اكتسب الحزب الشيوعي خبرات واسعة في تكوين الجبهات والتحالفات والائتلافات مع التنظيمات بمختلف اتجاهاتها، بعض هذه التحالفات استراتيجي، كالجبهة المعادية للاستعمار وكتحالف الشيوعيين والديمقراطيين في الجبهة الوطنية الديمقراطية بمختلف أشكالها كالجبهة الديمقراطية للطلاب السودانيين ومنظمات الشباب والنساء، (اتحاد الشباب السوداني، والاتحاد النسائي السوداني)، والجباه الديمقراطية، مع المزارعين، والعمال، والمهنيين، والمبدعين، وبعضها تحالفات تكتيكية ببرنامج توافقي يمثل الحد الأدنى من التراضي ويحقق المصالح المشتركة مع قوى سياسية أخرى مستقلة كالجبهة الاستقلالية 1955، والجبهة الوطنية الديمقراطية، وجبهة أحزاب المعارضة التي ضمت كل أحزاب الحركة السياسية السودانية المناهضة لانقلاب 17 نوفمبر1958، التي طرح من خلالها الدعوة للإضراب السياسي والعصيان المدني للإطاحة بالحكم العسكري في ثورة أكتوبر 1964.

بعد ذلك شارك الحزب في العديد من الجبهات والتحالفات حسب ما أملت عليه الأوضاع السياسية، وحسب ما تتطلب أشكال المقاومة لأنظمة القهر التي تتالت في الحكم، أكبرها هو التجمع الوطني الديمقراطي الذي قاد انتفاضة أبريل 1985 وتحالف قوى الإجماع الوطني وأخيرا تحالف قوى الحرية والتغيير، الذي انسحب منه دون مسوغات مقنعة وهو في خضم الصراع مع بقايا النظام القديم.
التحالف الاستراتيجي هو نمط لعلاقة خاصة بين كيانين يعملان كفريق واحد لتحقيق أهداف على المدى الطويل لا يمكنهما تحقيقها بمفردهما، ويرتكز على الثقة المتبادلة، أما التحالف التكتيكي فهو اتحادا مؤقتا بين مجموعتين سياسيتين أو أكثر من أجل الحصول على تأثير أعظم أو نفوذا أكبر مما تستطيع الجماعات أو الأحزاب منفردة الحصول عليه، ويقوم على التفاهمات من أجل تحقيق الغايات المشتركة في القضايا ذات الاهتمام المشترك.
منذ المؤتمر الثالث 1967 حسم الحزب الشيوعي السوداني أمره فكرياً في شأن التحالفات الاستراتيجية، حينما أجاز الحزب تقريره العام الذي جاء تحت مسمى "الماركسية وقضايا الثورة السودانية" وقد خصص في ذلك التقرير شرحاً وافياً لطبيعة التحالف الوطني الديمقراطي في قطاعاته المختلفة من زراع وصناع وطلاب وشباب ونساء وما حوته الوثيقة في باب (قوى اليسار) من تحديد دقيق للروابط بين التنظيمات الديمقراطية والحزب ودورهم في النضال السياسي والاجتماعي المشترك. لكن بخصوص التحالفات التكتيكية فمازال التنظير بشأنها شحيحاً، وهو متروك للظروف الموضوعية حسب ما يمليه الوضع السياسي، لكن أعتدتنا، فيما مضى، أن الحزب هو المبادر في الدعوة لتكوين التحالف التكتيكي، وصياغة هياكله وبرامجه ومواثيقه، وهو من يقدم من أجل إنجاحه تنازلات جمة شعاره فيها (فيض البذل والعفة عند المغنم).
بالرغم من أهمية التحالفات الإستراتيجية في حياة الحزب وبناءه، إلا أن التحالفات التكتيكية أثبتت دوما أنها الوسيلة الناجعة في الحراك الثوري، خاصة حينما يكتمل البدر الثوري، ويصبح التغيير أمر لابد منه للأنظمة الديكتاتورية المتسلطة.
قبل سقوط نظام البشير، وبعد نُضْج العوامل الموضوعية للتغيير، طرح الحزب الشيوعي رؤيته التحليلية للصراع السياسي بأنه يدور بين تيارين أو مشروعين الأول مشروع الهبوط الناعم ويتبناه المجتمع الدولي، وهو يهدف إلى تسوية وإجراء إصلاحات شكلية لتوسيع قاعدة النظام الاجتماعية بمشاركة بعض قوى المعارضة مع الحفاظ على طبيعة النظام الطبقية. أما المشرع الثاني وهو مشروع التغيير الجذري الذي تبناه الحزب مع حلفاءه في قوى الإجماع الوطني، ويعمل على إسقاط وتفكيك النظام وتصفيته، واستعادة قومية أجهزة الدولة. وعليه تم سحب ممثليه في الحرية والتغيير، بعد تصنيفها بتبني مشروع الهبوط الناعم. وأسس مع بعض القوى تحالف أو ائتلاف التغيير الجذري ووحدة قوى الثورة، وهو أصغر كثيرا من تحالف قوى الإجماع الوطني وجلَّ مكوناته من تنظيمات تعتبر حليفة للحزب أو على قيادتها شيوعيين، مثل أحد فصيلي تجمع المهنيين، والاتحاد النسائي، واتحاد مزارعي الجزيرة، وبعض لجان المقاومة ومفصولو الشرطة، بينما ظلَّ تحالف قوى الحرية والتغيير بمكوناته السابقة بعد انسحاب البعثيين والشيوعيين.
