حميدتي لدفع رواتب جيشه الكبير، وتفضيل وزارتي الدفاع والخارجية التعاون مع الجيش السوداني.
ويتابع أنّ “روسيا تتجه أكثر نحو الجيش وتعترف بمجلس السيادة، ولكن لا يعني ذلك أنها ستتخلى تماماً عن قائد الدعم السريع حميدتي”. ويتوقع دهشان أنّ تحافظ موسكو على علاقة بحميدتي وتدعو باستمرار إلى الحلّ التوافقي بين الطرفين لتحافظ على المساواة بينهما، كما أنّها تراعي المصالح المتداخلة بين الدعم السريع وقوى إقليمية هي حليفة لها في الوقت ذاته.
ويقول إنّ “روسيا ألقت بالكرة في ملعب الجيش السوداني وفتحت المجال لعلاقة أوثق ودعم أكبر حال قدم لها عرضاً مُغرياً”. ويؤكد أنّ “العلاقة مع الدعم السريع تراجعت بشكل كبير ولن تكون كما كانت في الماضي”.
اتفاقية القاعدة البحرية
بدوره يرى القيادي في تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية “تقدم” شهاب إبراهيم، أنّ الحديث عن تعاون عسكري مع روسيا حالياً هو جزء من صراع النفوذ في منطقة البحر الأحمر وتعزيز للعمق الروسي في وسط وغرب أفريقيا.
ويقول لرصيف22، إنّ أطراف الحرب ستتحول إلى مخالب للصراع الروسي الأوكراني، مما يُعقد من مشهد حرب السودان ويطيل أمدها وانتقالها لدول الجوار.
ولا يتفق الباحث دهشان حول ارتباط الزيارة الروسية بالدور الأوكراني، ويعتقد أنّ علاقة الجيش السوداني وأوكرانيا كانت نوعاً من تبادل المصلحة المؤقت، ولم يكن لدى الطرفين تصورٌ واضح لإقامة علاقات طويلة الأمد.
ويرى أنّ المساعدة التي قدمتها أوكرانيا للجيش كانت نوعاً من ترويج نفسها أمام الغرب كقوة قادرة على مواجهة روسيا في ميادين دولية مثل أفريقيا، ولتقول إنّ الحصول على مزيد من الدعم ليس لحربها ضد روسيا فقط بل ولحماية المصالح الغربية أيضاً، وذلك فق قوله.
وتعود الاتفاقية التي تسمح للروس بالتواجد العسكري في البحر الأحمر إلى زيارة “البشير” إلى روسيا في 2017، وبعد الإطاحة به جُمدت الاتفاقية. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2020 صادقت الحكومة الروسية والرئيس بوتين على الاتفاقية مع السودان التي تمنح الأولى الحق في إنشاء “مركز لوجيستي” على البحر الأحمر، ونُشرت الوثيقة على موقع الحكومة.
يرى مستشار قائد الدعم السريع أنّ روسيا لا تقدم دعماً عسكرياً دون مقابل، وأنّها تستغل ضعف حكومة الأمر الواقع لفرض شروطها المتمثلة في منحها ميناء لبناء قاعدة بحرية لتعزيز وجودها ومواجهة التمدد الأمريكي.
وتضمنت الاتفاقية السماح لروسيا بإنشاء مركز لوجيستي يستضيف أربع قطع بحرية حربية بحد أقصى في الوقت نفسه، ويقتصر دوره على تقديم خدمات التموين والوقود والصيانة للقطع، وذلك لمدة 25 عاماً قابلة للتجديدة لمدة عشرة أعوام. كما مُنحت روسيا الحق في استخدام المطارات السودانية في نقل مهام إنشاء المركز، وسمحت بتواجد 300 فرد للتشغيل والإدارة، مع تقديم موسكو مساعدات عسكرية لتعزيز نظام الدفاع الجوي السوداني.
وتضع روسيا الالتزام بتلك الاتفاقية كشرط لتقديم الدعم العسكري للجيش السوداني، ولكن الأخير يخشى من إغضاب الولايات المتحدة والغرب إذا ما أقدم على ذلك، وفي الوقت نفسه يحتاج إلى الحصول على الدعم العسكري الروسي للاستمرار في حربه ضدّ الدعم السريع.
