النعال الجلدية في النيجر.. تراث تقليدي وصناعة رائدة
تاريخ النشر: 23rd, May 2024 GMT
نيامي- تناول أحد الصينيين قدرا حديدية من أحد الباعة في السوق المركزي بالعاصمة النيجرية نيامي، رفعها إلى الأعلى وتركها تسقط أرضا، ثم سأل البائع "إن اشتريت منك هذه القدر واستعملتها للطبخ يوميا، فكم من الوقت ستصمد معي قبل أن أضطر لشراء أخرى؟"، أجاب البائع "نحو 10 سنوات"، فرد عليه الزبون الصيني بالقول "إذن، أنت لا تربح شيئا يا صاحبي".
يتداول النيجريون هذه الحكاية عند الحديث عن سر نجاح التجار الصينيين في البلد، ويقول التاجر إبراهيمو، وهو المعروف في السوق الملحق بحديقة الحيوانات، عن تلك الواقعة المتوارثة "كان النيجري معروفا بصناعة كل شيء بإتقان بغض النظر عما سيجنيه، لكن الصيني علّم التاجر المحلي كيف يربح بشكل سريع".
وعن حرفته قبل قدوم الصينيين إلى السوق النيجري، يقول إبراهيمو "في السابق كان المواطن مضطرا لشراء النعال التي نصنعها، يدفع 5 آلاف فرنك غرب أفريقي (نحو 9 دولارات) مقابلا لها، لكن مجيء الصينيين قلب كل شيء، إذ يمكنك الحصول على زوج من الأحذية بألفي فرنك غرب أفريقي فقط (3.5 دولارات)، وإذا اشتريت 3 أزواج فيمكنك الحصول عليها بثمن الزوج الواحد من نعالنا".
ويؤكد إبراهيمو -وهو رجل أربعيني- أن صناعة النعال الجلدية لم تكن قبل تسعينيات القرن الماضي مهنة لكسب لقمة العيش، لكن الأمر تغير نسبيا مع الانفتاح الذي عرفته البلاد سنة 1993، إذ سمحت الدولة لكثير من الحرفيين بمزاولة أعمالهم في المدن الكبرى، بعدما كان النظام القديم يرى فيهم ملمحا من ملامح "التخلف" وعودة بالبلاد إلى سنوات الاستعمار.
وعن هذه المهنة التقليدية، يقول إبراهيم القاسم، وهو نيجري من قبيلة الهوسا، ومسؤول إحدى الجمعيات الخيرية الأجنبية بنيامي، "لقد أعطى السياح قيمة لتراثنا الثقافي، وانتعشت الحرفة معهم، وأصبح التاجر يبيع زوج الأحذية بثلاثة أضعاف السعر الذي يدفعه المواطن المحلي".
لكن يبدو أن الشباب اليوم غير مهتم بهذه الحرفة، سواء تعلق الأمر بالناحية الاقتصادية، إذ إن ثمنها غير مشجع للأغلبية الساحقة، أو بنوعية الأحذية الموجودة في الأسواق التي يُنظر إليها كرمز للتحضر، كونها لا تختلف عن الأحذية التي يرتديها بقية الناس في ما يوصف بـ"العالم المتقدم"، بخلاف النعل الجلدي الذي يذكر بحقبة "التخلف" التي عاشتها النيجر في ظل الاستعمار الفرنسي.
ويقول إبراهيمو إن "كل بائع فيما مضى كان له ملحق صغير بدكانه يصنع فيه أحذيته بنفسه، وإن 90% من الباعة اليوم ما زالوا على هذه العادة نفسها، لكن البقية منهم يتعاملون مع صانعين محترفين يوفرون لهم مكانا لبيع منتجاتهم، ويتفاهمون على طريقة تقسيم الأرباح".
ويضيف "في نيامي هناك البازار القديم والسوق الملحق بحديقة الحيوانات، إن كنت تريد لبضاعتك أن تباع فعليك إيجاد مكان بينهما، وللأسف الدكاكين مملوكة لأصحابها منذ عقود، لهذا فإن كثيرا من الحرفيين الجدد يفضلون بيع منتجهم لأحد التجار المعروفين، بدل أن يفتحوا ورشة تخصهم في مكان آخر من المدينة".