تخندق الحزب خلف رؤياه الجذرية على الرغْم من التغيير الكبير الذي طرأ في الساحة السياسية بعد اعتصام القصر (الموز)، وانقلاب 25 أكتوبر 2021 على الثورة، ظل الحزب متمسكاً برؤاه حتى بعد أن اشتعلت الحرب، رغم ذلك لم يعيد الحزب النظر في تحليلاته. تم تكوين تنسيقية تقدم بهدف إيقاف الحرب، رفض الحزب الشيوعي حتى مجرد الجلوس للتحاور والتشاور معها لوقف الحرب ودعا لتكوين جبهة عريضة، تتبنى مشروع التغيير الجذري، رافعاً شعار سلطة الشعب لإنهاء الحرب. ووضع خطة من ثمانية نقاط لتحقيق تلك الغاية:
1. حل قوات الدعم السريع واعتبارها منظمة إرهابية
2. عزل ومحاسبة قادة الجيش لتورطهم في جرائم حرب قبل وبعد 15 أبريل 2023م،
3. إعادة المفصولين من ضباط وضباط صف وجنود القوات المسلحة الذين يربو عددهم على (106 ألف)
4. إحالة كل ضباط وضباط صف القوات المسلحة الذين ثبت انتماؤهم السياسي إلى أي قوى سياسية كانت إلى الصالح العام.
5. تكوين مجلس أعلى للقوات المسلحة من مفصولي القوات المسلحة
6. حل كافة المليشيات وثيقة الصلة بالمؤسسة العسكرية وتسريحهم ونزع السلاح عنهم،
7. توظيف الموارد الاقتصادية المرتبطة باستثمارات ميلشيا الدعم السريع وإمبراطوريتها الاقتصادية وحساباتها المصرفية مع موارد منظومة الصناعات العسكرية التابعة للقوات المسلحة السودانية لمصلحة تعويض ضحايا الحرب والمتضررين منها، وإعمار ما خلفته الحرب.
8. دعم خيار التحول المدني الديمقراطي وتسليم السلطة للمدنيين عبر مجالسهم الشعبية الثورية المحلية والقومية وفقاً لمرجعيات الميثاق الثوري، مع الالتزام برفض المحاصصات السياسية وحكومات الكفاءات المستقلة المكونة بشكل فوقي.
الوسيلة التي يحقق بها تلك الغايات هي العصيان المدني والإضراب السياسي رافضا المشاركة في أي عملية سياسية تبقي على العسكر في المشهد السياسي وينادي بالتغيير الكلي. لكن الحزب لم يتخذ أي خطوة تهدف إلى وقف الحرب، عكس الحرية والتغيير وتنسيقية تقدم التي قطعت خطوات طويلة في هذا الشأن.
لو أمعنا النظر في برنامج التغيير الجذري نجد أنه ليس برامج تحالف تكتيكي مؤقت بين مكونات سياسية مختلفة، بل هو أقرب ما يكون إلى برنامج تحالف استراتيجي طويل المدى، وهو مستوحى من برنامج ورؤية الحزب الشيوعي التي طرحها في دورة لجنته المركزية في يوليو 2018.
على عكس تنسيقية تقدم التي وضعت برنامج عملي قابل للتطبيق تحالف مكون من عشرة نقاط كمبادئ وأسس للحل السياسي الشامل وتتلخص في:
1. أي حلّ سياسي يجب أن يحافظ على وحدة السودان
2. تأسيس دولة المواطنة
3. وقف الحرب يجب أن تتم وفق عملية سياسية تفاوضية
4. إعادة البناء وتأسيس دولة ديمقراطية لا تستثني أحد سوى المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية وواجهاتها وتأسيس نظام حكم يضمن مشاركة تعبر عن التعدد والتنوع
5. توصيل الإعانات وتوفير الحماية للمدنيين
6. بناء وتأسيس جيش مهني قومي من كل القوات المسلحة، الجيش والدعم السريع والحركات ويعكس التنوع في كافة مستوياته
7. خروج الجيش والمنظومة الأمنية والدعم السريع من أي نشاط سياسي واقتصادي والقبول بمبادئ الإصلاح
8. التوافق على برنامج عملي قابل للتنفيذ للعدالة الانتقالية يضمن المحاسبة على الجرائم المرتكبة منذ يونيو 1989 حتى الحرب الراهنة
9. تبني سياسة خارجية متوازنة تقوم على المصالح المشتركة وتحقيق التعاون الإقليمي والدولي
10. تقوم الدولة على مبادئ حسن الجوار.
سعت تقدم، بكل ما في وسعها، لتحقيق غايتين هما وقف الحرب، وتوسيع قاعدتها السياسية، للضغط على الأطراف المتحاربة، ولتولي المسئولية بعد الحرب، سعت للجلوس مع الحزب الشيوعي الذي تعنت، كانت ضربة المعلم هي توقيع إعلان نيروبي مع عبد العزيز الحلو ومحمد نور وفق مبادئ عامة أعمق وأشمل في مضمونها وهو ما فشل فيه الحزب الشيوعي حيث دعاهما للانضمام لتحالفه الجذري، ولم يستجيبوا له.
هل عزل الحزب نفسه، هل يمكنه العمل بمعزل عن قوى الحرية والتغيير والحركات المسلحة الحلو ونور؟ هل راهن الحزب على تاريخه بطرحه لبرامج التغيير الجذري وستأتي القوى التقليدية للانضمام له في آخر المضمار كما جرى في أكتوبر 64 أبريل 85 وديسمبر 2019 ... أم أن تقدم بقيادة حمدوك ومن معه في التنسيقية قد تجاوزته خاصة بعد انضمام الحلو ونور المتوقع، هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة.

عاطف عبدالله
23/05/2024

atifgassim@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الحریة والتغییر التغییر الجذری القوات المسلحة الحزب الشیوعی تحالف قوى

إقرأ أيضاً:

الصين: الاستراتيجية العسكرية الأميركية أصبحت أكثر تصادمية وتدميراً للنظام الدولي

الصين: الاستراتيجية العسكرية الأميركية أصبحت أكثر تصادمية وتدميراً للنظام الدولي

مقالات مشابهة

  • في اشارة إلى الحزب الديمقراطي.. الجعيدي: “المتأسلمون” أشد ضرراً من العلمانيين في المشهد السياسي
  • ديمقراطية ضد الديمقراطية عند مارسيل غوشيه ماذا تعني عند الشيوعي السوداني
  • الجيش السوداني والقوة المشتركة يسيطران على قاعدة الزرق الاستراتيجية بولاية شمال دارفور
  • بعد مرور أكثر من سنتين على تشكيل حكومته..السوداني”يتذكر أهمية تنفيذ ورقة الإتفاق السياسي مع حزب تقدم”
  • القوات الامنية تعتقل صاحب مقاطع التغيير قادم في العراق
  • الجيش السوداني: القوة المشتركة سيطرت على قاعدة استراتيجية بمنطقة الزرق
  • الصين: الاستراتيجية العسكرية الأميركية أصبحت أكثر تصادمية وتدميراً للنظام الدولي
  • هل يقع التغيير بالثورة في اليوم العاقب لها: الثورة الفرنسية مثالاً (2-2)
  • في مسقط رأس آل الأسد.. سكان القرداحة بين الأمل في التغيير والقلق على المصير
  • وزير الخارجية الأمريكي: نحن نتحمل مسؤولية وقف المعاناة وإنهاء هذه الحرب ودعم الشعب السوداني