يقول الباحث أحمد دهشان إنّ “الاتفاقية لا تتضمن إنشاء قاعدة عسكرية بالمفهوم الكلاسيكي، لأن قوة روسيا البحرية محدودة ولا تُوضع في مقارنة مع القدرات الأمريكية، كما أنّها لم تستثمر في القوة البحرية حتى في عهد الاتحاد السوفيتي لأنّها لا تحتاج لذلك”.
ويتابع بأنّ روسيا تستطيع الوصول براً وجواً إلى مناطق نفوذها بخلاف الولايات المتحدة التي تحتاج إلى بحرية قوية وكبيرة، وتبعاً لذلك فما تريده هي محطة توقف لدعم بحريتها للتوسع جنوباً نحو المحيط الهندي.
ويرى أنّ الجيش السوداني كان متردداً بشأن تطبيق الاتفاقية ولم يلغها في الوقت نفسه، ولوح بها لاختبار النوايا الأمريكية والغربية لأنه في النهاية يفضل إقامة علاقات عسكرية مع الغرب.
ويتوقع دهشان أنّه ليس لدى مجلس السيادة الاستعداد في الوقت الحالي لمنح الروس هذا الحق، لكن ربما يلعب الأمر بشكل مختلف بمنحهم إمكانية دخول الموانئ دون التزام قانوني. ويضيف أنّ “الجيش إذا يأس من دعم الغرب وتيقن أنّه سيحصل من روسيا على دعم عسكري كبير يمكنه من حسم الحرب لصالحه فوقتها قد يذهب نحو تطبيق الاتفاقية، وهو ما يتم التفاوض حوله حالياً”.
الروسالسودانمجلس السيادةالمصدر: تاق برس
كلمات دلالية: الروس السودان مجلس السيادة مساعدات عسکریة الجیش السودانی الموقف الروسی الوفد الروسی الدعم السریع البحر الأحمر مجلس السیادة بین البلدین فی السودان إلى روسیا روسیا فی فی الوقت یقول إن ما کان إلى أن
إقرأ أيضاً:
مستقبل القبائل العربية بعد هزيمة الدعم السريع في السودان
بعد الانتصارات الساحقة للجيش السوداني على قوات الدعم السريع في ولايات السودان المختلفة وفي مناطق العمليات خلال الأيام الماضية، وبعدما تراءى للأعين انهيار التمرد وفشل مشروعه السياسي والعسكري، ووقوف الحرب على الحافة، تتمدد الآن حالة من القلق والخوف والهواجس، من تداعيات وآثار الحرب ونكالها على القبائل العربية التي تتواجد في الامتداد الجغرافي العريض من غرب السودان ما بين حدود نهر النيل شرقًا، حتى ساحل المحيط الأطلسي في غرب أفريقيا.
عُرف هذا الفضاء الجغرافي خلال القرون الماضية، التي شهدت الكشوف الجغرافية الأوروبية، ومن قبلها الرحالة العرب، بما اصطلح عليه الجغرافيون والمؤرخون حتى بداية العصر الحديث، وهو مسمى السودان الغربي والسودان الأوسط، الذي يشمل حاليًا دول أفريقيا جنوب الصحراء، وخاصة دول حوضي نهري النيجر والسنغال وبحيرة تشاد وما حولها، ما بات يعرف حديثًا بدول الساحل.
ولا يتجادل اثنان في أن حرب السودان زاد من تعقيدها إضرام الجهات الخارجية، النار في البيئة الاجتماعية شديدة التداخل والترابط، التي تتقاسمها تسع دول في المنطقة، ولم تكن هذه الجهات الخارجية تدرك خطورة الاختلال السياسي والاجتماعي الذي سيحدث، وأي عاصفة من الخبال تجتاح مع هذه الحرب مجتمعات ودول أفريقيا جنوب الصحراء.