في أحد الفنادق المعروفة بالعاصمة، تحدثت الجزيرة نت إلى أحد الباعة الذين خصص لهم صاحب الفندق رواقا لعرض تحفهم الفريدة أمام رجال الأعمال والمشاركين في المؤتمرات، وحتى السياح العابرين، يقول البائع "نحن لا نستعمل سوى جلود الأغنام والأبقار، ونادرا ما نستعمل جلود ثعابين أو تماسيح، وهي في الغالب تُستخدم في الإكسسوارات كالأحزمة والحقائب الصغيرة وحاملات المفاتيح، كما أن الزوار الأجانب يقبلون عليها بشكل أكثر".
ويضيف "لكن تلك الجلود غير رائجة عندنا، لأن الحصول عليها صعب جدا، ولأنها مكلفة"، ومن جهة أخرى، تحرم دولة النيجر اصطياد التماسيح والقردة والحمير، وتعتبر التجارة بلحومها أو جلودها جريمة يعاقب عليها القانون.
وعن نوعية الجلود المستعملة، يقول إبراهيمو إن أفضل الأنواع هو الجلد الأبيض، إذ إن تلوينه ليس معقدا، على خلاف الجلود البنية التي تظهر ألوان الصباغة عليها باهتة، مما يجعل الجلود البيضاء هي الأغلى ثمنا.
ومن أجل فهم مراحل تحويل جلود الأغنام والأبقار إلى جلود صالحة للاستعمال من قبل صانع النعال الجلدية، قادنا البحث إلى المعمل الرسمي في العاصمة نيامي، ويقول رئيس المعمل "نستقبل جلود مئات الأبقار كل يوم، نتعامل مع أكثر من 14 ألفا و500 طن سنويا، ويقوم العمال هنا بتنظيف الجلود وتجفيفها ودبغها، ولدينا ورشة لصباغة الجلود وتلميعها، وبعض العائلات من الطوارق والعرب يستعملون هذه الجلود زرابي للجلوس، وبعض التجار يأخذونها لتحويلها إلى نعال جلدية".
ويضيف "بإمكان الصانع أن ينتج من جلد بقرة سليمة أكثر من 10 أزواج من النعال، ومن جلد الخروف 3 أزواج على الأقل، وكلما كانت يد الحرفي ماهرة، تمكن من استغلال الجلد بأفضل طريقة".
ويقول إبراهيمو "كانت الطرق في بلادنا وعرة وأشبه بمسالك ضيقة، لهذا وجدنا أنفسنا نصنع نعالا تتحمل مشقة السفر، في السابق كنا نبيع زوجا واحدا من الأحذية بـ5 آلاف فرنك غرب أفريقي (نحو 9 دولارات)، أما اليوم فلا يمكنني بيعه بأقل من 20 ألف فرنك (نحو 33 دولارا)، ويعتبر أن تصدير الجلود إلى الخارج قد ضيّق على الحرفيين أمثاله نشاطهم ومصدر رزقهم الوحيد.
ولإحياء التراث النيجري، أُسّس بجهود فردية تجمع يعرف باسم "سافيم"، يقول القائمون عليه إنه منفتح على باقي دول القارة، وبدأت الفكرة بمساعدة الأرامل والمطلقات عبر تخصيص ورشات لتعليمهن صناعة الحقائب والأحذية الجلدية والملابس التقليدية، وتمكينهن من تأسيس مشاريعهن الخاصة، لكن المشروع تطور ليشمل قطاع صناع النعال الجلدية أيضا، ولاقت الفكرة نجاحا على المستوى المحلي بشكل ملحوظ، كما لقيت ترحيبا من دول أفريقية.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات
إقرأ أيضاً:
طبيب مصري مهاجر يعيد إحياء تراث الشيفتشي في قلب القاهرة
قبل نحو قرن من الزمان، استقرت عائلة قسيسية في القاهرة القديمة، حيث أسست مصنع "قسيسية للزيوت والصابون"، الذي كان الأشهر في المدينة قبل حركة يوليو/تموز 1952 وبعدها. تعود جذور العائلة إلى فلسطين وبلاد الشام، حيث اشتهرت بصناعة الصابون، لكن أحد أبنائها قرر أن يبدأ فصلا جديدا في مصر، فانطلق من حي الجمالية، حيث تأسس أول مصنع للعائلة، وسرعان ما توسعت الأعمال وازدهرت الاستثمارات.
