قاطعا 20 ألف كيلومتر عبر المحيط.. كيف وصل التصوف إلى جنوب أفريقيا؟
تاريخ النشر: 23rd, May 2024 GMT
وصل التصوف إلى غرب أفريقيا من الشمال القريب عبر الصحراء الكبرى، ووصل إلى شرقها عبر القرن الأفريقي الذي لا يفصله عن جزيرة العرب غير خليج عدن.
ولكنه لكي يصل إلى جنوب القارة، كان عليه أن يُبحر على ظهر سفينة "دي فويتبوغ" الهولندية، قاطعا 20 ألف كيلومتر عبر المحيط الهندي. ورغم بُعد المسافة التي قطعها، فقد وصل التصوف إلى جنوب أفريقيا قبل شرقها بأكثر من قرن من الزمان.
في سنة 1644، توجّه الأمير عبادين يوسف إلى الحج، وكان قد بلغ حينها 18 عاما، وكان حفيدا للسلطان علاء الدين حاكم إمارة "جوا" في منطقة مكاسر وسط الأرخبيل الإندونيسي.
ضريح الشيخ يوسف المكسري الذي نشر الإسلام في جنوب أفريقيا (الجزيرة) مريدون وأتباعوهناك قرر عبادين أن يمكث لطلب العلم والتفقّه في الدين، فظلّ 20 سنة، ثم بلغه أن الهولنديين قد احتلوا بلاده إندونيسيا، فقرر العودة للمشاركة في الجهاد لتحريرها.
وبعد 16 سنة قضاها يوسف في الدعوة للإسلام ولجهاد الهولنديين وحلفائهم، حتى تجمع حوله من أتباعه المخلصين قرابة 5 آلاف؛ ألقي القبض عليه وسُجن في جاكرتا، وفي السجن سرعان ما صار له مريدون وأتباع.
ثم نُقل إلى سريلانكا وهناك أيضا دعا الناس فأثّر في السجناء والحراس كذلك، فنقلته السلطات الاستعمارية إلى رأس الرجاء الصالح. وفرضت عليه الإقامة الجبرية في ضاحية زاندفليت قرب كيب تاون، ومنعت عليه الدعوة إلى الإسلام وأُخبر بأن عقوبة ذلك هو الإعدام.
ولكن الشيخ عبادين يوسف لم يحل شيء بينه وبين دعوة الناس للإسلام، ولم تمض سنتان حتى صارت زاندفليت أول تجمع إسلامي في جنوب أفريقيا، وقد أسلم على يديه آلاف ممن يوصفوا بـ"العبيد" الأفارقة، الذين كانوا يتسللون ليلا إلى بيته متخفّين.
وقد شكلوا أول جماعة لمريدين من "الطريقة الخلوتية" في أفريقيا جنوب الصحراء، وكان عبادين أحد شيوخها. وتعتبر الخلوتية إحدى الطرق الصوفية نسبة إلى محمد بن أحمد بن محمد كريم الدين الخلوتي، المتوفى في مصر سنة 986 هـ، وهو من أئمة الصوفية في خراسان في القرن العاشر الهجري حسب ما تشير المصادر التاريخية.
الباحث زينال عابدين أوضح أن الفضل في إقبال "العبيد" حينها على الإسلام يعود لتعاليم الإسلام نفسه (الجزيرة) تأثير كبيروعن سر تأثيره الكبير في مجتمع مختلف اللون والثقافة واللسان، يقول أستاذ الفلسفة والباحث في التصوف بجامعة كيب تاون زينال عابدين، "كان الفضل في إقبال "العبيد" على الإسلام عائدا أولا لتعاليم الإسلام نفسه، وما يقرره من مساواة بين البشر من بيض وسود".
وحسب عابدين، وجد "العبيد" في الإسلام السلاح الذي يردّون به على الكنيسة الهولندية التي قدمت نفسها ممثلا حصريا عن الإله، والديانة التوحيدية السماوية الوحيدة، وبهذا برر الهولنديون لأنفسهم وللأفارقة الاستعمار بأنه واجب إلهي لإدخالها في الحضارة وفي الملكوت.
وكان إسلام "العبيد" في ذلك الوقت بمثابة الرد على المستعمر الهولندي، بما يعني أن هناك دين سماوي آخر يقرر المساواة بين الناس ويضمن لهم الحرية، وفق عابدين.
