(يقال الخطأ في السياسة مأذون إلا الخطأ الذي لا عمار بعده. ولعل الخطأ المزلزل القاتل هو ما ارتكبته الحركة التقدمية في “تحررها” مما كنا نسميه المنظمات الجماهيرية وهي اتحادات النساء والشباب والطلاب والعمال. وكانت حجة المعارضين التقدميين على ذلك التحرر أن الإنقاذ لن تسمح بمثله وقد عرفت مغبته عن كثب من خبرتها في العمل السياسي في نفس الجبهات.
وهذه كلمة نعيت فيها الحركة التقدمية التي صارت تتكفف العالم إشراقات الحداثة لأنها فشلت في انباتها بين أهلها كما فعل جيل الاربعينات ومن بعده. فإذا كانت من عبقرية للحزب الشيوعي السوداني فهي أنه لم يكن حزباً فحسب، بل كان حركة اجتماعية شاملة وطّن المعاني الدقاق في وطن آخر بين النساء والشباب والطلاب والعمال والمزارعين. وصدرت هذه الحركات الاجتماعية في أشواقها عن نفسها وفي توقيتها وبإمكانيتها وفي جدل مع مجتمعها وعراك أولا وأخيراً. كان مرجعنا في تحرير المرأة برنامج الاتحاد النسائي لا سيداو.
إلى المقال القديم:
تسود دوائر الحكم والإعلام في أمريكا شفقة على جماعتين ستتركهما من ورائها في أفغانستان بعد انسحاب أمريكا منها. والجماعتان هما “عملاء” أمريكا، أي أولئك الذين أعانوها في مهامها في بلدهم بصور مختلفة. أما الجماعة الثانية فهي، للأسف، النساء اللائي ستنقض عليهن طالبان العاقبة للأمريكان وتردهن سيرتهن الأولي حريماً بعد تحرر. ومن بين الجماعتين فالفرج ل”عملاء” أمريكا ميسر بأخذهم إلى أمريكا. وبالطبع فلا سبيل لأخذ نساء أفغانستان عن بكرة أبيهن لأمريكا. وسيكون من الصعب، متى صحت شفقة الأمريكان، وصف حظ النساء من الحقوق في أفغانستان ك”تحرر” طالما ارتهن بوجود الأمريكيين. فهو في الحق “تحرير” مفروض من عل من قوة لها وصاية من نوع ما على الخلق. وجربنا في السودان هذا التحرير الوصائي في صورة قانون محاربة الختان لعام ١٩٤٦الذي وقع لنا بإرادة قوة أجنبية سيئة الرأي في ثقافتنا وسدنتها من الرجال. ومعروف مثل هذا الاستنقاذ للنساء من أمتهم ب”الإسعاف الاستعماري” (colonial rescue). وكانت نساء الهند أحد ميادين تطبيقه الكبرى.
طرأ لي إطار الإسعاف الاستعماري هذه طوال تفكيري في سيداو. ومع أنها وثيقة للحقوق صادرة عن الأمم المتحدة، التي لا سبيل لمقارنتها بالاستعمار إلا أن شرعيتها، مثل إنقاذ الاستعمار، مؤصلة في غير البلد المعني بالاستنقاذ إلا من رحم.
وبالطبع لا بأس بسيداو لولا أن عالميتها هي أقوى حججها. فالتصديق عليها في عقيدة التقدميين أوجب الواجبات لأنها مما أجمع عليه العالم في منبره المعروف. ولا أجد لها مع ذلك صدى في حركة متغلغلة في أوساط النساء عندنا جميعاً. ولما لم نستنهض النساء في حركة لتحررهن أصالة جنحنا للتحرير وكالة باستنفار العالم وعهوده لتعزيز مسألتنا. فأضحت سيداو عندنا مثل تميمة مطلبية دولية نقابية. فمن ناهضها عصى الأمم المتحدة لا لأنه حر في هذا ودواؤه في حمله بالحكمة والموعظة الحسنة في سياق حركة نسائية جذورية تفرض أجندتها بثقلها السياسي والاجتماعي.
وبدا لي أننا ربما استسلمنا بشأن حقوق المرأة للإسعاف الأممي. فقرأت قبل أيام عن انعقاد المؤتمر الثالث لمنظمة بلان، فرع السودان بمدينة الأبيض، تحت شعار “البنات يقدن التغيير”. وناقش المؤتمر، الذي وفدت إليه مائة بنت من أرجاء السودان، قضية زواج الأطفال. وتحدث في المؤتمر رئيس مكتب كردفان للجمعية ومسؤولة مكافحة العنف ضد الأطفال في مكتب الجمعية بالسودان. ولا أعرف كثير شيء عن جمعية بلان ولكن واضح أنها منظمة عالمية من نوع ما ولها فرع في السودان وقائمة في “إسعاف” المرأة السودانية. وفوجئت بأنه لم تخاطب المؤتمر أي قائدة لأي منظمة نسائية في المدينة. وهكذا نرى بالعين المجردة تغلغل العالم في تحريرنا مما بنا حين أضربنا عن التحرر أصالة بحركة اجتماعية تحشد الأفئدة والعزائم لسن تشريعات تقدمية للمرأة تلغي مثلاً قانون الأحوال الشخصية لعام ١٩٩١.