بَيد أن التأميم غيَّر المسار، فعادت العائلة إلى نقطة البداية، ولم يَبق من إرثها الصناعي سوى مصنع "شارع النحاسين"، الذي شكَّل حجر الأساس لانطلاقة جديدة، لكنها لم تدم طويلًا. مع مطلع الثمانينيات، اختار جيل الأحفاد مغادرة القاهرة، وتفرق أفراد العائلة في أنحاء العالم. من بينهم شاب خرج من النحاسين في مطلع العشرينيات من عمره، ليستقر في كندا، حيث درس وتخصص في الطب.
لكن بعد 4 عقود، يعود إبراهيم قسيسية إلى حيث بدأت الحكاية، إلى حي النحاسين، حيث مصنع العائلة الذي تحول مع الزمن إلى "مقلب قمامة"، ليعيد إليه الحياة، ويُحوله إلى مركز الجمالية للحرف اليدوية والتراث.
في مطلع عام 2020، قرر قسيسية العودة إلى مصر، مدفوعًا بحنين لم ينقطع إلى الأرض التي شهدت طفولته ومطلع شبابه. لكن الزمن لم يترك أثره عليه فحسب، بل غيَّر أيضًا ملامح القاهرة التي يعرفها، إذ وجد نفسه أمام مدينة مختلفة عن تلك التي تركها وراءه.
لم تقتصر التغيرات على الجمالية، بل شملت شوارعها، أزقتها، وأهلها، حتى إنه وصفها في حديثه لـ"الجزيرة نت" قائلًا "لو خرج نجيب محفوظ من قبره ليعاود السير بين شوارع ثلاثيته القديمة… لوقع ميتًا مرة أخرى".
إعلانورغم القبح الذي طغى على كل شيء، لم تفتر عزيمة الطبيب المهاجر، فقرر أن يعيد إحياء تراث أجداده، ويستعيد المصنع القديم، ليعيد معه روح الجمالية كما استقرت في مخيلته على مدار 40 عامًا.
إحياء التراثعلى مدار شهر كامل، كان الهدف الأول لقسيسية هو التخلص من أكوام المخلفات التي تراكمت لعقود في مصنع الصابون. بـ3 ورديات يومية، انطلق العمل بلا توقف، حتى انتهت المرحلة الأولى، ليبدأ بعدها مشروع إعادة الروح القديمة للمكان دون المساس بجوهره. أعاد المصنع إلى سيرته الأولى، ملتزمًا بتصميمه المعماري الأصلي، مستلهمًا ألوانه ونقوشه من روح الجمالية القديمة. لكن هذه المرة، لم يكن المصنع مخصصًا لإنتاج الصابون، بل لإحياء تراث شارع النحاسين، حيث اشتهرت الورش قديمًا بتشكيل النحاس وطرقه، من خام معدني بسيط إلى تحف فنية متنوعة.
رحلة عبر الزمنما إن تخطو داخل مركز الجمالية للحرف التراثية، حتى تجد نفسك وكأنك عدت إلى 5 عقود مضت. يبدأ الاستقبال بلمسة أصيلة: فرد أمن يرتدي جلبابًا وطربوشًا، مستوحى من أزياء الأربعينيات، إلى جانبه هاتف أسود قديم، يحاكي الهواتف الأثرية في حقبة ما قبل التكنولوجيا الحديثة. ومن هنا، تبدأ الرحلة داخل المكان، حيث تنتشر ورش الحرف التراثية، لكل منها بصمتها الخاصة، وقد حرص الطبيب الستيني على اختيار أفضل من تبقى من الحرفيين الأصليين، حفاظًا على أصالة الفن وإرث الجمالية العريق.
سيد إمام آخر صناع الشيفتشي في مصرعلى مدار 63 عامًا، ظل عم سيد إمام مخلصًا لحرفته، "الشيفتشي"، التي تعلمها في طفولته على يد الحرفيين الأجانب الذين كانوا يقيمون في الجمالية قديمًا. يتذكر بوضوح تلك الأيام، حين كان في الـ12 من عمره، وكيف وهبته الحياة فرصة ذهبية للتعلم على يد من يصفهم بـ"أسطوات الشغلانة".
فن الشيفتشي.. إرث لا يجيده إلا أهل النحاسيناختص عم سيد في فن "الشيفتشي"، الذي يعني في اللغة التركية كل ما يشفّ ويصف، سواء في المعادن أو الأقمشة. غير أن هذا الاسم العثماني لم يمنح الأتراك تفوقًا في المهنة، كما يوضح عم سيد في حديثه لـ"الجزيرة نت": "سافرت إلى بلاد كثيرة من أجل الشيفتشي؛ العراق، الأردن، لبنان، قبرص، اليونان، وحتى تركيا، حيث قضيت هناك 3 شهور أعمل بخامات تركية، لكنني كنت أقدم لهم شيفتشيا مصريا أصيلا لا يتقنه سوى أهل النحاسين، وأنا آخرهم".