ضريح الشيخ يوسف المكسري ويعد أهم مزار صوفي في جنوب أفريقيا (الجزيرة)وكان الشيخ عبادين يوسف معالجا بالأعشاب، وبالرقية القرآنية، وهو ما زاد من شعبيته، إذ صار قبلة للمرضى من الفقراء، واشتهر لديهم بكرامات كثيرة ما تزال تروى عنه إلى اليوم، حسب الباحث نفسه.
كما كان الشيخ عبادين ذا شخصية نادرة، يصعب على الناس مقاومة جذبها وتأثيرها، وقد توفي سنة 1699، بعد 5 سنوات في كيب تاون قضاها تحت الإقامة الجبرية، ممنوعا من الدعوة تحت تهديد الإعدام، لكنها كانت له مدة كافية وظروفا سانحة لتأسيس "مجتمع إسلامي قوي كالبنيان المرصوص".
وما تزال طريقته "الخلوتية" حاضرة في جنوب أفريقيا، ويستقبل ضريحه آلاف الزوار سنويا. أما اسم الضاحية "زاندفيلت"، فقد تحوّل إلى "مكاسر"، التي اعتاد المسلمون تسميتها بها، فلم يحضر الشيخ إلى كيب تاون الطريقة "الخلوتية" فقط، وإنما أحضر معه اسم بلاده أيضا.
وبعد 4 عقود وصل إلى كيب تاون داعية صوفي آخر كان له تأثير بالغ في انتشار الإسلام، وهو الشيخ سعيد العلوي، القادم من اليمن منفيا هو الآخر، وكان أول من أدخل "الطريقة العلوية" إلى جنوب أفريقيا، وأول من أَمّ المسلمين في صلاة علنية.
أول مسجد بني في جنوب أفريقيا على يد الشيخ عبد الله قاضي السنوسي (الجزيرة) نضج مبكروبعد عقدين على وصول "الطريقة العلوية"، وصلت "الطريقة السنوسية" مع الرجل الذي سيعرف معه الإسلام في المنطقة نقلة نوعية، وهو الأمير عبد الله قاضي حاكم سلطنة تيدور في إندونيسيا، وقد نُفي إلى سجن جزيرة "روبين" سنة 1767.
وفي سجنه كتب نسخة من القرآن الكريم معتمدا على حافظته، وما تزال النسخة محفوظة في متحف "بوكاب" في كيب تاون، كما ألف كتابه "معرفة الإسلام والإيمان"، وأمضى في السجن 26 سنة، ثم غادره عام 1793 إلى كيب تاون، وكان أول شيء قام به بناء أول مدرسة إسلامية في جنوب أفريقيا.
أما عن الأثر الكبير لتلك المدرسة على الإسلام والتصوف في جنوب أفريقيا، فيقول الباحث زاينال عابدين إنها كانت أول مدرسة قامت في النصف الجنوبي من القارة، وأول مدرسة تمكّن فيها "العبيد" والأفارقة الأحرار من التعلم، وكانت مفتوحة للجميع.
ورغم أن المدرسة بدأت صغيرة متواضعة، وفق توثيق عابدين، لكن أثرها كان كبيرا، خصوصا على "العبيد" الذين تحسّنت أحوالهم عندما بدؤوا يتعلمون، فصار لديهم تقدير ذاتي ومعرفة أكبر بحقوقهم. كما تمكنوا من الحصول على مهامّ ووظائف أفضل لدى المُلاك الهولنديين.
وكانت المدرسة تعلم اللغة العربية والأفريكانية، وساهمت في تصحيح التصوف وتنوير المسلمين بشأن بعض الخرافات التي علقت بهم. كما خرّجت مجموعة من الدعاة والنخب المسلمة، كان لها دور مهم في المجتمع.
جزيرة روبن التي سجن فيها الشيخ أحمد عبد الله السنوسي ومانديلا (الجزيرة)وبعد سنة من بناء المدرسة، تزايد تشييد المساجد والمدارس الإسلامية، وتوالى الدعاة والزُهاد، وبعد قرن ونصف تقريبا ظهرت الحركة الإسلامية الجنوب أفريقية ونضجت مبكرا، فأسست حركات مدنية تصدرت النضال ضد نظام الفصل العنصري.
وضمت في أعضائها مسلمين ومسيحيين بيضا وسودا، ولعبت أدوارا اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية مهمة داخل المجتمع، فكان واقع المسلمين في جنوب أفريقيا رغم نسبتهم القليلة من السكان (قرابة 2%)، أفضل من واقعهم في بلدان كثيرة.
