الأحكام المشددة التي أصدرتها محكمة أنقرة مؤخرًا بحقّ عدد من السياسيين، والبرلمانيين، والناشطين الأكراد تمثل نقطة النهاية لمسار تحقيق الأمن والسلام في الداخل التركي الذي بدأه الرئيس أردوغان في عام 2009، لتنهي بذلك آمال الأكراد في إمكانية الوصول إلى نقاط توافق مع الحكومة التركية، يتم بموجبها إغلاق ملف المواجهات المسلحة الدائرة بين الطرفين منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، مما أدّى إلى مقتل عشرات الآلاف من المواطنين.

47 اتهامًا !

ففي مفاجأة لم يتوقّعها حتى أكثر المتشائمين من السياسيين الأكراد، قررت المحكمة معاقبة السياسي والبرلماني الكردي والرئيس السابق لحزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين دميرتاش بالحبس لمدة 42 سنة، بعد اتهامه بـ 47 اتهامًا، من بينها الارتباط بحزب العمال الكردستاني، وإهانة الرئيس، إضافة لعشرات الجنح والجرائم الأخرى.

والحكم بحبس شريكته في رئاسة الحزب فيغين يوكسكداغ لمدة 30 عامًا، و3 أشهر، بتهم السعي لزعزعة وحدة الدولة، والتحريض على أعمال إجرامية وتخريبية، والمشاركة في الدعاية لمنظمة إرهابية.

بينما حكم على أحمد تورك رئيس بلدية ماردين السابق بالحبس 10 سنوات، بتهمة الانتماء لمنظمة إرهابية مسلّحة، في إشارة إلى حزب العمال الكردستاني الذي تصنّفه تركيا والولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي منظمة إرهابيّة.

وتجنّبًا لخروج تظاهرات شعبية للتنديد بالأحكام، فرضت السلطات المحلية حظرًا على التجمّعات والتظاهرات لمدّة أربعة أيام في كل من ديار بكر، ماردين، سيرت، بيتليس، فان، آغري، شيرناق، باتمان، هكاري، قارص، وهي المناطق ذات الأغلبية الكردية في شرق وجنوب شرق تركيا.

ردود فعل داخلية وخارجية

منع التظاهرات ضد الأحكام لم يمنع ردود الفعل الواسعة النطاق على الصعيدَين: الداخلي والخارجي، والتي اتّسمت في معظمها بالغضب الشديد المشوب بالدهشة والرفض، واتّفق الجميع على أن الحكم لا يستند إلى دوافع قانونية حقيقية، وأن دوافعه سياسية بحتة.

ووصف سياسيون وناشطون أكراد الأحكام الصادرة من محكمة أنقرة بأنها وصمة عار سوداء ستظلّ تلاحق مسيرة النظام القضائي التركي مدى الحياة، بينما أعرب الرئيسان المشاركان لحزب المساواة وديمقراطية الشعوب، وريث حزب الشعوب الديمقراطي، في بيان لهما عن رفضهما هذه الأحكام، حيث اعتبراها "مذبحة قانونية" تستهدف محو السياسيّين والثوريين والديمقراطيين الأكراد من المشهد السياسيّ للدولة التركية.

أوزغور أوزيل رئيس حزب الشعب الجمهوري، أكثر السياسيين الأتراك تأييدًا للقضية الكردية، انتقد بشدة الحكم الصادر بحق كل من دميرتاش ويوكسكداغ، مؤكدًا أن قضية "كوباني" التي حوكما بسببها هي قضية سياسية بامتياز.

وعلى الصعيد الخارجي، توافقت وجهة نظر غونول تول مديرة برنامج تركيا في معهد الشرق الأوسط بواشنطن مع ما ذهب إليه أوزيل، إذ أكدت أن القضية سياسية، وأن دميرتاش يدفع ثمنًا باهظًا لتصريحات سبق أن أدلى بها ضد أردوغان عام 2015، حينما أعلن:" لن نجعل منك رئيسًا مرة أخرى"، مدللة على هذا الطرح بأنّ القضية التي يعاقب عليها دميرتاش في 2024 وقعت أحداثها في 2014، وتم فتح تحقيق بشأنها بعد ذلك بستّ سنوات كاملة، أي في 2020!!.

التشكيك في منظومة العدالة

بينما أكّد مقرّر تركيا في الاتحاد الأوروبي ناتشو سانشيز أنّ تأثير هذه الأحكام سيكون سلبيًا على الملف الاقتصادي لأنقرة، وإضعاف مصداقية القضاء التركي، بل ومصداقية الدولة التركية نفسها، مما سيؤدّي حتمًا إلى إحجام رؤوس الأموال عن التواجد في بيئة تدور الشكوك حول منظومة العدالة فيها.

مشيرًا إلى ضياع الجهد الذي بذله مؤخرًا وزير المالية والخزانة التركي محمد شيمشك خلال اجتماعاته مع اقتصاديين من دول الاتحاد الأوروبي في بروكسل؛ بهدف الترويج لاقتصاد بلاده، وإقناع المستثمرين الأوروبيين بضخّ المزيد من أموالهم فيه.

قد تبدو المسألة أكثر تعقيدًا مما أشار إليه المسؤول الأوروبي، فتداعيات صدور مثل هذه الأحكام المشددة، وبهذا العدد الهائل من سنوات الحبس، ستتخطى – دون شك – الملف الاقتصادي إلى ملفات لا تقلّ عنه أهمية، خاصة أنها جاءت في سياق سياسة جديدة، أعلن عنها الرئيس أردوغان، تنطلق من مبدأ المصالحة، وإعادة ترميم الجبهة الداخلية للبلاد التي تضرّرت بشدة جراء الدعايات العدائية التي تم انتهاجها خلال الاستحقاقات الانتخابية التي مرّت بها البلاد مؤخرًا.

المصالحة التي بدأها أردوغان باستقبال زعيم المعارضة أوزغور أوزيل في مقر حزب العدالة والتنمية، وإعلانه عن نيّته القيام بزيارة مقرّ حزب الشعب الجمهوري، الأمر الذي أشاع حالة من التفاؤل والأمل داخل الأوساط السياسية التركية، بمن فيهم السياسيون الأكراد، في إمكانية التوصل إلى حلول منطقية للقضايا العالقة في المجتمع، التي لا تزال تهدد أمنه وسلامته.

حالة من الضبابية والإرباك

لكن صدور هذه الأحكام أدّى إلى ظهور حالة من الضبابية والإرباك، أصبحت تحيط بالوضع السياسي والقضائي، ففي الوقت الذي أنصف فيه القضاء عبدالله زيدان – مرشح حزب المساواة وديمقراطية الشعوب الفائز برئاسة بلدية فان، والمتهم بالتعاون مع حزب العمال الكردستاني – وطالب بتسليمه إدارة البلدية، رغم اعتراض حزب العدالة والتنمية على فوزه، يأتي اليوم ليُصدر حكمًا قاسيًا بالحبس سنوات طويلة، على قيادات كردية بنفس الاتّهام الذي وجّه لزيدان!

وعلى صعيد آخر، نجد أنّ حزب المساواة وديمقراطية الشعوب الكردي، نجح في الانتخابات المحلية الأخيرة وفاز بعشر ولايات في جنوب شرق تركيا، ذات الأغلبية الكردية، وهو ما يعني أن هناك مساحة من الحرية والديمقراطية تسمح لمختلف التوجهات والإثنيّات بالتعاطي سياسًيا، بما ينفي عن الدولة الاتهامات التي تواجهها بالتمييز والاضطهاد.

وفي الوقت ذاته، نرى أنّ نفس الحزب الذي أكد أن لديه حضورًا قويًا بين الأكراد، وأن خطابه يتوافق مع توجهاتهم، حيث نجح باستقطاب أصوات 60% منهم، وتتركه الدولة يتواجد في المجتمع، ويخوض الانتخابات، ويكون لديه نواب في البرلمان، ورؤساء بلديات، نجد السلطة تبدأ في ملاحقته، والتهديد بإغلاقه وحظره، وملاحقة سياسييه ومحاكمتهم وحبسهم.

سياسة الحركة القومية المتشددة

يبدو واضحًا للعيان أنّ العدالة والتنمية واقع تحت ضغط السياسة المتشدّدة التي يصرّ على انتهاجها حزب الحركة القومية الشريك معه في الائتلاف الحكومي ضد الأكراد، وسعيه الدائم لإغلاق أحزابهم، ودعوته لملاحقة قياداتهم السياسية، مع زيادة حدّة المدّ القومي التركي، وسطوته على عقول الأتراك الذين يتفاخرون اليوم بكونهم أتراكًا، وسيطرة هذا المدّ على الخطاب السياسي للدولة التي عادت لترفع مؤخرًا شعار: " أمة واحدة، علم واحد، لغة واحدة".

ومن المنتظر أن يظلّ هذا النهج هو العنوان الرئيس للسياسة التركية تجاه الأكراد، ما دام الائتلافُ بين الحزبين قائمًا، الأمر الذي من شأنه إعاقة أية محاولة تبذل من جانب أردوغان، سواء لعقد مصالحة حقيقية مع أحزاب المعارضة التركية، وفي مقدمتها حزب الشعب الجمهوري حليف حزب المساواة وديمقراطية الشعوب، أو لحلّ القضية الكردية سياسيًا، أو التوصل إلى توافق مع أحزاب المعارضة حول وضع دستور جديد للبلاد، بعد الشكوك التي انتابت بعضها من النيّات الخفيّة وراء هذه الدعوة.

تدشين مرحلة جديدة

إنّ الرسالة التي استشفّها الجميع من صيغة الأحكام الصادرة عن المحكمة، تشير إلى أنها تدشين مرحلة جديدة من السياسات المتشددة ضد الأكراد تحديدًا، خاصة في ظلّ الاستعدادات الجارية للقيام بحملة عسكرية جديدة في كلّ من شمال العراق، وشمال شرق سوريا، وأنّ حل القضية الكردية بالطرق السياسية السلمية أصبح أمرًا بعيد المنال.

وهو الأمر الذي يفتح الباب أمام كافة الاحتمالات، حيث من المرجّح أن تشهد تركيا صيفًا ساخنًا بكل المقاييس، مع احتمالية أن يعاود حزب العمال الكردستاني مزاولةَ نشاطاته التي تستهدف المصالح التركية، وهي الفرضية التي يبدو أنّها وراء القرارات التي تمّ اتخاذها مؤخرًا؛ بهدف تأمين المطارات المدنية، والمنافذ الحدودية؛ تحسبًا لأية مواجهات يمكن أن تحدث.

إنّ الرغبة في عقد مصالحة بين الائتلاف الحاكم وأحزاب المعارضة التركية لبدء صفحة جديدة تهدف لتحقيق الاستقرار وضمان السلم الاجتماعي ليست جدية، فهي محاولة تستهدف كسب الوقت حتى يستعيد الائتلاف الحاكم مكانته وقوته التي استنفدها خلال الاستحقاقات الانتخابيّة الأخيرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات حزب المساواة ودیمقراطیة الشعوب حزب العمال الکردستانی هذه الأحکام مؤخر ا

إقرأ أيضاً:

أحكام الصلاة على الكرسي في المسجد.. الأزهر للفتوى يوضحها

قال مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية، ان الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام وهي عِماد الدين، وأول ما يُحاسب عليه العبد يوم القيامة.

وأوضح مركز الأزهر أهم أحكام الصلاة على الكرسي في المسجد: 

١-لا تصح صلاة الفريضة إلا بشرائطها وأركانها؛ والتي منها: القيام؛ لقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ ‌قَانِتِينَ} [البقرة: 238]

٢-إذا لم يستطع المسلم القيام في الفريضة لعذر كمرضٍ أو مشقة تلحق به؛ جاز له أن يصلي قاعدًا، ولا ينقص من أجره شيئًا.

٣-إذا صلى المسلم جالسًا على الكرسي لعذر منعه من القيام، وجب عليه الإتيان بباقي الأركان من الركوع والسجود على هيئتها إن استطاع ذلك.

٤-إذا قدر  المصلي على القيام؛ ولم يقدر على الركوع أو السجود جلس للركوع والسجود، ومال برأسه فيهما وجعل سجوده أخفض من ركوعه وهو جالس.

٥-ذا أصابت المصلي مشقةٌ حال القيام والركوع والسجود تذهب بخشوعه في الصلاة، صلى على الكرسي في صلاته كلها.

٦-على المصلي أن يبدأ بتكبيرة الإحرام وهو واقف إن استطاع قبل أن يجلس على الكرسي لإكمال صلاته وهو جالس.

٧-لا حرج في اصطفاف المُصلي على الكرسي في الصف الأول سيما إذا سبق إليه، وإذا تزاحمت الكراسي في المسجد فالأفضل اصطفافها خلف الصفوف، أو في مكان معين في الصف حتى لا تُعرقل من يمر بها.

٨-تسوية الصف تكون بالأرجل الخلفية للكرسي، أما إذا كان يصلي قائمًا، ويجلس فقط للركوع والسجود فإنه يسوي الصف بقدمه حال قيامه، وعليه أن يكون في مكان لا يؤذي من خلفه.

٩-يراعي المصلي أن يكون كرسيه المعد للجلوس في الصلاة مناسبًا لإقامته في الصف ولمساحة المسجد.

مقالات مشابهة

  • عقوبات أمريكية على 3 من قيادات حماس في تركيا
  • الصدر يغرد: امريكا عدوة الشعوب
  • بعد أن حاولت إخفاء الحقيقة عن أبناء الشعوب العربية والإسلامية .. السعودية تكشف المستور وهذا ماظهر
  • الأكراد يهرعون الى كركوك للمشاركة في التعداد وفرض أمر واقع  
  • دغيم: المجلس الرئاسي ماضٍ في مفوضية الاستفتاء ولا تهمنا الأحكام القضائية
  • أحكام الصلاة على الكرسي في المسجد.. الأزهر للفتوى يوضحها
  • أمريكا تفرض عقوبات على 6 من قيادات ”حماس” وتحذر تركيا من استضافتهم
  • حماة المال العام يحذرون من سماسرة الأحكام القضائية
  • نائب محافظ عدن يبحث تنفيذ خط كهرباء ساخن لمستشفى الصداقة
  • رشيد يبحث مصالح الأكراد مع زيدان