إعلان مركز الجمالية قبلة الحياة لحرفة أوشكت على الاندثاركان "مركز الجمالية للحرف التراثية" حلمًا بعيد المنال في ذهن عم سيد، الذي كان يخشى أن تموت الحرفة بوفاته، بعدما غابت الأجيال الجديدة عن تعلمها. لكن المركز فتح أبوابه لاستقبال متعلمين جدد، يأتون بكامل إرادتهم، لاكتساب مهارات هذه المهنة حتى الاحتراف.
يقول عم سيد بأسى "الدكتور إبراهيم منح حرفة الشيفتشي، والعديد من الحرف الأخرى، قبلة الحياة.. كان من المفترض أن تهتم الدولة بهذه المهن التراثية، لكن للأسف، لم يلتفت إليها أحد".
شغف يتجاوز حدود مصرلم يتوقف دور المركز عند إحياء الحرفة فقط، بل أصبح وجهة تعليمية لطلاب المدارس الصناعية، الذين يحصلون على دورات متخصصة في تشكيل النحاس والفضة والذهب. ولم يقتصر الإقبال على المصريين، فقد جذب المركز طلابًا من الإمارات، السعودية، وألمانيا، جاؤوا بشغف حقيقي لتعلم هذه المهنة النادرة، ليس لمجرد العمل، بل كهواية مختلفة تحمل عبق التاريخ وروح الإبداع.
عند وضع التصميم لمركز الحرف، قرر الدكتور إبراهيم، أن يضع لكل حرفة تراثية ورشة خاصة، تحمل كل منها تعريفا باسم حرفيها، ومهاراتهم وجزء منها يعرض لمنتجاتها، باللغة العربية والإنجليزية، فكانت ورشة مسعد للنحاسيات، ورشة البرنس للأخشاب، ورشة عم جابر للسجاد اليدوي.
تتشارك الورش الثلاث في أنها لآخر رجال المهنة، وأنهم أكثر أهلها مهارة وقدرة على صناعة قطعة مختلفة ومميزة، ففي ورشة السجاد، يحرص عم جابر على عرض أهم سجادة لديه قائلا "لولا عملي في مركز الجمالية لم أكن أستطيع التفرغ لعمل هذه السجادة، في ضمان راتبي الذي يكفيني ويكفي احتياجات أسرتي، هو ما جعل التفرغ لقطعة واحدة أمرا مقبولا، أما لو كنت أعمل وحدي كما السابق، كنت سأضطر لعمل المنتجات الرخيصة سريعة البيع، يتراوح سعر السجاد اليدوي في ورشة جابر من 500 إلى 5 آلاف جنيه، وربما أكثر بحسب الخامة المستخدمة: "أنا بشتغل في الصوف والخيط القطيفة، وبنشتغل هنا على النول الأصلي، والمركز أتاح لي فرصة أني أترك أثر في حرفتي وأدرب آخرين يكملون بعدي ما تعلمته ممن سبقوني.
إعلانأما البرنس، الشاب الأربعيني، الذي يعمل منذ 30 عاما في تشكيل الأخشاب، فقد جاء انضمامه للمركز مصادفة، بعد لقائه بالدكتور، وهو يمر في ورش السبح والأخشاب، وفتح له بابا لم يكن يعلم أنه سيفتح: "الدكتور إبراهيم أعاد لي الشعور بأهمية ما أفعله، رغم أن البعض يقلل من أهمية الحرف اليدوية ويراها بلا مستقبل".
تجهيز الأخشاب وتوطئتها للعمل عليها سواء كعصا أو أي أشكال أخرى"، يحكي البرنس أنه مهمة شاقة يقوم عليها أكثر من عامل في الورش التقليدية، إلا أن المركز وراتبه المستقر، أتاح له الوقت المفتوح لتجهيز كل قطعة على حدة، وإخراجها في أفضل صورة.
لا تزال أحلام الدكتور إبراهيم قسيسية للجمالية لم تنتهِ، رغم كل الروتين الحكومي والتعقيدات، وكل محاولات إيقاف ذلك الحلم، إلا أنه لا يزال مستمرا.