ولعل جزءا من الفضل يرجع لـ"الطريقة السنوسية" وجهود الأمير عبد الله قاضي، الذي صحّح التصوف وقوّمه بالشريعة، وأكد رفض تمييع العبادات وتحويلها لفولكلور، وإنكار المغالاة في تعظيم الشخصيات وأسطرتها.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات فی جنوب أفریقیا إلى جنوب کیب تاون عبد الله
إقرأ أيضاً:
سوريا ومحنة النموذج
ضد الإنسانيةلم أستطع التوقف عن البكاء أو امسح دموعي كما فعلت الإعلامية زينة اليازجي وأسيطر على ألمي كما فعل المرحوم ميشيل كيلو وهو يسرد قصة فتاة لا ذنب لها إلا أنها ابنة أحد المعارضين، ليُنتهك عرضها وتنجب طفلا مجهول الأب، سجين الظلم معها لا يعرف غيرها وسجانيها، لا معنى للضوء ولا الشجر ولا العصافير ولا أي من معالم الحياة، وكأن السجان أراد أن يقول لميشيل كيلو إن هنالك ظلما نفعله أكثر من ظلمنا لك.
الظالم فاقد الفهم لمعنى الآدمية والتفكير السوي والحس المتوازن، اليد التي يعذب بها يمسح بها رأس ابنه، واليد التي تجبر ضحيته تعذيبا أو اغتصابا يمسح بها شعر ابنته، لكنه يتحرك بغرائزه وقد جند منظومته العقلية للإبداع في الشر كذلك فعل إبليس، فهو وحش مقيد بالعبودية.
أما المظلوم فانه قد يفقد الآدمية جبرا ونزقا أو خوفا ورعبا، ولن ينسى ظلم ظالمه حتى لو نجا وتمكن من الظالم هذا وتجاهل الألم أو سامح ظالمه، فالانتقام رد فعل غير منضبط قد تسيطر عليه الطيبة الآدمية أحيانا، وغالبا ما يصنع الانتقام وحشا يحب الظلم قدر كرهه للظلم حين وقع عليه، وهذه المشاعر غالبا تقود إلى تعاظم فاعلية منظومة تنمية التخلف، لأننا في موازنة الحياة إما أن نختار دوار الدم ونتبع الانقسامات وفق الروابط الهابطة الإثنية أو الطائفية أو الخلافات الأيديولوجية دون أن نجد آلية احتواء وتفاهم، فيعتبر التعدد تنوعا أو نتبع الرغبة بالانتقام والتمييز فيكون الاختلاف الذي يقود إلى دورة أخرى من تبادل المواقع، لكنه أبدا لا يبني دولة ولا ينتج مدنية فالمدنية تحتاج استقرارا لتنمو.
هذه الفتاة لا تمثل نفسها وابنها لا يمثل واقع شعبها، بل هي كل البلاد ومعظم الأرض التي تعيش البشرية فيها تحت الاستبداد بأنواعه وأشكال من القهر، كل الأبرياء الذين يُتهمون ويدفعون ثمنا، إنها تمثل مدى ما وصل إليه نفوذ إبليس في الآدمي بل أشد سوءا.
نموذج1: سوار الذهب:
عبد الرحمن سوار الذهب قام بتعديل نظام الحكم وهو رجل صاحب دين وتقوى، لكنه كان فاهما أن الأدبيات الإسلامية ما زالت تستمد أحكامها من التاريخ وبيئته وليس من استقراء الواقع واستنباط ما يلائمها، ثم ترك الأمر للأمة فنجا، والتاريخ سجله أيقونة نادرة في العصر المظلم.
إن القرآن يتفاعل مع الزمان والمكان، لكن نحن تقليديون نعتبره وكأنه أتى من الماضي، ونقدس تفسيرات مضى زمنها كسلا بينما هو موحى به لا يمر عليه الزمن وينزل ليُفهم في كل زمان.
فقول قائل إنه سيطبق شرع الله، لن يكون متصورا عند الناس وأحسب أنه يحتاج مراجعة، فالأمة منقطعة عن الشريعة عمليا زمنا طويلا، وهي شريعة خرجت باجتهادات بشرية فيها الكثير من الجدل، ومع هذا توقفت نهائيا وتعرض المجتمع للتغيير والأفهام اختلفت، لا يمكن أن تأتي بنظام جاهز إلى العصر الحاضر وتطبقه قالبا تضع فيه مجتمعا ليس مرنا، فيه زوائد وامتدادات كمجتمعنا. لا تقل إن الناس مسلمين وهذه شريعتهم، فالناس مسلمون بغريزة التدين والفاهم للإسلام يعلم أن هذه شريعة تاريخية باجتهاد فقهاء عصرها، فيها الكثير مما يحتاج مراجعة، والهدف التمكين للأمة بنسيجها وليس التمكين هو التمكن عليها، وسيحاول أعداء الأمة إثارة المعارك بغير زمنها وأرضها لتغييب الاستقرار والإصلاح.