إعلانظلت القبائل العربية في هذا الجزء العريض الطويل من القارة الأفريقية، تحمل همها التاريخي، وهي تعيش على هامش الحياة السياسية وبعيدة عن مركز السلطة كغيرها من القبائل الصحراوية، يراودها حلمها بسبب تفاعلات السياسة الجارية منذ ستينيات القرن الماضي.
تعاظم ذلك مع بروز قوات الدعم السريع في السودان، وظن بعض أبناء القبائل العربية في هذه المنطقة الشاسعة أنهم وجدوا ضالتهم فيها للسيطرة على الدولة السودانية ثم الانطلاق غربًا، وأدرك بعض العاقلين منهم أن الدعم السريع، مشروع سياسي عسكري طائش، خائب المسعى، مهيض الجناح، لا يمتلك مقومات البقاء.
لكن مع ذلك ساندته بعض الأصوات من النخب والقيادات القبلية، ونهضت هذه المجموعات يحركها التاريخ، وتدفعها بقوة عوامل الجغرافيا، مناصرة للتمرد في السودان، على مظنة أن مسار التاريخ سيتغير، دون أن يخضع ذلك لمعادلات حركة التاريخ الطبيعية.
بعض العاقلين من متعلمي القبائل العربية في غرب السودان؛ والسودانين: الغربي والأوسط، يعلمون أن مشروع الدعم السريع وحربها الحالية، لا يمت بصلة عضوية متطابقة بالكامل مع تطلعات القبائل عقب حصول بلدان المنطقة على الاستقلال، لكنه ربما أثار ثائرة العاطفة وأوقد نارًا في النفوس وفق المعطيات الظرفية لكل دولة في الإقليم.
وظلت هذه الأطياف المتنوعة من المثقفين والسياسيين والقيادات ذوي الأصول العربية يخطون خطوات جادة وحثيثة للتعبير عن دور يتناغم مع تفاعلاتهم السياسية في السياقات المتطورة في بلدانهم، من أجل المشاركة السياسية التي تليق بهم، وتحويل مجتمعاتهم الرعوية إلى مجتمعات مستقرة وآمنة، والمساهمة بجهد فاعل في بناء أوطانهم، وهم بلا شك كانوا جزءًا من الحركات التحررية وروّاد الاستقلال، وفي قلب حركة النضال المدني والعسكري خلال ستة عقود منصرمة في أقطارهم.
إعلانوعلى ضوء التطورات الاجتماعية والسياسية، ومنتج التنمية الاجتماعية ومعدلاتها، نما حلم القبائل العربية في هذا الفضاء الواسع، لكنها لم تخطط لمشروع سياسي أو تسعى لصراع سلطوي مسلح، وهي موحدة أو متعاونة أو وهي منفردة، وذلك عدا تجارب الحركات المسلحة في تشاد منذ العام 1965، عندما ثار الشعب ضد حكم الرئيس فرانسوا تمبلباي وتم تكوين حركة فرولينا، وكان عرب تشاد في الواجهة ومن الآباء المؤسسين، ويومها سارعت القبائل العربية إلى الاندماج مع غيرها من القبائل، وعملت على تأسيس حركات وتنظيمات سياسية مسلحة، يسري عليها ما يصيب الجميع دون الاستفراد بمشروع أحادي العرق.
عندما صعد نجم الدعم السريع عقب مشاركتها في حرب اليمن وعاصفة الحزم، بالتحديد في 2017، وبدعم من دولة إقليمية، حدث أول لقاء سري لقيادتها مع الموساد الإسرائيلي، تم فيه رسم مخطط كانت فيه المصالح الإسرائيلية واضحة وتمت مخاطبة أطماع ومصالح وتطلعات قيادة الدعم السريع.
في ذات الوقت، كانت مجموعات من عرب تشاد وقليل منهم من جنوب ليبيا وبعض أبناء القبائل العربية في شمال غرب أفريقيا الوسطى، قد تم تجنيدهم لصالح الدعم السريع، وتم نقلهم للمشاركة في حرب اليمن، وقدر عددهم في ذلك الوقت حتى العام 2019، ما يقارب أحد عشر ألفًا من المجندين، وزاد العدد بنسبة تجاوزت 400% بعد ذهاب نظام الرئيس عمر البشير، ووجدت قيادة الدعم السريع الطريق ممهدًا والأموال متدفقة لتتم أكبر عملية تجنيد في القارة الأفريقية من أجل صناعة جيش موازٍ للجيش السوداني، وتكوين النسخة الأفرو-عربية من شركة فاغنر الروسية.
