وصل التصوف إلى غرب أفريقيا من الشمال القريب عبر الصحراء الكبرى، ووصل إلى شرقها عبر القرن الأفريقي الذي لا يفصله عن جزيرة العرب غير خليج عدن.

ولكنه لكي يصل إلى جنوب القارة، كان عليه أن يُبحر على ظهر سفينة "دي فويتبوغ" الهولندية، قاطعا 20 ألف كيلومتر عبر المحيط الهندي. ورغم بُعد المسافة التي قطعها، فقد وصل التصوف إلى جنوب أفريقيا قبل شرقها بأكثر من قرن من الزمان.

في سنة 1644، توجّه الأمير عبادين يوسف إلى الحج، وكان قد بلغ حينها 18 عاما، وكان حفيدا للسلطان علاء الدين حاكم إمارة "جوا" في منطقة مكاسر وسط الأرخبيل الإندونيسي.

ضريح الشيخ يوسف المكسري الذي نشر الإسلام في جنوب أفريقيا (الجزيرة) مريدون وأتباع

وهناك قرر عبادين أن يمكث لطلب العلم والتفقّه في الدين، فظلّ 20 سنة، ثم بلغه أن الهولنديين قد احتلوا بلاده إندونيسيا، فقرر العودة للمشاركة في الجهاد لتحريرها.

وبعد 16 سنة قضاها يوسف في الدعوة للإسلام ولجهاد الهولنديين وحلفائهم، حتى تجمع حوله من أتباعه المخلصين قرابة 5 آلاف؛ ألقي القبض عليه وسُجن في جاكرتا، وفي السجن سرعان ما صار له مريدون وأتباع.

ثم نُقل إلى سريلانكا وهناك أيضا دعا الناس فأثّر في السجناء والحراس كذلك، فنقلته السلطات الاستعمارية إلى رأس الرجاء الصالح. وفرضت عليه الإقامة الجبرية في ضاحية زاندفليت قرب كيب تاون، ومنعت عليه الدعوة إلى الإسلام وأُخبر بأن عقوبة ذلك هو الإعدام.

ولكن الشيخ عبادين يوسف لم يحل شيء بينه وبين دعوة الناس للإسلام، ولم تمض سنتان حتى صارت زاندفليت أول تجمع إسلامي في جنوب أفريقيا، وقد أسلم على يديه آلاف ممن يوصفوا بـ"العبيد" الأفارقة، الذين كانوا يتسللون ليلا إلى بيته متخفّين.

وقد شكلوا أول جماعة لمريدين من "الطريقة الخلوتية" في أفريقيا جنوب الصحراء، وكان عبادين أحد شيوخها. وتعتبر الخلوتية إحدى الطرق الصوفية نسبة إلى محمد بن أحمد بن محمد كريم الدين الخلوتي، المتوفى في مصر سنة 986 هـ، وهو من أئمة الصوفية في خراسان في القرن العاشر الهجري حسب ما تشير المصادر التاريخية.

الباحث زينال عابدين أوضح أن الفضل في إقبال "العبيد" حينها على الإسلام يعود لتعاليم الإسلام نفسه (الجزيرة) تأثير كبير

وعن سر تأثيره الكبير في مجتمع مختلف اللون والثقافة واللسان، يقول أستاذ الفلسفة والباحث في التصوف بجامعة كيب تاون زينال عابدين، "كان الفضل في إقبال "العبيد" على الإسلام عائدا أولا لتعاليم الإسلام نفسه، وما يقرره من مساواة بين البشر من بيض وسود".

وحسب عابدين، وجد "العبيد" في الإسلام السلاح الذي يردّون به على الكنيسة الهولندية التي قدمت نفسها ممثلا حصريا عن الإله، والديانة التوحيدية السماوية الوحيدة، وبهذا برر الهولنديون لأنفسهم وللأفارقة الاستعمار بأنه واجب إلهي لإدخالها في الحضارة وفي الملكوت.

وكان إسلام "العبيد" في ذلك الوقت بمثابة الرد على المستعمر الهولندي، بما يعني أن هناك دين سماوي آخر يقرر المساواة بين الناس ويضمن لهم الحرية، وفق عابدين.

ضريح الشيخ يوسف المكسري ويعد أهم مزار صوفي في جنوب أفريقيا (الجزيرة)

وكان الشيخ عبادين يوسف معالجا بالأعشاب، وبالرقية القرآنية، وهو ما زاد من شعبيته، إذ صار قبلة للمرضى من الفقراء، واشتهر لديهم بكرامات كثيرة ما تزال تروى عنه إلى اليوم، حسب الباحث نفسه.

كما كان الشيخ عبادين ذا شخصية نادرة، يصعب على الناس مقاومة جذبها وتأثيرها، وقد توفي سنة 1699، بعد 5 سنوات في كيب تاون قضاها تحت الإقامة الجبرية، ممنوعا من الدعوة تحت تهديد الإعدام، لكنها كانت له مدة كافية وظروفا سانحة لتأسيس "مجتمع إسلامي قوي كالبنيان المرصوص".

وما تزال طريقته "الخلوتية" حاضرة في جنوب أفريقيا، ويستقبل ضريحه آلاف الزوار سنويا. أما اسم الضاحية "زاندفيلت"، فقد تحوّل إلى "مكاسر"، التي اعتاد المسلمون تسميتها بها، فلم يحضر الشيخ إلى كيب تاون الطريقة "الخلوتية" فقط، وإنما أحضر معه اسم بلاده أيضا.

وبعد 4 عقود وصل إلى كيب تاون داعية صوفي آخر كان له تأثير بالغ في انتشار الإسلام، وهو الشيخ سعيد العلوي، القادم من اليمن منفيا هو الآخر، وكان أول من أدخل "الطريقة العلوية" إلى جنوب أفريقيا، وأول من أَمّ المسلمين في صلاة علنية.

أول مسجد بني في جنوب أفريقيا على يد الشيخ عبد الله قاضي السنوسي (الجزيرة) نضج مبكر

وبعد عقدين على وصول "الطريقة العلوية"، وصلت "الطريقة السنوسية" مع الرجل الذي سيعرف معه الإسلام في المنطقة نقلة نوعية، وهو الأمير عبد الله قاضي حاكم سلطنة تيدور في إندونيسيا، وقد نُفي إلى سجن جزيرة "روبين" سنة 1767.

وفي سجنه كتب نسخة من القرآن الكريم معتمدا على حافظته، وما تزال النسخة محفوظة في متحف "بوكاب" في كيب تاون، كما ألف كتابه "معرفة الإسلام والإيمان"، وأمضى في السجن 26 سنة، ثم غادره عام 1793 إلى كيب تاون، وكان أول شيء قام به بناء أول مدرسة إسلامية في جنوب أفريقيا.

أما عن الأثر الكبير لتلك المدرسة على الإسلام والتصوف في جنوب أفريقيا، فيقول الباحث زاينال عابدين إنها كانت أول مدرسة قامت في النصف الجنوبي من القارة، وأول مدرسة تمكّن فيها "العبيد" والأفارقة الأحرار من التعلم، وكانت مفتوحة للجميع.

ورغم أن المدرسة بدأت صغيرة متواضعة، وفق توثيق عابدين، لكن أثرها كان كبيرا، خصوصا على "العبيد" الذين تحسّنت أحوالهم عندما بدؤوا يتعلمون، فصار لديهم تقدير ذاتي ومعرفة أكبر بحقوقهم. كما تمكنوا من الحصول على مهامّ ووظائف أفضل لدى المُلاك الهولنديين.

وكانت المدرسة تعلم اللغة العربية والأفريكانية، وساهمت في تصحيح التصوف وتنوير المسلمين بشأن بعض الخرافات التي علقت بهم. كما خرّجت مجموعة من الدعاة والنخب المسلمة، كان لها دور مهم في المجتمع.

جزيرة روبن التي سجن فيها الشيخ أحمد عبد الله السنوسي ومانديلا (الجزيرة)

وبعد سنة من بناء المدرسة، تزايد تشييد المساجد والمدارس الإسلامية، وتوالى الدعاة والزُهاد، وبعد قرن ونصف تقريبا ظهرت الحركة الإسلامية الجنوب أفريقية ونضجت مبكرا، فأسست حركات مدنية تصدرت النضال ضد نظام الفصل العنصري.

وضمت في أعضائها مسلمين ومسيحيين بيضا وسودا، ولعبت أدوارا اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية مهمة داخل المجتمع، فكان واقع المسلمين في جنوب أفريقيا رغم نسبتهم القليلة من السكان (قرابة 2%)، أفضل من واقعهم في بلدان كثيرة.

ولعل جزءا من الفضل يرجع لـ"الطريقة السنوسية" وجهود الأمير عبد الله قاضي، الذي صحّح التصوف وقوّمه بالشريعة، وأكد رفض تمييع العبادات وتحويلها لفولكلور، وإنكار المغالاة في تعظيم الشخصيات وأسطرتها.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات فی جنوب أفریقیا إلى جنوب کیب تاون عبد الله

إقرأ أيضاً:

في قاع المحيط: سيارة غامضة داخل حاملة طائرات شهيرة غارقة منذ 80 عاما! (صور)

الولايات المتحدة – رصد فريق استكشاف سيارة سوداء قديمة وسط حطام حاملة الطائرات الأمريكية “يو إس إس يوركتاون” التي غرقت عام 1942 خلال معركة ميدواي الشهيرة.

وأظهر الاكتشاف، الذي تم عبر مركبة تعمل عن بعد، سيارة من طراز فورد سوبر دي لوكس “وودي” يعود تاريخها إلى أوائل الأربعينيات، ما أثار ذهول الباحثين الذين لم يتوقعوا العثور على مركبة مدنية في موقع عسكري غارق.

ووفقا لبيانات الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي، فإن السيارة التي عثر عليها على عمق يقارب 5 كيلومترات تحت سطح الماء كانت في حالة حفظ مدهشة، حيث ظهر جزء من لوحتها المعدنية يحمل عبارة “خدمة السفينة __ البحرية”، بينما بقي زجاجها الأمامي سليما رغم مرور ثمانية عقود على الغرق.

وتساءل الباحثون عن سبب وجود هذه السيارة تحديدا في حاملة الطائرات، في حين كانت السفينة تتخلص من معداتها الثقيلة أثناء الغرق لتخفيف وزنها.

حاملة الطائرات الأمريكية “يو إس إس يوركتاون”

وتشير الفرضيات الأولية إلى أن السيارة ربما كانت مخصصة لاستخدام قائد السفينة أو أحد كبار الضباط خلال فترات رسو السفينة في الموانئ، حيث كان من المعتاد أن تحمل السفن الكبيرة بعض المركبات لتنقلات الضباط.

لكن الغموض ما زال يحيط بالسبب الذي جعلها تبقى على متن السفينة حتى لحظة الغرق النهائي، خاصة بعد توقف السفينة في بيرل هاربور لإجراء إصلاحات عاجلة قبل المعركة.

يذكر أن حاملة الطائرات “يو إس إس يوركتاون” التي دخلت الخدمة عام 1937، لعبت دورا محوريا في الأشهر الأولى من الحرب العالمية الثانية، قبل أن تصبح هدفا للقوات اليابانية. وتم اكتشاف حطامها عام 1988 في حالة جيدة، ليعود اليوم إلى الواجهة من جديد بهذا الاكتشاف غير المتوقع، الذي يضيف لغزا آخر إلى تاريخ السفينة العسكرية التي تحولت إلى متحف تحت الماء يحفظ بين جنباته قصصا وأسرارا من زمن الحرب.

العثور على سيارة في أعماق البحار

المصدر: The Post

 

مقالات مشابهة

  • في قاع المحيط: سيارة غامضة داخل حاملة طائرات شهيرة غارقة منذ 80 عاما! (صور)
  • زلزال بقوة 4.6 درجات يضرب جزر تونغا جنوب المحيط الهادئ
  • تشييع جثمان الشهيد الشيخ عطوي في بلدة الهبارية جنوب لبنان
  • زيلينسكي يزور جنوب أفريقيا وسط ضغوط أميركية واحتجاجات داخلية
  • منتخب مصر للشباب فى معسكر مغلق استعدادا لكأس أفريقيا قبل ضربة البداية أمام جنوب أفريقيا
  • وصول منتخب زامبيا للشباب إلى مصر للمشاركة في بطولة أفريقيا تحت 20 عامًا
  • وصول منتخب زامبيا للشباب إلى مصر للمشاركة في بطولة أفريقيا
  • أحمد الرخ: التصوف ليس مذهبا أو فرقة بل منهج حياة متكامل
  • وصول منتخب زامبيا إلى مصر للمشاركة في بطولة أفريقيا تحت 20 عامًا
  • أسامة فخري: التصوف ليس مجرد موائد بل منهج تربوي