بعد أحكام مشدّدة ضد قيادات كردية.. صيف ساخن تنتظره تركيا
تاريخ النشر: 23rd, May 2024 GMT
الأحكام المشددة التي أصدرتها محكمة أنقرة مؤخرًا بحقّ عدد من السياسيين، والبرلمانيين، والناشطين الأكراد تمثل نقطة النهاية لمسار تحقيق الأمن والسلام في الداخل التركي الذي بدأه الرئيس أردوغان في عام 2009، لتنهي بذلك آمال الأكراد في إمكانية الوصول إلى نقاط توافق مع الحكومة التركية، يتم بموجبها إغلاق ملف المواجهات المسلحة الدائرة بين الطرفين منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، مما أدّى إلى مقتل عشرات الآلاف من المواطنين.
ففي مفاجأة لم يتوقّعها حتى أكثر المتشائمين من السياسيين الأكراد، قررت المحكمة معاقبة السياسي والبرلماني الكردي والرئيس السابق لحزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين دميرتاش بالحبس لمدة 42 سنة، بعد اتهامه بـ 47 اتهامًا، من بينها الارتباط بحزب العمال الكردستاني، وإهانة الرئيس، إضافة لعشرات الجنح والجرائم الأخرى.
والحكم بحبس شريكته في رئاسة الحزب فيغين يوكسكداغ لمدة 30 عامًا، و3 أشهر، بتهم السعي لزعزعة وحدة الدولة، والتحريض على أعمال إجرامية وتخريبية، والمشاركة في الدعاية لمنظمة إرهابية.
بينما حكم على أحمد تورك رئيس بلدية ماردين السابق بالحبس 10 سنوات، بتهمة الانتماء لمنظمة إرهابية مسلّحة، في إشارة إلى حزب العمال الكردستاني الذي تصنّفه تركيا والولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي منظمة إرهابيّة.
وتجنّبًا لخروج تظاهرات شعبية للتنديد بالأحكام، فرضت السلطات المحلية حظرًا على التجمّعات والتظاهرات لمدّة أربعة أيام في كل من ديار بكر، ماردين، سيرت، بيتليس، فان، آغري، شيرناق، باتمان، هكاري، قارص، وهي المناطق ذات الأغلبية الكردية في شرق وجنوب شرق تركيا.
ردود فعل داخلية وخارجيةمنع التظاهرات ضد الأحكام لم يمنع ردود الفعل الواسعة النطاق على الصعيدَين: الداخلي والخارجي، والتي اتّسمت في معظمها بالغضب الشديد المشوب بالدهشة والرفض، واتّفق الجميع على أن الحكم لا يستند إلى دوافع قانونية حقيقية، وأن دوافعه سياسية بحتة.
ووصف سياسيون وناشطون أكراد الأحكام الصادرة من محكمة أنقرة بأنها وصمة عار سوداء ستظلّ تلاحق مسيرة النظام القضائي التركي مدى الحياة، بينما أعرب الرئيسان المشاركان لحزب المساواة وديمقراطية الشعوب، وريث حزب الشعوب الديمقراطي، في بيان لهما عن رفضهما هذه الأحكام، حيث اعتبراها "مذبحة قانونية" تستهدف محو السياسيّين والثوريين والديمقراطيين الأكراد من المشهد السياسيّ للدولة التركية.
أوزغور أوزيل رئيس حزب الشعب الجمهوري، أكثر السياسيين الأتراك تأييدًا للقضية الكردية، انتقد بشدة الحكم الصادر بحق كل من دميرتاش ويوكسكداغ، مؤكدًا أن قضية "كوباني" التي حوكما بسببها هي قضية سياسية بامتياز.
وعلى الصعيد الخارجي، توافقت وجهة نظر غونول تول مديرة برنامج تركيا في معهد الشرق الأوسط بواشنطن مع ما ذهب إليه أوزيل، إذ أكدت أن القضية سياسية، وأن دميرتاش يدفع ثمنًا باهظًا لتصريحات سبق أن أدلى بها ضد أردوغان عام 2015، حينما أعلن:" لن نجعل منك رئيسًا مرة أخرى"، مدللة على هذا الطرح بأنّ القضية التي يعاقب عليها دميرتاش في 2024 وقعت أحداثها في 2014، وتم فتح تحقيق بشأنها بعد ذلك بستّ سنوات كاملة، أي في 2020!!.
التشكيك في منظومة العدالةبينما أكّد مقرّر تركيا في الاتحاد الأوروبي ناتشو سانشيز أنّ تأثير هذه الأحكام سيكون سلبيًا على الملف الاقتصادي لأنقرة، وإضعاف مصداقية القضاء التركي، بل ومصداقية الدولة التركية نفسها، مما سيؤدّي حتمًا إلى إحجام رؤوس الأموال عن التواجد في بيئة تدور الشكوك حول منظومة العدالة فيها.
مشيرًا إلى ضياع الجهد الذي بذله مؤخرًا وزير المالية والخزانة التركي محمد شيمشك خلال اجتماعاته مع اقتصاديين من دول الاتحاد الأوروبي في بروكسل؛ بهدف الترويج لاقتصاد بلاده، وإقناع المستثمرين الأوروبيين بضخّ المزيد من أموالهم فيه.
قد تبدو المسألة أكثر تعقيدًا مما أشار إليه المسؤول الأوروبي، فتداعيات صدور مثل هذه الأحكام المشددة، وبهذا العدد الهائل من سنوات الحبس، ستتخطى – دون شك – الملف الاقتصادي إلى ملفات لا تقلّ عنه أهمية، خاصة أنها جاءت في سياق سياسة جديدة، أعلن عنها الرئيس أردوغان، تنطلق من مبدأ المصالحة، وإعادة ترميم الجبهة الداخلية للبلاد التي تضرّرت بشدة جراء الدعايات العدائية التي تم انتهاجها خلال الاستحقاقات الانتخابية التي مرّت بها البلاد مؤخرًا.
المصالحة التي بدأها أردوغان باستقبال زعيم المعارضة أوزغور أوزيل في مقر حزب العدالة والتنمية، وإعلانه عن نيّته القيام بزيارة مقرّ حزب الشعب الجمهوري، الأمر الذي أشاع حالة من التفاؤل والأمل داخل الأوساط السياسية التركية، بمن فيهم السياسيون الأكراد، في إمكانية التوصل إلى حلول منطقية للقضايا العالقة في المجتمع، التي لا تزال تهدد أمنه وسلامته.
حالة من الضبابية والإرباكلكن صدور هذه الأحكام أدّى إلى ظهور حالة من الضبابية والإرباك، أصبحت تحيط بالوضع السياسي والقضائي، ففي الوقت الذي أنصف فيه القضاء عبدالله زيدان – مرشح حزب المساواة وديمقراطية الشعوب الفائز برئاسة بلدية فان، والمتهم بالتعاون مع حزب العمال الكردستاني – وطالب بتسليمه إدارة البلدية، رغم اعتراض حزب العدالة والتنمية على فوزه، يأتي اليوم ليُصدر حكمًا قاسيًا بالحبس سنوات طويلة، على قيادات كردية بنفس الاتّهام الذي وجّه لزيدان!
وعلى صعيد آخر، نجد أنّ حزب المساواة وديمقراطية الشعوب الكردي، نجح في الانتخابات المحلية الأخيرة وفاز بعشر ولايات في جنوب شرق تركيا، ذات الأغلبية الكردية، وهو ما يعني أن هناك مساحة من الحرية والديمقراطية تسمح لمختلف التوجهات والإثنيّات بالتعاطي سياسًيا، بما ينفي عن الدولة الاتهامات التي تواجهها بالتمييز والاضطهاد.
وفي الوقت ذاته، نرى أنّ نفس الحزب الذي أكد أن لديه حضورًا قويًا بين الأكراد، وأن خطابه يتوافق مع توجهاتهم، حيث نجح باستقطاب أصوات 60% منهم، وتتركه الدولة يتواجد في المجتمع، ويخوض الانتخابات، ويكون لديه نواب في البرلمان، ورؤساء بلديات، نجد السلطة تبدأ في ملاحقته، والتهديد بإغلاقه وحظره، وملاحقة سياسييه ومحاكمتهم وحبسهم.
سياسة الحركة القومية المتشددةيبدو واضحًا للعيان أنّ العدالة والتنمية واقع تحت ضغط السياسة المتشدّدة التي يصرّ على انتهاجها حزب الحركة القومية الشريك معه في الائتلاف الحكومي ضد الأكراد، وسعيه الدائم لإغلاق أحزابهم، ودعوته لملاحقة قياداتهم السياسية، مع زيادة حدّة المدّ القومي التركي، وسطوته على عقول الأتراك الذين يتفاخرون اليوم بكونهم أتراكًا، وسيطرة هذا المدّ على الخطاب السياسي للدولة التي عادت لترفع مؤخرًا شعار: " أمة واحدة، علم واحد، لغة واحدة".
ومن المنتظر أن يظلّ هذا النهج هو العنوان الرئيس للسياسة التركية تجاه الأكراد، ما دام الائتلافُ بين الحزبين قائمًا، الأمر الذي من شأنه إعاقة أية محاولة تبذل من جانب أردوغان، سواء لعقد مصالحة حقيقية مع أحزاب المعارضة التركية، وفي مقدمتها حزب الشعب الجمهوري حليف حزب المساواة وديمقراطية الشعوب، أو لحلّ القضية الكردية سياسيًا، أو التوصل إلى توافق مع أحزاب المعارضة حول وضع دستور جديد للبلاد، بعد الشكوك التي انتابت بعضها من النيّات الخفيّة وراء هذه الدعوة.
تدشين مرحلة جديدةإنّ الرسالة التي استشفّها الجميع من صيغة الأحكام الصادرة عن المحكمة، تشير إلى أنها تدشين مرحلة جديدة من السياسات المتشددة ضد الأكراد تحديدًا، خاصة في ظلّ الاستعدادات الجارية للقيام بحملة عسكرية جديدة في كلّ من شمال العراق، وشمال شرق سوريا، وأنّ حل القضية الكردية بالطرق السياسية السلمية أصبح أمرًا بعيد المنال.
وهو الأمر الذي يفتح الباب أمام كافة الاحتمالات، حيث من المرجّح أن تشهد تركيا صيفًا ساخنًا بكل المقاييس، مع احتمالية أن يعاود حزب العمال الكردستاني مزاولةَ نشاطاته التي تستهدف المصالح التركية، وهي الفرضية التي يبدو أنّها وراء القرارات التي تمّ اتخاذها مؤخرًا؛ بهدف تأمين المطارات المدنية، والمنافذ الحدودية؛ تحسبًا لأية مواجهات يمكن أن تحدث.
إنّ الرغبة في عقد مصالحة بين الائتلاف الحاكم وأحزاب المعارضة التركية لبدء صفحة جديدة تهدف لتحقيق الاستقرار وضمان السلم الاجتماعي ليست جدية، فهي محاولة تستهدف كسب الوقت حتى يستعيد الائتلاف الحاكم مكانته وقوته التي استنفدها خلال الاستحقاقات الانتخابيّة الأخيرة.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات حزب المساواة ودیمقراطیة الشعوب حزب العمال الکردستانی هذه الأحکام مؤخر ا
إقرأ أيضاً:
المقاطعة الاقتصادية.. سلاح الشعوب في وجه الطغيان
ماجد حميد الكحلاني
من اليمن إلى غزة… موقف الكرامة لا يُساوَم عليه ففي زمن تتكالب فيه قوى الاستكبار على الشعوب الحرة، لا يمكننا أن نقف صامتين أمام مشهد العدوان المتكرر على اليمن، الذي لم يرتكب ذنباً سوى أنه أعلن وقوفه مع غزة ومع قضايا أمته بوضوح لا لبس فيه. لقد واجهت بلادنا، في الأيام القليلة الماضية، عدواناً أمريكياً غادراً، راح ضحيته أبرياء من الأطفال والنساء، والسبب أن اليمن لم يخضع، ولم يسكت، بل صرخ في وجه الظلم: “أنا مع فلسطين”.
لكن الموقف الرسمي هذه المرة لم يكن صمتاً ولا إدانةً عابرة، بل كان قراراً جريئاً وموقفاً عملياً. ففي زيارة استثنائية لوزارة الاقتصاد والصناعة والاستثمار، أعلن فخامة المشير الركن مهدي المشاط، رئيس المجلس السياسي الأعلى-يحفظه الله- عن منع دخول المنتجات الأمريكية والإسرائيلية إلى اليمن، ومنح مهلة لا تتجاوز ثلاثة أشهر لتطبيق القرار بشكل كامل.. مؤكداً أن المقاطعة ليست خياراً عاطفياً، بل واجب شرعي، يستند إلى نصوص صريحة من القرآن الكريم.
لقد استشهد فخامة الرئيس بالآية الكريمة: “لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا”، وهي دعوة قرآنية لمقاطعة كلمة واحدة كان يستخدمها اليهود لما تحمله من نية سخرية وخبث. فإن كان الإسلام قد أمر بمقاطعة كلمة لما فيها من إهانة، فكيف لا يُلزمنا بمقاطعة منتجات تُستخدم في تمويل الحروب، وشراء الصواريخ، وصناعة الأسلحة التي تزهق أرواح المسلمين في اليمن وفلسطين على حدّ سواء؟
المعركة اليوم لم تعد محصورة في ميادين القتال، بل امتدت إلى ساحة الاقتصاد. ففي كل مرة نشتري فيها منتجاً أمريكياً أو صهيونياً، فإننا نساهم دون أن نشعر في تقوية آلة القتل التي تستهدف شعوبنا. في المقابل، فإن قرار المقاطعة ليس فقط امتناعاً عن الشراء، بل هو موقف أخلاقي، وثورة هادئة، وسلاح بأيدي الشعوب حين تُمنع عنها البنادق.
إن ما يميز هذا القرار اليمني أنه لم يصدر استجابة للغضب الشعبي فقط، بل جاء منسجماً مع هوية الشعب ومبادئه الدينية والإنسانية. هو تأكيد أن الكرامة الوطنية لا يمكن أن تباع أو تُساوَم مقابل رفاهية مزيفة توفرها بضائع العدو. وهو أيضاً تذكير لكل من يتهاون في أمر المقاطعة أن الموقف لم يعد يحتمل التردد، وأن القادم سيكون أشد على من لا يلتزم بهذا الواجب.
إن منح مهلة لثلاثة أشهر هو اختبار للوعي العام، ولضمير كل تاجر ومواطن. فمن يصرّ على الاستيراد أو البيع أو الشراء بعد ذلك، فإنه يصطف بشكل واضح في الصف المقابل للأمة، صف المجرمين والغزاة. وهذا ما أشار إليه فخامة الرئيس بوضوح حين قال: “من لا يقاطع، فليقاطَع من الناس، وقد تُتخذ بحقه إجراءات صارمة.”
اليوم، تُكتب صفحة جديدة من صفحات العزة في تاريخ اليمن. هذه المقاطعة ليست مجرد رد فعل عاطفي، بل معركة وعي وشرف، وأداة مقاومة حضارية. إنها الرسالة التي تقول للعدو: لسنا بحاجة إلى منتجاتكم… كرامتنا أغلى.
ليعلم الجميع ان المقاطعة ليست شعاراً، ولا صيحة لحظية. إنها اختبار حقيقي للإيمان والولاء، امتحانٌ لمدى ارتباطنا بديننا، بقرآننا، بقضايانا. فإما أن نقف في صف الشهداء، أو نكون ممن يموّل قتلتهم.
“إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم” [الممتحنة: 9]
وها هم قد قاتلونا، وأخرجوا أهلنا من فلسطين، وتآمروا على اليمن.
فهل نبقى متفرجين؟ أم نردّ بالوعي… وبالمقاطعة؟