غداة انطلاقة الحرب كانت لدى الدعم السريع ما يزيد عن (120.000) جندي شاركوا في محاولة الانقلاب والسيطرة على الدولة وبدأت بهم الحرب، يمثل الأجانب منهم (45%)، وهم مرتزقة من تشاد، والنيجر، ومالي، وجنوب ليبيا، وأطراف من أفريقيا الوسطى، وشرق نيجيريا، والكاميرون، وبوركينا فاسو، وجنوب الجزائر، بالإضافة إلى مرتزقة من جنسيات أخرى، ويمثل العرب 70% من هذا الوجود الأجنبي داخل قوات الدعم السريع.
إعلانونظرًا لوجود القبائل المشتركة بين السودان، وتشاد، والنيجر، ونيجيريا، ومالي، وليبيا، وجنوب الجزائر، والسنغال، وموريتانيا، التحقت مجموعات منها مع أبناء عمومتهم بالسودان في قبائلهم المشتركة، وهي: (الرزيقات، والمسيرية، والحوازمة، والتعايشة، والحيماد، والبني هلبة، والهبانية، والسلامات، وأولاد راشد، وخزام، والبراريش، وأولاد سليمان، والمحاميد، والحسانية، والجعفريين)، بجانب قبائل أخرى غير عربية تعيش نفس الأوضاع السياسية والاجتماعية: (الطوارق، الفولاني، التبو، القرعان، الزغاوة، والبديات).
تجنيد أبناء القبائل العربية في غرب السودان وجواره الأفريقي لصالح الدعم السريع، تم لفئات الشباب من الأعمار بين (14 سنة – 45 سنة) كمقاتلين، وشاركت الفئات الأكبر سنًا في مهام دعائية وفي عمليات التجنيد والاستقطاب، ونشط في ذلك زعماء القبائل ورموزها وقادتها، وتم توظيف عدد هائل من الناشطين والمتعلمين لصالح الدعاية السوداء التي اعتمدتها الدعم السريع في حربها.
مع توريط الدعم السريع لقبائل عرب غرب السودان ودول الساحل في الحرب، واستخدام أساليب الترغيب والترهيب في إغراء القيادات والزعامات القبلية وتوظيفها في عمليات الاستنفار والتجنيد وجرجرة شباب القبائل للانضمام لمشروع الدعم السريع، انساق البعض وراء ذلك، وعبر كثير منهم عن مخاوفهم من الارتدادات العكسية لهذا المشروع، وكانت لديهم تحفظات واضحة على هذا المشروع، ومنهم الرئيس النيجري السابق محمد بازوم، والسيد محمد صالح النظيف وزير خارجية تشاد السابق، وعدد من القيادات في دول الإقليم الملتهب.
وليس من باب التهويل، أن تيارًا في منطقة الساحل ودوائر رسمية واستخبارية غربية، لم تزل تنظر إلى النتائج والمحصلة الإستراتيجية لحرب السودان، وأهمها التوازنات السياسية والسكانية في هذه البلدان، لا سيما تشاد، والنيجر المرتبطتين بالسودان، وليبيا وهي منطقة هادرة الثقافة العربية والإسلامية ومصدرة لهما إلى أفريقيا جنوب الصحراء.
إعلانفإن كانت هناك مصلحة في استنزاف المورد البشري لعرب المنطقة وتقليل فاعليتهم بسبب الحرب المجنونة التي شنتها الدعم السريع في السودان واستقطبت لها جل العناصر المقاتلة في هذه الدول، فإن هذا المشروع الاستنزافي قد نجح.
