شبكة اخبار العراق:
2025-02-17@02:16:40 GMT

الأثر الأجنبي في تاريخ المسرح العراقي

تاريخ النشر: 23rd, May 2024 GMT

الأثر الأجنبي في تاريخ المسرح العراقي

آخر تحديث: 23 ماي 2024 - 12:38 مد. ضياء خضير الحديث عن المسرح العراقي خلال فترة طويلة تبلغ حوالي مائة عام من تاريخه، كما هي الحال في كتابنا الأخير عنه، متشعِّب وطويل، ولا يمكن لباحث مهما بذل من جهد وطاقة أن يدّعي الوصول فيه إلى الكمال، لا.. لأن هذا المسرح يمتاز بالخصب والنماء، ولا لأنه يضمُّ تراثاً واسعاً عريقاً، بل لأن هناك دائماً جوانبَ عديدة تستدعي البحث والتنقيب سعياً وراء مصادرها الأصلية والثانوية، سواءً أكانت هذه المصادر أجنبيّة أم محلية، معاصرة أم تنتمي إلى الماضي.

وهكذا، لابدَّ من الاعتراف أنه رغم الأهمية القصوى التي تحتلها بعض الفنون الدرامية في الحياة الشعبية العراقية، فإنها لمْ تستطع أن تخلق لنا أدباً مسرحياً يمكن الاعتماد عليه في أية دراسة منهجية. فإذا أستثنينا “التعزية” التي أفردنا لها مبحثا بسيطا، فقد كانت هذه الفنون جميعا ارتجالية لا أثر فيها للنص المكتوب، فهي تعتمد على الحركة والإيماء بشكلٍ أساسي، وليس لها قواعد وأصول متّبعة ومتطّورة، ومن ثمَّ لا يمكن إعتبارها “مسرحاً” بالمعنى الدقيق للكلمة، على الرغم من أنها تشّكل قاعدة هامة لأعمال مسرحية لاحقة.
ولئن كان ما وصلنا من تراث العرب الأدبي قبل الإسلام لا يزيد على قصائد شعرية ذات طابع بدوي في لغتها وصورها وتصوراتها الوجودية العامة، فيما شكّل الفن المسرحي ركنًا أساسيًا في التراث الفني والأدبي والفلسفي والأسطوري والملحمي اليوناني الذي اعتمدت عليه أورپا القرون الوسطى في نهضتها الحضارية الشاملة، فإن ذلك كفيل ببيان الكيفية التي يحتل فيها الفن المسرحي ذو الطبيعة الجمعية لدى الغربيين مكانة رفيعة في البناء الثقافي والاجتماعي الغربي، في حين بقيت الصورة الوجدانية للقصيدة العربية تمثّل صوتَ الشاعر الفرد وذاته المغرقة في التأمّل الوجداني والتبجُّح الخطابي الذي لا ينتمي فيه الشاعر لغير نفسه وقبيلته.وهي تختلف بالتأكيد عن مبدأ الحوار المسرحي الذي يخرج فيه الشاعر من أسوار عزلته الذاتية ليقيم حوارًا مع نفسه ومع الآخر، سواء كان هذا الآخر سلطة دينية أم سياسية أم اجتماعية. وهو أمر لم يكن متاحًا لشاعرنا و”مثقفنا” العربي بنفس الطريقة حتى حينما خرج من صحرائه وعاش في مدينة كبيرة مثل بغداد ودمشق والقاهرة وقرطبة خلال تلك القرون “الوسطى” إلا في حدود ضيقة.
ومن هذه الزاوية نجد أنفسنا أمام حقيقة ثابتة، وهي أن ما اصْطُلحَ على تسميته بـ “الأدب المسرحي” لم يتوفر للحياة الثقافية العربية إلا بعد ظهور النص المسرحي المنقول عن الغرب.وكتابنا هذا محاولة لدراسة الأثر الأجنبي في هذا المسرح من وجوهه المختلفة، المتصلة بالعلاقة مع النصوص الأجنبية، والكيفية التي يتم فيها تقديمها في بيئة اجتماعية وثقافية مختلفة، على صعيد الموضوع والتمثيل والإخراج والسينوغرافيا أو الفضاء المسرحي بكل تقنياته وتفاصيله ضمن الهدف المحدد في هذه الدراسة. وهو هدف يجري التركيز فيه على النص المسرحي، وما يتصل به أو ببعض نماذجه المترجمة والمعدة والمؤلفة في المراحل التاريخية المختلفة منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى الثمانينات من القرن الماضي، أو على وجه التحديد بين عام 1880 الذي ظهرت فيه مسرحية لطيف وخوشابا المعدة عن المسرح الفرنسي، وعام 1980 الذي كان بداية الحرب العراقية الإيرانية التي توقف فيها المسرح العراقي أو اتخذ مسارات واتجاهات أخرى.
لقد كان المسرح، في الواقع، ثمرة من ثمرات الاتصال الحضاري بين الشرق والغرب، ذلك الاتصال الذي أعقب الحروب الصليبية، وحملة نابليون على مصر، والنشاطات التبشيرية، ثم الفتوحات الاستعمارية التي خضعت لها أغلبُ مناطق العالم العربي، ومنها العراق.ومع تطور النشاط المسرحي في العراق واتساعه واقترابه شيئاً فشيئاً نحو فهم أوسع لمتطلبات الدراما وشروطها، يُصبح من اللازم أن نبحث في الأصول التاريخية الكامنة وراء ذلك، والتي جعلت المجتمع العربي بشكل عام، والعراقي أو فئات محددة منه بشكل خاص، يتقبل هذا الفنّ الطارئ ويمدّه بأسباب البقاء. لأن الفن المسرحي، كما هو واضح، نتاج الواقع وحصيلته الحضارية التي تنعكس فيها صفات الأمة ومميّزاتها الخاصة على صعيد اللغة والموضوع وأسلوب الخطاب. إذ لا يمكن لفن من الفنون أن يزدهر في مجتمع من المجتمعات بمجرّد النقل والاقتباس، وإنما ينبغي أن تكون الظروف مهيّأة لأستقباله وإمداده بأسباب الحياة. وذلك يتطلب دراسة الظروف الحضارية التي ساعدت على ظهور هذا النوع الأدبي الجديد (gerne littéraire)، والتغيرات التي أصابت البنية السياسية والإقتصادية والاجتماعية في نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن الماضي، وأثرُ كل ذلك على المناخ الفكري والثقافي السائد في البلاد.