المطلوب:
إن ما مطلوب ألا يزج الناس في قوالب تعزلهم فجأة وبشكل ثوري عن واقعهم، وهنالك تدرجات قرآنية فليس هنالك ما هو منسوخ في القرآن وإنما الظرفية من تأتي بحكمه، "خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ" (الأعراف: 199). واجب القيادات اليوم أن تعين الناس على أخذ أهليتها، وحريتها في التفكير والنظر مليا للمجتمع لنرى ما يمكن أن ينهض به ونضعه في أعراف وقوانين ولوائح كمجتمع، وليس تقييد السلوك والمظهر الفردي وإنما يترك هذا لنتائج الثورة الفكرية، فما هدم في قرون لا يمكن أن يُصلح بقرار وإلا أتى غريبا متعسفا يجعل الناس يكفرون عندما يتعرضون لما هو خارج الواقع وتشوه الطريق، ولتكن للمواطنين خياراتهم (بلا وكالة) فهم مسؤولون عنها أمام الله، هذا ما ينبغي فهمه وتوضيحه.
نموذج2: العدالة والتنمية:
التجربة أثبت أن الإسلام لا يختلف فرضه بقوة الحكم عن فرض الاشتراكية أو الشيوعية في مجتمعنا المحافظ ولا فرض غيرها من النظم، فأجبر الناس على النفاق ليضيع الإيمان، فما انحسر أن القهر باسم الإسلام حتى نزعت الحجاب ممن هي تحجبت طوعا في زمن ما وارتد الشباب حتى انتشر الإلحاد لتخلف النموذج الشديد وظلمه بغض النظر عن المؤامرة.
فطعنة مدعي الإسلام كانت نجلاء في صدر من كان يصد طعنات أعدائه، لكن مجتمعنا المحافظ بحاجة إلى سقيا وليس إجبارا وتركيزا على المظهر، وهي عملية تصيب الجوهر بالعطب وتفشل المهمة كما فشلت الشيوعية وكل من أتى بما يقهر الناس متعجلا بدل تنمية خياراتها، ولعل النموذج التركي نموذج صالح جدا لكن دون أن ننسى تنمية الفكر والتأسيس له وهو ما يحتاج وقتا إضافيا. وهذه عملية أسهل في سوريا والشرق العربي من تركيا التي فرضت عليها لقرن قاسي علمانية لائكيه معادية لاسم الدين وحتى عباداته، بينما نحن بخير نسبة لهذا، ونجح العدالة والتنمية بحكمة من أحداث تغييرات إيجابية في المجتمع وما زال الطريق طويلا في عملية البناء الفكري وهو أصعب أنواع البناء.
فالتطرف هو أحد مفرزات فقدان الفقه الصائب للإسلام ومهمته في الحكم، والاهتمام بالمظهر يشير لخلو الجوهر وعجز استيعاب تنوع الأمة، وبالتالي الفساد الإداري والمالي والتخلف الرهيب مع فساد وعطب أداة إنقاذ المجتمع. وهي عقيدتهم وشريعة تحتاج جهدا لبنائها بما يدير مجتمعنا، ليس باللحية والخمار ومنع الغناء ولا الجزية على مواطنيك، فلا دولة بلا بناء أمة والأمة نسيج متنوع.. ليسير الناس كما هم أحرارا ثم ضخ لهم فكرا نقيا غير الفكر التاريخي والوعظ التقليدي الذي يجعل الدنيا عبئا وليس مسرح بناء؛ فيعرض الإسلام وكأنه مجموعة قوانين عقوبات وليس منهج حياة. وهذا واجب مراكز دراسات فكرية مبدعة ليست تقليدية أو نائمة في التاريخ ومستوردة لمشاكله كي تحيا على حساب إيمان وحياة الناس، فنجد النفاق والفساد تحت العباءة واللحية، سيبحث المواطن مع حريته ورفاهيته عن الحقيقة.. "فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (غافر: 44).
وللحديث بقية..