السياسة في أبسط تعريفاتها أنها محلية، فلن تغنينا سيداو عن الاشتباك ظفراً وناباً مع حقائقنا غير الرحيمة وعلى مرأى ومسمع من القوى المحافظة أو الملتاثة. هذا إذا أردنا لحقوق النساء أن تتوطد لا يشفقنا عليها تقلب عالمي ليس بيدنا. وسنعطى سيداو نفسها صيتاً سيئاً إذا كانت هي كل حجتنا للتحرر. فلو كان لعالمية سيداو من نفع فهو في مساعدتنا إحكام نقدنا للقانون الوطني المعيب بحق النساء لا في أن تكون هي التنزيل لذلك الحق من سماء العالم.
ستعلم نساء أفغانستان متى أصابهن مكروه برحيل الأمريكان عنهن أن المتغطي بالعالم عريان. والعالم عريان بالفعل من بعض وجوهه. فبوسع أي مغالط في سيداو أن يفحم السيداوي بقوله إن أمريكا بجلالة قدرها لم تصادق على سيداو. فمعلوم أن أمريكا زجت بالاتفاقية في صراعها الثقافي القائم أبداً بين التقدميين والمحافظين. فتجمدت. فاعتزلها المحافظون لأنها، في تعريفها للعائلة وأدوار النساء والرجال، ستحطم العائلة التقليدية. وهذا ما يثيره خصوم سيداو عندنا. وعلاوة على ذلك فالعالم بصورة عامة يتقهقر أمام أعيننا عن المرامي التقدمية التي كانت الحداء والأمل. فنشرت “الفورنبوليسي” الأمريكية مقالة عن هذه الرجعة القهقري نوهت فيها بهمة النساء أنفسهن في هذه الرجعى. فجاءت بذكر منظمة المؤتمر العالمي للنساء الذي نشأ في ١٩٩٧ لترويج القيم المسيحية على نطاق عالمي. واستصحبت المنظمة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لحماية الأسرة كالمرتكز الطبيعي والأساسي للمجتمع واجب الحماية من الدولة والمجتمع.
العالم يُنْتَقص الآن من أطرافه التقدمية. واستشهادنا به في مثل سيداو، نظن أنها القول الفصل، غير مأمون
عبد الله علي إبراهيم
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
وزير الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية يفتتح النسخة الثانية من المؤتمر الدولي لسوق العمل
الرياض : البلاد
تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود – حفظه الله -، افتتح معالي وزير الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية المهندس أحمد بن سليمان الراجحي، اليوم، النسخة الثانية من المؤتمر الدولي لسوق العمل 2025، تحت شعار “مستقبل العمل” في مركز الملك عبد العزيز الدولي للمؤتمرات بالرياض، بحضور 40 وزيرًا للعمل من دول مختلفة، تشمل مجموعة العشرين وأوروبا وآسيا ومنطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، والأمريكيتين، إضافةً إلى المدير العام لمنظمة العمل الدولية السيد جيلبرت هونغبو، ومشاركة خبراء وقادة عالميين، وما يزيد على 5000 مشارك و 200 متحدث من صُنّاع سياسات العمل، والخبراء، والمختصين من أكثر من 100 دولة.
وأكد المهندس الراجحي، في كلمته الافتتاحية، أن المؤتمر الدولي لسوق العمل منذ تأسيسه قبل عام، أصبح منصة رائدة لتشكيل مستقبل أسواق العمل، بفضل إسهامات الحضور القيّمة ومشاركتهم من جميع أنحاء العالم، مشيرًا إلى أن المؤتمر يكتسب أهمية بالغة بسبب التحولات الكبرى التي تشكلها أسواق العمل وتتشكل بها على مستوى العالم.
وأوضح أن العالم يشهد تطورات تكنولوجية سريعة، وتغيرات ديموغرافية أساسية، وقضايا ناشئة مثل التكيف مع تغير المناخ، مما يتطلب اتخاذ خطوات استباقية وجريئة استعدادًا لمواجهة التحديات المستقبلية.
وتطرق معاليه إلى التحديات المتزايدة على المستوى العالمي، إذ يبلغ عدد الشباب العاطلين عن العمل حوالي 67 مليونًا، ونحو 20% من الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و 24 عامًا لا يعملون أو يشاركون في المؤسسات التعليمية أو برامج التدريب، ويعاني ما يقرب من 40% من أصحاب العمل صعوبة في شغل الوظائف الشاغرة بسبب عدم تطابق مهارات القوى العاملة مع متطلبات سوق العمل، حيث تتجاوز نسبة بطالة الشباب 30% في بعض مناطق العالم.
واستعرض عددًا من الخطوات الرائدة التي اتخذتها المملكة تحت مظلة رؤية المملكة 2030 لتمكين قواها العاملة وتحفيز التحول في سوق العمل، منها برامج التدريب والمبادرات التشريعية، وإطلاق إستراتيجية تنمية الشباب في المملكة، وسياسة التدريب التعاوني.
وكشف عن مبادرتين تهدفان إلى تحويل التحديات إلى فرص، الأولى: إطلاق “أكاديمية سوق العمل”، التي تتخذ الرياض مقرًا لها، والثانية: “تقرير استشراف المستقبل”، لتقديم توصيات عملية بناءً على أبحاث متعمقة، ويقدم إستراتيجيات مبتكرة لسد فجوات المهارات وتعزيز التعلم مدى الحياة.