إن تبادل الأشكال الثقافية هو نتيجة منطقيّة للاتصال الذي يتم بين المجتمعات المختلفة؛ والعامل المهم لدينا ليس هو أن المسرح العربي – كشكل فني – مستعار من الغرب، وإنما الكيفية التي يتم فيها استخدام هذا الشكل في النصوص العربية والمعرّبة، وذلك عن طريق الكشف عن العناصر الأجنبيّة في هذه النصوص من ناحية، والعناصر المحلية الداخلة في تكوينها، من ناحية أخرى.وبما أن الأمر في هذا النوع الأدبي الدرامي لا ينتهي بقراءة النص على الورق، وإنما يتعدّاه إلى محاولة رؤيته مجسِّداً على الخشبة، أو قياس إمكاناته الدرامية، يمكننا أن نتصور حينئذ الجهد الذي كان على الباحث بذله لينتهي إلى نتائج معقولة في بحثه.وربما سيكون من الأفضل أن نترك هنا أمر تقرير أهمية هذه النتائج إلى غيرنا، واضعين في الاعتبار ما كان يخامرنا من شعور بأننا كنا نجوسُ في أرض بكرٍ في مساحات غير قليلة منها خلال بحثناً. وقد كانت كتابتنا عن بعض النصوص المسرحية العراقية الأولى وإجراء مقارنات بينها وبين أصولها الفرنسية عملًا أصيلًا لم يسبق إليه أحد من الباحثين قبلنا حسب علمنا، كما كانت إشارتنا إلى ما انطوت عليه بعض جوانب تراثنا العربي كتلك التي وجدناها في بعض أحاديث ابن دريد أو”مقاماته” من إشارات لوجود ألعاب خيال الظل والعمل به في بصرة القرن الثالث الهجري – التاسع الميلادي، جديدة لم يسبقنا أحدٌ إليها فيما أظن ضمن الجهد المبذول لتأصيل بعض الظواهر والنشاطات المسرحية في تراثنا العراقي والعربي القديم، فضلا عن دراستنا المقارنة الأخرى التي حاولنا فيها ملاحقة الأثر الأجنبي في النصوص الدينية والتاريخية والاجتماعية والدرامية الأكثر حداثة في تاريخ المسرح العراقي بمراحله الزمنية المتعددة.
لقد اقتبستْ البرجوازية العربية الشكلَ المسرحي من الغرب، وظلت جميع أشكال التعبير الدرامي المحلي ذات الطابع الشعبي الموروث عن الماضي عاجزةً عن نقض هذه الحقيقة. وقد اتخذت هذه البرجوازية المسرحَ وسيلةًّ من وسائل التعبير عن مطامحها؛ يؤكدّ ذلك ما نصادفه عند المسرحيين العراقيين الأوائل، مثل غيرهم من المسرحين العرب، من عناية باللغة، وبالجانب الديني والتعليمي والأخلاقي.
وفي فترة لاحقة كان الرجوع إلى التاريخ والتراث يقع ضمن هذه الرغبة في اتخاذ هذا النوع الجديد وسيلةً من وسائل النهوض القومي. ومع ذلك فقد رأينا أنه كان من الصعب على الكتَّاب العراقيين الذين ظهروا بين الحربين أن يخلقوا دراما تاريخية حقيقية على لطريقة الأوربية التي حاولوا تقليدها؛ أي دراما تُثير الحاضر عن طريق تناولها للماضي، وتستطيع أن تطرح، عبر ذلك، أزمة التاريخ الوطني والظرف الحرج لحياة الشعب العراقي، والناجم عن التخلّف والاستعمار والتجزئة والتسلط الحزبي والفردي، والطابع العشائري المهيمن على العلاقات الاجتماعية في البلاد منذ قرون. وهذا الضعف العام الذي كان يُضفي مسحة تجريدية على المسرحية التاريخية ذات الأهمية الخاصة في تاريخ المسرح العراقي، يكشف عن ضعفٍ آخر في علاقة الكاتب المسرحي العراقي بالواقع المعيش. وقد بيّن “جورج لوكاش” في كتابه “الرواية التاريخية” أن علاقة الكاتب بالواقع التاريخي لا يمكن أن تكون مختلفة مبدئياً عن علاقته بالواقع عموماً. ومن المعروف أنه كلَّما كانت علاقة الكاتب بفترة تاريخية معيّنة أعمقَ كان أكثرَ قدرةً على التحرّك داخل موضوعه، وأقلَّ شعوراً بالمعطيات التاريخية المباشرة.
لقد كانت عبقرية “والتر سكوت”، على سبيل المثال، تكمن في أنه أعطى الرواية التاريخية الأوربية تلك الأفكار التي تسمح لها ب “الحركة الحرّة” حسب تعبير لوكاش، وبذلك مهَّد الطريق لتطوّرها؛ في حين أنّ التقاليد الثقيلة والأفكار المشوَّشة التي كانت لدى الكاتب العراقي عن التاريخ والدراما التاريخية قد أعاقت حريَّة التحرك هذه، ومنعت حتى بعض المواهب الأصيلة، كتلك التي لدى سليمان الصائغ وخالد الشواف من أن تتطوَّر. ولهذا فحين حاولت المسرحية الاجتماعية التي رافقت المسرحية التاريخية أولاً، ثم ازدهرت هي الأخرى خلال سنوات الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، أن تتجه بأنظارها إلى الواقع المعيش، فشلت، هي الاخرى، وسقطت في مطب التقليد للميلودراما الأوربية العنيفة حينا، والرومانيتيكية الحالمة حينا آخر.
وظلت المسافة بين التعبير المسرحي والواقع الاجتماعي في أغلب النصوص واسعة، بعيدة. وبعبارة اخرى، فإن هذا المسرح كان بعيدا عن عكس روح الواقع العراقي وحقيقة الشخصية الوطنية وهمومها الاجتماعية على نحو كافٍ، على الرغم من أن الجهود التي بذلتها الفرق المسرحية المختلفة خلال هذه الفترة قد اسهمت في تثبيت وجود هذا النوع الأدبي الجديد. وعلى الرغم من أن بعض رجال المسرح كموسى الشابندر، وشهاب القصب قد نجحوا بالفعل في إضفاء شيء من الحيوية والخصوبة على أعمالهم المسرحية، فإن الأوضاع الاجتماعية والثقافية العامة لم تكن مهيأة لتطوير هذا النوع الأدبي والدرامي الجديد، وجعله أداة حقيقية من أدوات الوعي أو “مدرسة الشعب”، كما يتم الإعلان عنه دائما.ومع تقدم الوقت، أحدث ازدياد الاحتكاك بالحضارة الأوربية نوعا من الوعي بالذات والواقع المعيش بطريقة أكثر حدة، وانطلق عديد من الكتاب يعيدون النظر في الاوضاع القائمة ويتطلعون إلى تغيير بعض العادات والتقاليد لأنها لم تعدْ تتلاءم مع الواقع الجديد، وتعوق حركة التقدم إلى الأمام. وظل المسرح في البلاد واحدا من سمات الحداثة، ووسيلة من وسائلها في آن معا.
وعلى الرغم من أن رجل المسرح في العراق لم يحسن دائما، كما سنرى، تمثّلَ الاثر الأوربي شديد الأهمية في هذا النوع الأدبي طوال الفترة التي سبقت ثورة 1958؛ فقد كان ظهور كاتب مسرحي مثل يوسف العاني خلال الخمسينات من القرن الماضي، واستمراره في العمل المسرحي كممثل وكاتب يعد علامة طيبة من علامات تطور هذا الفن. وقد رأينا أن المستوى الذي بلغته أعمال هذا الكاتب وعدد آخر من رفاقه في سنوات الستين والسبعين من القرن الماضي خصوصا، تشهد على أن فن المسرح في العراق قد بدأ بالفعل يجتاز سنوات مراهقته الطويلة وبدأ مرحلة البحث عن طريقه الخاص.
فقد تطورت ثقافة الكاتب والمخرج والممثل الدرامية، واتسعت آفاق تجاربه وازدادت إمكانات اطلاعه على المدارس الغربية وتعمقت نظرته النقدية. ولم يعد تناوله للموضوعات الواقعية فجّا أو مباشرا، كما كان في السابق. كما لم يعد التعامل مع الأثر الأجنبي في الكتابة المسرحية ساذجا أو بسيطا. بل إن زيادة فرص الاطلاع على واقع الدرما الأوربية والأمريكية كان يترافق دائما مع الإصرار على البحث عن الهوية الوطنية الخاصة، لإضفاء شيء من الألوان المحلية والأصالة على العروض المسرحية، دون أن يمنع ذلك بطبيعة الحال من استمرار بعض محاولات التجريب المتأثرة بشكل مباشر ببعض المدارس المسرحية الأوربية الجديدة كمسرح العبث، مثلا.
وقد رأينا أنه حتى في هذا النوع من المسرح لا يندر أن نرى كاتبًا قصصيًا وروائيا مقتدرا وأصيلا مثل فؤاد التكرلي يدلي بدلوه في الكتابة المسرحية ذات الطبيعة الحوارية المتجهة إلى الفهم وطرح الأسئلة السياسية والفلسفية والوجودية المؤرقة، والذي كانت دراستنا لمسرحياته أو حوارياته وعلاقتها بمسرح العبث الفرنسي، هي أول دراسة تكتب عن هذا المسرح.لقد كان أثر الواقع السياسي واضحا في توجهات الكاتب العراقي خلال الفترة الأخيرة من عمر المسرح العراقي. فكانت المسرحية السياسية المعبرة عن الأيديولوجية الاشتراكية والتقدمية هي المطلوبة بالدرجة الأولى. وقد حاول الكاتب والمخرج العراقي كلاهما أن يوجّها الأعمال المقتبسة عن المسرح الاوربي باتجاه هذه الأيديولوجية، حتى إذا كانت هذه الأعمال لا تندرج تماما تحت لافتاتها. وقد حظيت أعمال مسرح بريخت الملحمي بعناية خاصة، كما سنرى. لأن مسرح هذا الكاتب الألماني مسرح سياسي “تقدمي” بطبيعته. ولأن تقديم أعماله وقراءتها كان يثير لدى رجل المسرح العراقي الرغبة في تناول مشكلات الواقع العراقي والبيئة المحلية بطريقة مشابهة.
واستخدام الأشعار والأغاني في هذا المسرح بشكل خاص يلبّي لدى الشرقي حاجة متأصلة إلى هذا النوع من المتعة الصوتية الممتزجة بالمتعة البصرية، بل إننا نعتقد، إضافة لهذا، أن قراءة مسرح بريخت كانت واحدة من الدوافع نحو البحث عن شكل مسرحي محلي ومزج بعض الأساليب الدرامية الموجودة في تراثنا العربي كالراوي، والحكاية في هذا المسرح وغيرها من عناصر الفرجة العراقية والعربية القديمة.إن ازدياد الاهتمام النقدي وتطور الإمكانات التكنيكية وبناء بعض المسارح وعودة عديد من المبعوثين من الذين درسوا المسرح في الدول الشرقية والغربية المختلفة.  كلُّ ذلك قد خلق جوا مشجعا تحوّل المسرح معه بالفعل إلى واحدة من الظواهر الحية في بعض المراحل الزمنية، على الرغم من الرقابة الحكومية والحزبية التي لم تكن تترك أمام الكاتب فرصة كافية لاختيار الموضوعات المسرحية ومناقشتها بحرية. وقد اصبحت رؤية بعض العناوين معلقة مدة ثلاثة اشهر أو أربعة متوالية أمرًا ليس نادر الحصول في العاصمة بغداد حتى خلال فترة الحرب. وهو أمر يشير إلى أن هذا النوع الادبي الذي أخذه العراقيون مثل غيرهم من العرب عن الأوبيين قد بدأ يتحول إلى ظاهرة ثقافية حقيقية ويجد له مكانا بين أنواع أدبية اخرى كالشعر والقصة، حتى إذا كانت المسرحيات المقدمة ذات طبيعة شعبية وتجارية لا تخلو من سطحية وابتذال.
وأنا آمل أن استعراض هذا الكتاب بفصوله ومباحثه المختلفة تجعلنا قادرين على استعادة جانب من تاريخنا العراقي الذي يتعرض للتشويه والضياع، عبر قراءة الجهود المبذولة في في هذا الفن الذي رافق نشأة الدولة العراقية الحديثة وأسهم في صناعة جانب من الوعي الوطني وحاول، مع أنواع أخرى، أن يعكس جانبا من حركة الذات العراقية في صورتها الجمعية البعيدة عن الأداء الفردي في الأنواع الأدبية الأخرى كالشعر والقصة، من أجل تأكيد حضورها وقدرتها على التفاعل مع المجتمع والعالم من حولها.
واستعارة النص المسرحي الأجنبي ومحاولة تعريبه أو تعريقه أو الكتابة على مثاله، واستثمار تقنياته وجمالياته السردية لدى عرضه على الجمهور يمثل جزءا من الحاجة الدائمة إلى الآخر. وهي حاجة رأينا في بعض أجزاء هذا الكتاب كيف أنها لا تخلو من تناقض ومفارقة يجري فيها استعارة الخطاب المسرحي الأجنبي من أجل نقضه أو تعديله وإفراغه من جانب من محتواه وقيمه الفكرية والفنية. وتقطُّع االجهود المسرحية العراقية وعدم انتظامها هو في الواقع تقطّع حياة وارتباك مجتمع بذل رجال هذا المسرح، كلٌّ من موقعه، جهودا جبارة من أجل جعله قادرا على استيعاب طموحات ثقافية وجمالية يتجاوز بعضُها واقعَ هذا المسرح وإمكانات عموم جمهوره على التواصل والفهم.
والخطاب المسرحي رغم طبيعته الجماعية لا يختلف بذلك عن بعض نماذج الأدب العراقي الأخرى ذات الطبيعة الفردية التي تظهر تهافتا وعجزا عن فهم الواقع العراقي المعيش واشتراطاته المختلفة عن واقع المجتمعات الأوربية. والمقارنة الشيقة التي أجراها الشاعر فوزي كريم بمناسبة حديثه عن “تهافت الستينيين” بين مثقفي روسيا القصرية في القرن التاسع عشر، ومثقفي ستينات القرن العشرين العراقيين في اندفاعتهم المتماثلة في تطرفها باتجاه الأفكار المجردة دون التفات إلى الواقع الأرضي وإخضاع الفعل السياسي التاريخي المغيّر إلى أهوائهم المبدعة في حقل العواطف والمخيّلة، ذات دلالة خاصة في هذا السياق. فعلاقاتنا الثقافية الاستلابية، نحن ستينيي العراق، مع الغرب ليست من الطينة نفسها، كما يقول فوزي كريم:
“نحن أضعف بكثير وأبعد. وإذا ما خرج إلينا شاتوف عراقي فلن يكون بنفس الحرقة، ولا بذات العصبية. فنحن كمثقفين لم تأسرنا الحياة الغربية بحكم علاقة ملموسة كما أسرت المثقف الروسي، حتى صار يؤمن أن تلتحق روسيا بعائلتها الغربية. بل أسرنا الكتاب الغربي، وبواسطة الترجمة. تعلقنا بثقافة غربية على ورق سيء الطباعة، وكان أشبه بتعلق مراهق من محلة باب الشيخ بحسناء في فيلم أمريكي” (أنظر، فوزي كريم، تهافت الستينيين، ص 18).
وصورة هذا المراهق من محلة باب الشيخ المتعلق بحسناء في فيلم أمريكي، يمكن أن تؤلف أيضا مشهدا نمطيًا واستعارة تمثيلية لبعض نماذج البطل في مسرحنا العراقي التي خلقها مثقفنا المتعلق بصورة الشخصية الرومانسية في المسرح الغربي، كما ظهرت في عدد من النماذج التي عرضنا لها في بعض فصول هذا الكتاب. وهي في صورتها العامة مشكلة منهجية في الثقافة العربية والعراقية سبّبتها طبيعة علاقة المثقف العراقي بالسلطة المحلية، وليست فقط نتيجة علاقة هذا المثقف الملتبسة بالثقافة الأجنبية.
وما دفع كثيرا من الأدباء والنقاد نحو المناهج الشكلانية والبنيوية ذات الطبيعة “العلمية” و”الموضوعية” المحايدة التي تقصي التاريخ والواقع الاجتماعي هو الهروب من ضغط الرقابة والنظام الشمولي. وقد كان “مسرح الصورة” وجماليات الشكل والديكور المجردة، والعناية المبالغ فيها بالسينوغرافيا نوعا من هذا الاهتمام الذي يجري التركيز فيه على توفير إشارات وعلامات لتوكيد المعنى في الفضاء المسرحي. ولكنّ ذلك وغيره من محاولات شكلية لم يكتب لها التطور والاستمرار بسبب من طبيعتها التجريبية نفسها، وخلوّها أحيانا من المعنى والدلالة بالنسبة للكثيرين.

المصدر: شبكة اخبار العراق

كلمات دلالية: من القرن الماضی المسرح العراقی هذا المسرح المسرح فی الذی کان ل المسرح لا یمکن فی بعض فی هذا ما کان

إقرأ أيضاً:

المسرح العربي بين التراث والحداثة.. هل وجد التوازن؟

للتراث قيمته وأثره في الثقافة العربية، حيث يحضر في الشعر والأدب، وفي شتى أشكال الفنون، متسيّدا في المسرح حصرا على عدد من الأعمال والدراسات والأبحاث، وارتكز المسرح العربي على الأعمال التي انبثقت فكرتها من الموروث، بما يعكس روح الأصالة في الأمة العربية.

وبدأت تزحف تيارات الحداثة في بناء المسرح في شكله وتقنياته، مقتبسًا ذلك من المسرح العالمي، وتمازجت النصوص الكلاسيكية المستوحاة من التراث مع الأعمال التي تتناول القضايا المعاصرة، فلم يكن البناء بالشكل التراثي أمرا سهلا، بل هو بحاجة لقراءة عميقة في الموروث التاريخي في مجالات الأدب والفن والتقنية، ليكون الجمع بين الأصلة والمعاصرة بأسلوب جاذب وهادف، ويحقق رسالة العمل المسرحي.

ولكن السؤال الذي يمكن طرحه: هل وجد المسرح العربي توازنًا حقيقيًا بين هذين التيارين؟ من هنا جاء هذا الاستطلاع مع مجموعة من المشتغلين في المسرح من مختلف أقطار الوطن العربي.

كيف يتم تقديم التراث بشكل معاصر يجذب الجمهور الحديث؟

تحدث المسرحي السعودي "سامي الزهراني" حول تقديم التراث والتاريخ العربي في المسرح بأسلوب يجذب الجمهور، وقال: إن ذلك قد يتأتى من أربعة أوجه أولها (المؤلف)؛ فالكثير من المؤلفين يفتقد إلى مهارة البحث والسبر في أغوار التاريخ والتراث؛ ليقطف أجمل الأفكار ليعيد صياغتها وبلورتها بشكل جديد تتناسب مع عصرنا الحالي، كما ألحظ أن المؤلف المسرحي العربي عندما يريد أن يقدم على كتابة مثل هذه النصوص المسرحية يجب أن يمتلك الجرأة، والثقافة، والقراءة والاطلاع، وفن الاختزال".

وأضاف الزهراني: "المواضيع التاريخية والتراثية العربية بها الكثير من التفاصيل والسرد والتي كثيرا ما يقف أمامها المؤلف المسرحي حائرا ولا يستطيع اختزالها؛ لأنها مرتبطة ببعض ومتسلسلة الأحداث لذلك نرى دائمًا ما تنجح الأعمال التاريخية والتراثية تلفزيونيًا، وذلك بسبب أن الكاتب التلفزيوني لديه مساحة لمناقشة مثل هذه التفاصيل، أما المؤلف المسرحي عليه أن يختزل هذه الأحداث في مدة زمنية معينة وهو وقت المسرحية ويربط الأحداث والوقائع بعضها ببعض بشكل سلس ومقبول أو سوف تسقط وتفشل المسرحية عند عرضها".

واستطرد الزهراني فقال: "الوجه الثاني (المخرج)، وللأسف هناك عدد من المخرجين انساقوا خلف بعض المدارس الغربية التي حدت من وجود رؤية إخراجية عربية حديثة لتطويع الأعمال التاريخية والتراثية بشكل يظهر هذا التأريخ والتراث بالشكل المطلوب والمقبول لدى الجمهور، مع عدم وجود مخرج عربي شجاع يحاول أن يخرج عملا تراثيا أو تاريخي برؤية معاصرة و حديثة تبعث فيه الحياة من جديد، هناك عامل مهم أيضًا لدى المخرج يحد من الأقدام لديه لإخراج مثل هذه الأعمال هو شعوره بعدم تقبل الجمهور لها، الإحساس بالمسؤولية الكبيرة حيال إخراج مثل هذه الأعمال وأنها سوف يتحمل وزر فشلها.

وحول الوجه الثالث قال الزهراني: "(المنتج) وهو من أوجه إشكالية تطويع التأريخ والتراث في المسرح، فالمنتجون لهذه الأعمال هم في الغالب ينتجونها لمناسبات معينة في زمن معين ولا يوجد لديهم دافع لاستمرار عروضهم مرة أخرى، لذلك فهذه العروض تتميز بالبذخ في الإنتاج من خلال ديكورات وملابس تستخدم لمرة واحدة فقط، فالمنتج يعي أن مثل هذه الأعمال المناسباتية لن تعيش طويلا ولن يتم عرضها مرة أخرى فهي لم تنتج إلا لمناسبات معينة.

الاستمرارية هو الوجه الرابع، وأضاف الزهراني: "من أهم العوامل التي قللت من استمرار عروض المسرحيات التي تستلهم التاريخ والتراث هذا العامل يعد الوجه الرابع لإشكالية تطويع التأريخ والتراث هو ارتباط المواطن العربي بتاريخه وتراثه والإلمام به جيدا يجعله بعيدًا بعض الشيء عن العروض التي تستلهم من التأريخ مع اختفاء عامل الغموض والإثارة في مثل هذه العروض الذي يقلل من فترة حياتها، يمكن القول أيضا أن تماس هذا العروض مع واقعنا المعاصر والمعاش ضعيف بضعف المقدرة لدى المخرج والكاتب لذلك ينفر منها الجمهور.

وقال سامي: إنه لا تزال هناك بعض المحاولات لاستعادة مثل هذه العروض من خلال المهرجانات المسرحية العربية والدولية في الدول العربية، مهرجان الدن الدولي هو أحد هذه المهرجانات الذي استطاع من خلال الدورات السابقة أن يدعم مثل هذا التوجه من خلال ثلاث مسابقات (الكبار، الطفل، الشارع) كانت كفيلة لعرض مثل هذه العروض التي تستلهم التأريخ والتراث في مهرجان واحد.

تأثير الحداثة والتقنيات الجديدة

وحول ذلك قال سامي الزهراني: "يتعامل المسرحيون مع تحديات تقديم قضايا معاصرة ضمن إطار مسرحي بعدة طرق، تطوير النصوص بكتابتها بلغة معاصرة، مما يسهل على الجمهور فهم الموضوعات المطروحة، والرمزية لتقديم قضايا معقدة بطريقة مبسطة، فالرمزية تساعد في إيصال الرسائل بشكل غير مباشر، كما أن الابتكار في الأداء باستخدام أساليب جديدة في التمثيل والإخراج يجذب انتباه الجمهور، مثل دمج عناصر من الفنون الأخرى (كالرقص، والموسيقى).

وأضاف: "إن تعزيز التفاعل المباشر مع الجمهور في بعض العروض يساهم في فهمهم للقضايا المطروحة ويجعلهم يشعرون بأنهم جزء من النص المسرحي، وتوظيف التكنولوجيا باستخدام الوسائط المتعددة والتكنولوجيا الحديثة يمكن أن يساهم في تقديم القضايا بشكل جذاب، وتنوع الرؤى في تناول أكثر من مخرج أو كاتب في تقديم نفس القضية من زوايا مختلفة، واستخدام أساليب ومدارس إخراجية حديثة قد يثري النقاش حول الموضوع أو قضية النص المطروحة".

الجمهور والنقد

وتحدث المسرحي السوري "رضوان سالم" عن تقبل الجمهور للابتكار في الأعمال المسرحية فقال: "برأيي الشخصي أن الجمهور المسرحي يتقبل كل ما يعرف على خشبة المسرح سواء كان عرضا تقليديا أم كان مبتكرا شريطة أن يقدم العرض بشكل عالي السوية من حيث الشكل والموضوع؛ لأن المسرح بمفهومه الواسع هو جنس فني دخل متأخرا إلى عالمنا العربي وصار أحد أهم اهتماماتنا الثقافية؛ لأن سحره يجذب إليه المشاهدين وأن سحره يجعل المتفرج يخرج من زمنه إلى زمن العرض مستغرقا في متعة بصرية وسمعية تلامس الواقع حينًا والخيال حينًا آخر".

الحداثة إضافة أم قطيعة

وحول ما إذا كانت الحداثة قد أضافت للمسرح العربي قال المسرحي الدكتور محمود سعيد: "يمثل فكر الإنسان مركز الكون فهو المنبع والمصب في ذات الوقت، لذا بزغت مفردة الحضور حسب ما قالت به الميتافيزيقا، إلا أن الفلسفات الحديثة انطلاقا من مارتن هديجر أكدت على مفهوم الغياب الذي يقول إن للذات جوانب سرية أو خفية لا تحضر في الوعي، ولا يتمثلها الفكر إنما تبقى غائبة، من هنا انطلق جاك دريدا طارحا سؤاله المهم وهو: كيف ندفع بالوعي إلى تجاوز مبدأ الوحدة ومظاهر التطابق مع مقولاته، لذا برزت لعبة تحري الآخر المغاير عبر منطق السؤال، فالسؤال دوما هو البطل لا الإجابة، فمن شأنه تخطّي عقبة انغلاق الفكر على ذاته وتماثل مقولات الوعي مع بعضها، إذن نقطة الانطلاق هي نص الآخر، والوعي بنص الآخر هي في الأصل من شأنها أن تقارب حدود هذا الآخر الذي أتى بالحداثة، والتي بكل تأكيد أضافت لمسرحنا العربي الكثير والكثير ولكن تلك الإضافات كانت مشروطة بشرط ضمني، وهو أن شعور الواحد بالآخر يثريه عبر الاختلاف، فعبر لعبة الاختلاف تبدو مساحات من التجاور، هذا التجاور هو الضامن الحقيقي لاحتواء الحداثة وتفاعلها بشكل حقيقي مع المسرح العربي، إذ إن لعبة اكتشاف هوية المسرح العربي في ظل الحداثة كانت تستلزم الخروج عن الهوية كي يتم كشفها بعيدا عن أصحاب الوعي المطابق، وهو رافض أحيانا للتحديث والحداثة، لذا نؤكد وبكل قوة أن الحداثة قدمت إضافات واعية للمسرح العربي، ولم تشكل أي قطيعة مع الماضي.

توازن بين التراث والحداثة

وقال المسرحي رضوان سالم حول التوازن بين التراث والحداثة في المسرح العربي: "لقد أغرى التراث الشرقي بارتياد آفاقه ونقله إلى مخبر التجريب، والتدريب هنا شكل من أشكال الحداثة، ونحن بصفتنا مسرحيين عرب لدينا الرغبة في توفير المتعة لاكتساب الجمهور الفائدة التي هي غاية العرض المسرحي بمجمله فإن مسرحة موروثاتنا الأدبية والشعبية والأسطورية والحكائية هي في غاية الأهمية، حيث إن التجريب والذي هو نوع من أنواع الحداثة في الفن المسرحي، بيد أن كتابة النص لينتقل بالتالي إلى المؤلف الثاني وهو المخرج الذي يفك شفرات النص لتؤديها بتكامل جميع مفردات العرض بوصفه عملية إبداع معقدة تملك قوة تعبيرية تحافظ على تيار التواصل ما بين الخشبة والصالة".

وأجاب رضوان سالم حول سؤالنا عن المسرحيات التي تتناول موضوعات معاصرة باستخدام تقنيات تقليدية فقال: "لا أرى مانعًا من تناول موضوعات معاصرة باستخدام تقنيات تقليدية وخير مثال على ذلك هو نص مسرحية الملك للراحل سعدالله ونّوس الذي أراد من مضمون النص أن يتحدث عن موضوع النزعة السلطوية لمن يجلس على العرش، وأما الأشكال المسرحية التقليدية وعصرنتها وهذا ما نجده جليًا في عرض رائعة شكسبير روميو وجوليت، وتقديمها بشكل عصري في فيلم أمريكي معاصر دون تغيير أي كلمة في حوار النص المسرحي، وبشكل عام الاتكاء على التراث وإسقاطه لمشاكل وقضايا اجتماعية أو سياسية معاصرة أمر في غالية الأهمية".

وحول ذلك قال الدكتور محمود سعيد: "المسرح فن قلق يحمل القلق بشكل مستمر لدرجة أن فعل القلق تحول إلى أحد أهم مفردات اللعبة المسرحية الجادة التي تسعى إلى التجديد وكسر النمط، وهو انتعاش للمفردة المسرحية في حد ذاتها، فليس من الطبيعي أن يقف المؤلف المسرحي عند منطقة عفا عليها الزمن متمسكا بمفردات بالية لم يعد لها استخدام ولا قيمة متناسيًا ثقافة الصورة البصرية، ورعب المشهد المسرحي الحديث والطابع الجمالي المرتبط بالتكنولوجيا بقوة، المقترن بالتجريب والابتكار، إذ تحولت الحداثة إلى أفق أوسع للتفكير عبر لعبة تجاوز الزمن ومرونة الفضاء والعاب السينوغرافيا المذهلة التي انتزعت الصورة المشهدية انتزاعا مرعبا؛ لتؤكد أن وهم سيطرة اللغة المحكية على خشبة المسرح أصبح بالفعل دربا من الخيال، لذلك من الطبيعي أن يتفاعل المسرح مع التقنيات الحديثة بكل قوة".

التراث من منظور حداثي

وقال الناقد البحريني يوسف الحمدان: "الموضوع شاسع ويحتاج لمساحات من الكلام، الحداثة أصبحت ضرورة في الحياة، لا نتحدث عن الحداثة فقط، بل جاء الزمن للحديث عما بعد الحداثة، وهذا الأمر أسس له الكثير من الفلاسفة وأصحاب القراءات الفكرية المختلفة في الوطن العربي، من أسماء لا حصر لها الآن. عندما نتحدث عن التراث مثلا فهو أيضا خضع للحداثة، فمن أي زاوية نتحدث عن التراث؟".

وأضاف: "هناك من توقفت عقليته في زمن معين، قراءات قارة لا تتحول ولا تتغير، فبالتالي يرى التراث من منظوره الأفقي، وهناك من يقرأ التراث من منظور حداثي، فكيف يفكك التراث، ويفتت كل التفاصيل في التراث؟، وكيف يبعث في التراث حياة جديدة؟، وبالتالي يصبح قراءة وخطابًا إشكاليًا يستدعي ويقتضي حوارا إشكاليا آخر، هكذا تتطور المجتمعات، وهكذا يتطور الفكر، دون ذلك سنظل في مساحة ميتة".

واستطرد في حديثه بقوله: "ثانيا الأمر يعتمد على نوع الخطاب، الخطاب إن كان له رغبة في المجتمع سيحدث ثورة، أما إذا كان الخطاب صادرًا عن فرد –كما نقول أذن في خرابة- فالمجتمع لا يستجيب لهذا الخطاب وهذه مشكلة، فيحتاج صاحب هذا الخطاب إلى صبر ليستطيع أن يتسلل إلى المجتمع ويسرب ويؤثر بخطابه على الآخر.. نحن كمجتمعات الآن لا ننمو بالتدريج، فنحن أمام الثورة التكنولوجية، والتحولات المجتمعية الخطيرة، وناقوس العولمة وخطورته وإيجابيته أيضا على مجتمعاتنا، فكيف نستطيع أن نفهم هذه الأشياء وفق رؤية دقيقة؟ وهذا يقتضي تغيير الرؤى في أكاديمياتنا في الوطن العربي؛ فالأكاديميات تخرج مجموعة كبيرة من المجتمع، فإذا ظل الفكر في الأكاديميات تقليديًا، أو فلنقل فكرًا متوازنًا أو مهادنًا فلن يتغير في المجتمع شيء، تحتاج إلى تغيير المنظومة الأكاديمية سواء أكانت فنية أو علمية أو مسرحية أو موسيقية أو اجتماعية؛ لأن المجتمع ميدان خطير للتحول والتغير".

واختتم الحمدان حديثه عن الحداثة في المسرح بقوله: السؤال الملح الآن: لأي مدى يمكننا أن نوجد في مدارسنا أشخاصًا مؤهلين لفهم هذه المنظومة الحداثية أو ما بعد الحداثة، وكيف نوصلها بالأساليب المختلفة عن الدراسات والتعليم والتلقين القاتل الذي خلق عقليات مخرسنة ومعلبة ومسردنة، وبالتالي لا يمكن أن تطور، تحتاج إلى أناس ينشئون هذا الجيل على وعي جديد؛ لأننا لا نريد لأجيالنا الجديدة أن تعيش على أزمنة الماضي يقتات مما قاله الآخرون، بل لجيل ينقل ويحاور ويغير، جيل قادر على التفكير، وبالتالي يصبح منتجا، فما ينقصنا في هذا الوقت هو إنتاج المعرفة، فنحن مستهلكون للمعرفة، ومستهلكون لثقافتنا التقليدية، ولدينا صراعات لم تنته حتى الآن بين المتحرر والتقليدي المتصنم، وكيف نستطيع أن نخرج من هذا القالب الإسمنتي الخرساني الثقيل، ونجعل منه غشاء حريريا نستطيع أن نمر من خلاله، هذه مشكلة تعاني منها مجتمعاتنا العربية، وأضيف على ذلك أن الفكر وتحولاته والحداثة تقتضي حرية، والإيمان بفكر جديد، ومراجعات عقلانية تستطيع أن تردم الأسوار القديمة، لم تستطع الألمانيتان أن تتوحدا قبل قدم هدم سور برلين، ورغم أن هذا السور منطقة حضارية، لكن التواصل خلق مجتمعا آخر، غيّر السياسات في الحاجز، أما لدينا فما زالت هناك أسوار بين الشخص والآخر ربما تكون أشد سمكا من سور الصين وسور برلين، نحتاج أن نزيح هذه الأسوار حتى ننتج أفكارًا تليق بالحداثة ومابعدها".

بعد استعراض الآراء المختلفة حول مسألة التوازن بين التراث والحداثة في المسرح العربي، يبقى التساؤل مفتوحًا: هل وصل المسرح العربي إلى معادلة تحقق هذا التوازن؟ أم أن البحث ما زال مستمرًا؟ ومن سيكون الرائد في تحديد مستقبله؟

مقالات مشابهة

  • «الداخلية»: بيع كلاب بوليسية وخيول على مدار 3 أيام في الأكاديمية وإدارة الأثر
  • المسرح العربي بين التراث والحداثة.. هل وجد التوازن؟
  • إخلاء سبيل اليوتيوبر أحمد أبو زيد في قضية الاتجار بالنقد الأجنبي
  • قرار عاجل من محكمة طنطا.. إخلاء سبيل اليوتيوبر أحمد أبوزيد في قضية النقد الأجنبي
  • ضبط قضايا بـ6 ملايين جنيه للنقد الأجنبي غير المشروع
  • رقم قياسي لتدفقات الاستثمار الأجنبي من الصين إلى الخارج
  • عمر فرج يكشف تفاصيل استكمال مشروع الفنان الراحل محمود الجندي المسرحي
  • ما شروط الترخيص لشركات الصرافة للتعامل في النقد الأجنبي؟.. القانون يجيب
  • عمر فرج يواصل مشروع محمود الجندي المسرحي في البحيرة
  • الإذاعة المصرية منارة الإعلام التي رسمت تاريخ الأمة.. تفاصيل