أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنبر الولادة القيصرية (8)
تاريخ النشر: 23rd, May 2024 GMT
وثقت رسامة الكاريكاتير الفلسطينية أمية جحا في يومياتها ذات الأجزاء العشرة، التي تنشرها الجزيرة نت، الأوضاع الإنسانية القاسية التي تدور أحداثها خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لا سيما في محيط مستشفى الشفاء، الذي وصفته منظمة الصحة العالمية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي في تقريرها الدوري بأنه "منطقة موت".
بين يديك عزيزي القارئ الحلقة الثامنة من اليوميات، التي تنشر تباعا على مدى الأيام المقبلة وتروي فيها سيدة فلسطينية من حي النصر، برج زغبر بمدينة غزة، ما شاهدته من أحداث، وقد نزحت إلى مستشفى الشفاء بغزة (حتى آخر تواصل معها قبل اقتحام المستشفى للمرة الثانية يوم 18 مارس/آذار 2024)، وافترشت بلاط المستشفى البارد في انتظار النجاة.
الأحد الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني 2023
صبيحة يوم الأحد، قررت تناول التمر والماء فقط، حتى انتهاء الحرب، لـ3 أسباب: أولها شح الخبز، وثانيها لتقليل الحاجة لحمامات المشفى، وثالثها لأغتنم الفرصة في تقليل وزني.
أغلب النازحين لم يتناولوا أي طعام اليوم، بسبب عدم وجود الخبز، وقيام الاحتلال بقصف أغلب المخابز القريبة من المشفى، وحتى البعيدة عنه، ومنها ما تم تهديد أصحابها، فآثروا الإغلاق بدلا من خسارة مخابزهم وحياتهم.
قام كثير من النازحين بشراء البسكويت الرديء المتوفر، بديلا عن الخبز لسد رمق أطفالهم الجوعى. إحدى الأمهات ضربت بعنف طفلها، لأنه تمرد على هذا الطعام. نام الولد بعدما بكى طويلا. أيقظته أمه، بعدما دبرت له رغيفا صغيرا من نازحين آخرين محشوا بشوكولاتة النوتيلا، كان سعيدا جدا وهو يأكله بنهم. إنه قلب الأم العامر بالحنان، حتى وإن قسا لحظات.
ماهر ورؤى وطه، أطفال جارتي التي تنام يميني، ينتظرون أباهم منذ الصباح، ليحضر لهم طعاما. امتد الانتظار حتى العصر. عاد أبوهم يحمل كرتونة صغيرة من التمر فقط. هذا ما استطاع توفيره، ليكون بديلا عن الخبز. أكلوا بصمت، ولم يظهروا تذمرهم، إلا بعد أن غادر أبوهم.
لقد اعتدت أن أتجه برأسي نحو هؤلاء الأطفال عند النوم، وانقطاع الكهرباء. كانوا لا يخشون صوت القصف. كنت أستمع لحديثهم الشائق عن بيتهم، وغرفة نومهم، وألعابهم، ومزروعات حديقتهم، ومدرستهم ومعلميهم وأصدقائهم وهواياتهم. ماهر في الصف الثالث الأساسي، متفوق في دراسته، وتبدو عليه علامات الذكاء الحاد، كنت أحب حديثه الأكبر من عمره.
ماهر يتمنى أن يصبح طبيبا عندما يكبر، حتى يعالج كل الجرحى، الذين يستهدفهم الاحتلال. قلت له إنني سآتي لعيادته إن مرضت. أجابني: "ستكونين عجوزا حينها، ولن آخذ منك أجرا". كنت بدوري أحدثهم عن بيتي وعملي وابنتي، وأريهم بعض الصور في جهاز الٱيباد الخاص بي.
كانوا سعداء جدا، وهم يرون عشرات الصور الشخصية المحفوظة فيه. تقوم أم ماهر بجعل أولادها متجاورين في نومهم. لم تكن تملك سوى غطاءين: واحد تضعه على البلاط ليناموا فوقه، والآخر تغطي به أولادها، وتبقى هي دون غطاء طوال الليل البارد.
إنه قلب الأم العامر بالتضحية والإيثار. قبيل المغرب، تأتي أم حسن يوميا للمبيت في المشفى، بينما تقضى ساعات النهار كله تقريبا في بيتها القريب من المشفى، تتفقد بيتها، وتنجز أعمالها اليومية، وتجهز طعامها الذي تأتي به لأحفادها النازحين في المشفى. أم حسن لها حيز معروف وسط النازحين في العنبر.
كانت دائمة الابتسامة، وصمتها وهدوؤها يغلب على حديثها مع من حولها. النازحون القريبون في سكناهم من المشفى، يفعلون مثل أم حسن. هم يعتقدون أن المشفى هو الأكثر أمانا في الليل، لأنه لا يمكن أن يتعرض للقصف، الذي يصيب البيوت بشكل دائم. في هذا المساء، جاءت أم حسن برفقة سيدة أخرى في منتصف الثلاثينيات من عمرها تقريبا، وعلى غير عادتها، كانت أم حسن حزينة جدا، وهي تسند على كتفها السيدة التي معها، والتي كانت واجمة الوجه، و كلتا يديها ترتجفان، بينما تحتفظ عيناها بدموع مشلولة، تقف على أعتاب مقلتيها، لا حراك فيها.
كانت نظرات الفضول تتجه إليهما، الكل يريد أن يعرف سر الوافدة الحزينة. بدأ قصف عنيف بعد هذا المشهد، لمنطقة أنصار ومخيم الشاطئ، بدءا من الساعة 06:30 مساء، إلى ما بعد منتصف الليل.
تنوع القصف ما بين أحزمة نارية، وقصف عشوائي يضرب في كل مكان، مما أثار حالة من الذعر الشديد بين النازحين، فكان اللجوء للدعاء هو الوسيلة الوحيدة، لبث الطمأنينة في القلوب التي انفطرت ألما بين تهجيرها من بيوتها، وملاحقة الصواريخ لها، حتى في أماكن نزوحها.
العجيب أن الكل كان يرتجف مع صوت كل قصف، إلا تلك السيدة التي جاءت رفقة أم حسن، لم تتأثر مطلقا، بل كانت تنظر فيمن حولها بكل ذهول. وكأنها اعتادت هذه الأصوات قبل الجميع. والأعجب من ذلك أن كل النازحين ناموا بعد انتهاء جولة القصف العنيفة، إلا هي. لقد بقيت ملتصقة بأم حسن، شاخصة البصر حتى أذان الفجر. إذ قامت رفقة أم حسن، وصلّت معها، ثم جلست من جديد، تتمتم بشفتيها في صمت.
تبين لي فيما بعد أنها أخت أم حسن الصغرى، قصف الاحتلال بيتها، بعد عصر أمس السبت في حي النصر، وخرجت بفضل الله سالمة من تحت الردم، بينما استشهد أبناؤها الثلاثة، بنتان وولد، أكبرهم بنت في السنة الجامعية الأولى. الأبناء الثلاثة ما زالوا تحت الأنقاض. الأب لا يعلم ماذا حدث لأسرته، إذ كان يعمل داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، ولم تتسن له العودة، بسبب إغلاق الاحتلال المعابر، عقب إعلانه الحرب على القطاع.
عرفت حينها لماذا لم يغمض جفن لهذه الأم المكلومة طيلة الليل. إنه قلب الأم الذي لا ينام، إن مس فلذة الكبد أذى. فكيف وقد تفتت فلذات الكبد، ودُفنت تحت ركام بيتها بغير وداع. أم حسن ذاتها فقدت الاتصال منذ 10 أيام مع أصغر أبنائها، وهو متزوج منذ عام، وله طفل. ابنها مواطن عادي لا ينتمي لأي فصيل مقاوم. خرج من البيت ولم يعد.
تقول لي وهي تبتسم ابتسامة الرضا: "إن كان قد قُتل، أرجو أن يتقبله الله شهيدا، ويكون لنا شفيعا، وإن كان غائبا، أسأل الله أن يرده إلينا سالما غانما"، وتتابع " في كلتا الحالتين أنا راضية بقضاء الله وقدره".
إنه قلب الأم العامر بالإيمان، استشهد كثيرون في الشوارع، من دون أن تُعرف أسماؤهم، ولا يستطيع ذووهم الوصول إليهم. كثير من شواهد القبور المؤقتة، كان يُكتب عليها عبارة "مجهول الهوية". اكتوت قلوب الأمهات النازحات في هذه الحرب، فمنهن من فقدت بيتها، ومنهن من فقدت بعضا من أولادها، ومنهن من فقدت زوجها، ومنهن من تفرق أولادها بين شمال وجنوب القطاع. أمُ صديقتي نزحت بما تبقى من أولادها وأحفادها إلى إحدى مدارس اللاجئين، في حين دُفن من استُشهد من أولادها وأحفادها في الساحة الخلفية الخارجية للمدرسة.
تقول صديقتي إن أمها لا تغادر شباك الصف الذي نزحت فيه، وهي تطل على المقبرة التي تحوي رُفاتهم، وتبكيهم ليل نهار، بينما تردد بصوت حزين أغاني التراث التي تنعى فراق الأحباب.
المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
ابنة المختطف قسريًا هاشم الهمداني تكتب: سنة في ظلام الزنزانة
أبي المختطف هاشم عبدالله صالح الهمداني: سنة في ظلام الزنزانة الانفرادية
لا أستطيع أن أصدق أن عامًا وأكثر قد مر على اختطاف أبي، هاشم عبد الله الهمداني، دون أن أتمكن من رؤيته أو زيارته ولو لمرة واحدة.
في الثامن من نوفمبر 2023، كنا نعتقد أن سفر أبي من مطار صنعاء سيكون بداية أمل جديد لعلاجه من مرض السكري وارتفاع ضغط الدم. لكن للأسف، انتهى الأمر إلى مأساة لم تكن تخطر على بال أحد. أبي، الذي أفنى عمره في كفاح الحياة وتحمل مشاقها، اختُطف ظلمًا وعدوانًا دون أن يرتكب أي ذنب. بينما كان يستعد للسفر لتلقي العلاج الذي لم يتوفر في وطنٍ أنهكته الأزمات، اقتادته مجموعة مسلحة من المطار أمام أعين المسافرين، دون أي مبرر قانوني.
ولم تكتفِ تلك الأيادي الغاشمة بهذا الفعل الشنيع، بل اقتحموا بيتنا في الصباح الباكر دون أي تصريح، وسط صرخات الأطفال وبكاء النساء. كسروا الأبواب، عبثوا بأثاث المنزل، وأخذوا أخي الكبير عمرو دون رحمة. كان المشهد قاسيًا لا يحتمل، حيث لم يحترموا حرمة بيتنا، ولم يراعوا وجود الأطفال والنساء.
مرّت سنة كاملة، وما زال أبي وأخي وأعمامي وأبناء خالاتي وباقي أفراد أسرتي خلف جدران الزنازين الانفرادية، ممنوعين من التواصل معنا أو حتى الاطمئنان على أحوالهم. سنة من الألم والقلق المستمر ونحن نعيش في انتظار لا ينتهي. الطرقات إلى أبواب القضاء أغلقت في وجوهنا، ولم نحصل على أي إجابة تُطمئننا.
لماذا كل هذا؟ إن كان لديهم أي دليل يدين أبي أو أخي عمرو أو باقي أفراد أسرتي، فلماذا لا يقدمونهما لمحاكمة عادلة؟ إن كان ما يدّعونه من اتهامات صحيحًا، فلماذا يخفونهما عن العالم ويمنعوننا من زيارتهما؟ الحقيقة واضحة؛ لا دليل لديهم سوى ظلمهم وجبروتهم.
أبي، الذي سافر لعلاج مرضه، يُترك اليوم في زنزانة انفرادية، محرومًا من أبسط حقوقه، في ظروف لا نعلم مدى قسوتها.
عام كامل وأبي بعيد عني، ليس لأنه اختار الغياب، بل لأنهم سلبوه حريته ووضعوه في زنزانة ضيقة مظلمة، لا ترى الشمس ولا تسمع فيها سوى صوت الوحدة. وهو يعاني من ارتفاع ضغط الدم والسكري. عام كامل ونحن نعيش في ألم لا يوصف، عاجزين عن رؤيته أو سماع صوته، حيث مُنعنا حتى من زيارته.
أتخيل أبي الآن في مكانه، ينظر إلى جدران صامتة كأنها تُشارك في تعذيبه، يحاول أن يحتفظ بعقله وقلبه وسط قسوة العزلة. هل يفتقدنا كما نفتقده؟ هل يتخيلنا حوله ونحن نضحك ونتحدث؟ أم أن الألم قد طغى حتى على الذكريات الجميلة؟
الآن، لا نسمع صوته ولا نرى ابتسامته. فقط نعيش على أطياف الذكريات التي صارت أقسى ما يمكن أن نملكه.
أتساءل كيف يمكن لإنسان أن يتحمل هذا الكم من الظلم؟ أي ذنب ارتكبه أبي ليُعاقب بهذه الطريقة؟ هل لأنه كان شجاعًا، حرًا، رفض أن يخضع؟ أم أن الظلم يقتات على أرواح الشرفاء فقط لأنه قادر؟
وما يكسر قلبي أكثر، أنه لم يعرف حتى الآن أنه أصبح جدًّا لأول حفيد له يحمل اسمه. حفيدته الأولى لابنه البكر عمرو هاشم الهمداني. فرحة عمره التي كان ينتظرها، جاءت إلى الدنيا ولم تستطع رؤيته. لم يتمكن من احتضانها أو حتى سماع صوتها. لا يعرف عن ملامحها شيئًا، لا يعلم كيف تنام وكيف تضحك. تلك الصغيرة، التي كانت ستعيد الحياة إلى قلبه المُتعب، حُرمت منه كما حُرم من كل شيء آخر.
أتساءل: كيف يمضي عليه الوقت وهو محروم من هذه الفرحة؟ كم ليلة مرّت وهو يفكر بنا، ونحن نفكر فيه؟ كم مرة تخيل حفيدته بين ذراعيه، يضمها بحب كما كان يضمنا؟ لكنهم قطعوا هذا الحلم، وحرمونا حتى من إهدائه فرحة بسيطة تخفف عنه ألم الزنزانة.
أصعب ما في الأمر أنهم حرمونا من زيارته، من رؤيته، من الاطمئنان عليه ولو للحظة. كم كنت أحتاج إلى نظرة من عينيه تحمل صبره المعتاد. لكنهم أغلقوا كل السُبل وطرق الوصول إليه.
ومع ذلك، مهما حاولوا كسر روحه، أنا متأكدة أن أبي أقوى من هذا السجن، أقوى من الزنزانة، أقوى من الظلم. سيعود يومًا، وسنمسك أيدينا من جديد. وسيروي لي قصصه عن الصمود كما كان دائمًا يفعل، وسأخبره أنني لم أفقد الأمل أبدًا، أنني كنت أؤمن أنه سيعود مهما طال الانتظار.
نطالب بإطلاق سراح أبي وأخي عمرو وباقي أفراد أسرتي فورًا، لقد ذقنا مرارة الظلم بما فيه الكفاية.