في السودان وحده بلغت خسائر قبيلة الرزيقات التي ينتمي لها قادة الدعم السريع عشرات الألوف من الشباب قد تصل إلى 45 ألفًا في ولايات دارفور الخمس، بينما خسرت قبيلتا المسيرية والحوازمة وهما من أكبر قبائل كردفان ودارفور العربية ما يقارب العشرين ألفًا من شبابها، بينما خسرت قبائل البني هلبة والتعايشة والهبانية والفلاتة والسلامات والزيادية وقبائل أخرى بضعة آلاف في معارك الخرطوم وولاية الجزيرة ومعارك كردفان ودارفور وخاصة مدينة الفاشر.
وتقول حركات معارضة تشادية ينتمي جلها للعنصر العربي إن عددًا من قياداتها ورموزها وشبابها قد قتلوا في حرب السودان، عندما تدافعوا بالآلاف للالتحاق بقوات الدعم السريع، كذلك الحال لقبائل عربية في النيجر وجنوب ليبيا وأفريقيا الوسطى.
الصحيح دائمًا أن القبائل لا تتحمل جريرة ما قامت به مليشيا الدعم السريع، لكن مع ذلك تواجه هذه القبائل في السودان، أو دول السودانَين الغربي والأوسط، تهمًا قاسية بولوغ أبنائها في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع، فضلًا عن عمليات النهب والسرقة لممتلكات السودانيين من سيارات وأموال ومصوغات ذهبية ومعدات وأثاث وأجهزة وأدوات مختلفة، وكل هذه المنهوبات تتواجد في أسواق غرب السودان ودول المنطقة المختلفة.
لكن الأثر الأبرز هو حالة العداء والضغائن والإحن التي تعتصر القلوب في داخل السودان، وعودة النعرات القبلية والرغبة في التشفي لدى شرائح مختلفة في المجتمع السوداني، وربما تكون هناك مخاوف وحذر بالغ لدى دول الساحل التي ترى في القبائل العربية خطرًا ماحقًا لا بد من لجمه، خاصة إذا امتلكت هذه القبائل السلاح والمال والدربة على القتال، وسرت فيها عدوى الدعم السريع، ورغبت في الاستيلاء على السلطة في بلدانها.
إعلانفي حالة السودان تحتاج القبائل العربية بغرب السودان بعد نهاية هذه الحرب أو قبلها، إلى الشروع في حوارات تصالحية عميقة مع قبائل السودان المختلفة، لكبح جماح ما يعتمل في النفوس من غل وغضب، وهي اليوم أحوج ما تكون لبناء الثقة من جديد، وأن تنفي عن نفسها ما جرى باسمها، وتتبرأ من جرائم الدعم السريع، وتنبذ الشعارات وخطاب الكراهية المتشح بالهمجية والغلو والتطرف، وتحركه سموم النظرة العرقية الضيقة والغبن الاجتماعي، ويستهدف قبائل بعينها في مناطق السودان المختلفة، ويدعو لتدمير وتخريب السودان وأعمدة بنائه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وتمزيق نسيجه القائم وتجربته التاريخية وتدمير البنية التحتية للدولة.
وواضح وفقًا لمجريات الحرب أنها ستنتهي بهزيمة قوات الدعم السريع، وخروج قيادتها من المشهد العام، ومطاردة قادتها ورموزها والمتعاونين معها. ينبغي مع نشوء حالة من التوجس والحساسية البالغة تجاه حواضنها الاجتماعية، أن تُطرح أفكار وخطوات تقود لمصالحة وطنية شاملة، وذلك إن توفر الرشد السياسي والاجتماعي لدى الجميع، لأن الأثمان المنتظرة لا بد باهظة وواجبة السداد، بحجم ما ارتُكب من جرم في حق السودانيين جميعًا.
لذلك كله، فإن مستقبل هذه القبائل على المحك، إذا انتهت الحرب دون رؤية متكاملة للدولة والمجتمع، فالفرص التي كانت متاحة للاندماج الاجتماعي وتذويب القبليات والعرقيات تلاشت نوعًا ما، وباتت بعيدة المنال، وتحصد الدعم السريع الهشيم لأنها لطخت سمعة هذه القبائل، ودمرت مستقبلها عندما حصدت حربها عشرات الآلاف من شبابها، وجعلتها في قفص الاتهام.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية