عشرة ادعاءات إسرائيلية ضد الجنائية الدولية
تاريخ النشر: 23rd, May 2024 GMT
هاجت الدولة الصهيونية وماجت، بعد إعلان المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية كريم خان، تقديم طلب للمحكمة لإصدار مذكّرات استدعاء واعتقال ضد رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، ووزير أمنها، الجنرال احتياط يوآف غالانت.
وجاءت «الصيحة على قدر الوجع»، بعد أن تبين أن التهم الموجهة للقيادة الإسرائيلية العليا هي من الوزن الثقيل، وتشمل ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وهي كما جاء في لائحة الاتهام، التي نشرت على موقع الجنائية الدولية: أولا، تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب، ثانيا، القتل العمد باعتباره جريمة حرب، ثالثا، توجيه هجمات ضد السكان المدنيين، رابعا، الإبادة والقتل العمد بما في ذلك في سياق الموت الناجم عن التجويع باعتباره جريمة ضد الإنسانية، خامسا، الاضطهاد باعتباره جريمة ضد الإنسانية، سادسا، أفعال لا إنسانية أخرى باعتبارها جرائم ضد الإنسانية.
لا يحق لأي دولة أن ترتكب المجازر وتدعي الدفاع عن النفس. لقد آن الأوان لإعادة تعريف مفهوم «الدفاع عن النفس» في ظل استغلاله للإبادة الجماعية
ويتضح من حيثيات قرار المدعي العام الدولي أنه يستند إلى قاعدة بيّانات صلبة ومتماسكة، صادقت عليها بالإجماع لجنة مختصين دوليين بأعلى مستوى. وجاء في بيان كريم خان أن الجرائم المذكورة «ارتكبت في إطار هجوم واسع النطاق ومنهجي ضد السكان المدنيين، عملا بسياسة الدولة، وهي مستمرة إلى يومنا هذا». ويبرز بوضوح أن خان يوجّه التهم إلى الدولة الصهيونية ذاتها، وليس فقط إلى نتنياهو وغالانت.
أثار إعلان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، نيته التوجه لاستصدار أمر قضائي لاعتقال نتنياهو وغالانت، غضبا عارما في الشارع الإسرائيلي وفي أوساط النخب الأمنية والسياسية والإعلامية والأكاديمية والثقافية، وساد إجماع برفض القرار واعتباره «تجنيا» على القيادة الإسرائيلية. وأثار القرار بالأخص قلقا شديدا لدى نتنياهو، المصاب بعقدة الخوف من الملاحقة أصلا، فصار يقضي معظم وقته في محاولة للتصدي للمحكمة، وللمدعي العام وللتهم الموجهة ضده وضد غالانت. وبعد أن اعتقد حضرته على مدى عقود أنه «فرفور ذنبه مغفور»، نراه يضطر إلى مواجهة حقيقة ذاته بأنه مجرم حرب، فأكثر ما يريعه أن التهم صحيحة مئة بالمئة، وإذا اتخذ القرار باعتقاله فهو سيصبح منبوذا في الكثير من الأوساط والمحافل الدولية، إضافة إلى توريط الدولة الصهيونية في قفص الاتهام الدولي. عقدت القيادة الإسرائيلية هذا الأسبوع اجتماعات مكثّفة لبحث أساليب التصدي لإجراءات المحكمة الجنائية الدولية، وليس واضحا بعد ماذا ستفعل، ولكن برزت بشكل جلي الكثير من الادعاءات الإسرائيلية، ونعرض هنا أهمّها:
ادعاء التكامل: يعد مبدأ التكامل، حجر الزاوية في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وهو يعني أن الأولوية تكون للقضاء المحلي، وإذا لم يقم بممارسة ولايته الجنائية، فإن الاختصاص يتحوّل حينها للجنائية الدولية بوصفها قضاءً مكملا للقضاء المحلي. وتدعي إسرائيل على الدوام بأن لديها جهاز قضاء «قوي ومستقل وعادل وفاعل»، ما ينفي، بنظرها، لزوم تدخل المحاكم الدولية. وقد تطرق كريم خان لهذه المسألة وصرّح بأنه طلب من إسرائيل مرارا وتكرارا أن تجري تحقيقا محليا حول خروقات القانون الإنساني الدولي، لكنها لم تفعل. ومع ذلك ترك خان ثغرة في بيانه، وأكد بأن مكتبه سيستمر «في تقييم مبدأ التكامل لدى اتخاذ إجراءات فيما يتصل بالجرائم المدرجة وبمرتكبيها». وقد انتبه رئيس تحرير صحيفة «هآرتس»، ألوف بين، إلى هذه الثغرة وأنشأ مقالا اقترح فيه إقامة لجنة تحقيق «مستقلة ونزيهة وذات صلاحيات»، لإقناع المحكمة الدولية بالعدول عن قرارات الاعتقال، استنادا إلى مبدأ التكامل، لكن القيادة الإسرائيلية تجاهلت هذا الاقتراح.
ادعاء الديمقراطية: طنطن المتحدثون والكتاب الإسرائيليون بمقولة إن هذه هي «المرة الأولى التي توجّه فيه محكمة الجنايات الدولية أوامر استدعاء لقيادة دولة ديمقراطية». وأرسلت الدولة الصهيونية، التي تدعي الديمقراطية كذبا وتضليلا، نداءات استغاثة لما سمّتها «الدول الديمقراطية». والمنطق الإسرائيلي هنا هو أن كل الجرائم متاحة، طالما جرى اتخاذ قرار اقترافها بشكل «ديمقراطي». لقد صرح كريم خان، هذا الأسبوع، بأن قيادات غربية على أعلى المستويات قالت له بأن محكمة الجنايات معدة للعالم الثالث ودول الجنوب ولأمثال بوتين (من أعداء أمريكا – ج.ز). هنا لا بد من تأكيد المؤكّد وهو أن الجريمة تبقى جريمة بغض النظر عن إجراءات القرار بتنفيذها، فهذا لا يغّير قيد أنملة شعور أمّ فقدت ابنها.
ادعاء المعلومات المشوّهة: الرد الإسرائيلي الأول على أي تهمة بارتكاب جريمة هي وضع علامات استفهام بأن المعلومات «غير صحيحة»، «غير دقيقة»، «ملفّقة»، «مشبوهة المصدر». وقد شرعت أبواق الدولة الصهيونية محليا وفي الساحة الدولية في حملة تشكيك بصدقية المعلومات، التي اعتمد عليها قرار المدعي العام. ولكن يبدو من حيثيات هذا القرار ومن المراجعة الدقيقة، التي جرت قبل اتخاذه أن البراهين المتوفّرة مصحوبة بعلامات تعجّب صلبة أقوى بكثير من علامات الاستفهام الإسرائيلية الملتوية والمواربة.
ادعاء عدم الصلاحية: تدعي إسرائيل أن ليس للجنايات الدولية صلاحية فيما يخص المناطق المحتلة عام 1967، لأنها ليست أراضي دولة، ولأن عضوية فلسطين في ميثاق روما والمحكمة الجنائية الدولية باطلة من أساسها. إسرائيل ما زالت تردد هذا الادعاء، على الرغم من أنّها خسرت هذه المعركة منذ سنوات، حين قررت المدعية العامة السابقة، أن للمحكمة صلاحية، وقد جاءت طلبات الاعتقال الرسمية بعنوان «طلبات لإصدار أوامر قبض في الحالة في دولة فلسطين».
ادعاء الالتزام بالقانون: يزعم الجيش الإسرائيلي أنّه يلتزم بالقانون الدولي في حربه على غزة. ولا تجد القيادة الإسرائيلية حرجا في القول بأنها حريصة على حياة المدنيين، على الرغم من الأعداد المهولة من الشهداء، بمن فيهم الأطفال والشيوخ والنساء. ويدعي جيش الاحتلال بأنه حرصا على «تجنّب الأضرار الجانبية»، يجري فحص كل هدف قبل قصفه، ويصادق على القصف محام مختص وليس قائدا عسكري فقط. وإلى جانب الكلام الممجوج عن «أكثر جيوش العالم أخلاقية»، فإن إسرائيل تحتل بلا منازع المكان الأول في العالم في البون الشاسع بين الادعاء بسمو الأخلاق والانخراط في أحطّ الجرائم الفظيعة. لقد أوضح المدعي العام كريم خان بأنه عنده أدلة دامغة بأن إسرائيل لا تلتزم بالقانون الدولي في حربها القذرة على غزة، ومن المهم أن يتزوّد المدافعون عن القضية الفلسطينية بقرارات قضائية دولية تساعد في حشد الدعم للعدالة في فلسطين.
ادعاء التمييز: من أغرب الادعاءات الإسرائيلية هو أن المحكمة الدولية تميز ضدها باعتبارها دولة «صغيرة وضعيفة» نسبيا. ويشير بعض المحللين الإسرائيليين إلى تراجع المحكمة عن التحقيق في جرائم الحرب الأمريكية في أفغانستان، بعد أن تلقت تهديدا من الإدارة الأمريكية. ويبدو هذا الادعاء واهيا، إزاء إصدار المحكمة قرارات ضد فلاديمير بوتين، زعيم الدولة العظمى روسيا.
ولكن ما تريده إسرائيل، كعادتها، هو أن تلقي الإمبراطورية الأمريكية بكامل ثقلها ضد المحكمة، التي «تجرّأت» على طلب اعتقال قيادة دولة صديقة للولايات المتحدة، استنادا إلى قانون خاص صدر بهذا الخصوص عند احتلال العراق عام 2003، للتصدي لأوامر اعتقال ضد ضباط أمريكيين وضباط من دول حليفة للولايات المتحدة، وإسرائيل تقول، نحن دولة حليف فانصرونا.
ادعاء اللاسامية: فور صدور بيان المدعي العام بشأن اعتقاله مع زميله غالانت، استل نتنياهو تهمة اللاسامية ووجهة كلامه إلى كريم خان: «بأي وقاحة تقدم على مقارنة وحوش حماس بجنود الجيش الإسرائيلي؟ هذا هو بالضبط ما تبدو عليه اللاسامية الجديدة، التي انتقلت من الجامعات في الغرب إلى المحكمة في لاهاي، يا للعار».
ويردد نتنياهو ومن معه هذه التهمة ليل نهار أملا بأن يصدّق الناس الكذبة من كثرة تكرارها. ويبدو هذا الاندفاع الإسرائيلي في التلويح بتهمة اللاسامية مفلسا، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن هيئة دولية من الحقوقيين المرموقين أقرت بالإجماع أن طلبات الاعتقال تستند إلى إجراءات صارمة وحقّانية وإلى دلائل قانونية دامغة، ومن بين أعضاء هذه الهيئة تيودور ميرون (94 عاما)، وهو يهودي أمريكي إسرائيلي من ضحايا الهولوكست، وعمل سفيرا لإسرائيل في كندا ومستشارا قضائيا لوزارة الخارجية الإسرائيلية، فهل تتهمه الدولة الصهيونية بمعاداة السامية؟
ادعاء المماثلة المرفوضة: أكثر ما تردده أبواق الدعاية الإسرائيلية هو أن المحكمة ارتكبت «خطيئة» وضع القيادة الإسرائيلية بموازاة مع قيادة حماس. هذا الادعاء مستوحى من العالم المقلوب، تتساوى فيه الضحية بالمجرم، فمهما بلغت الانتقادات لحركة حماس، فهي تبقى تمّثل الضحايا المستضعفين في الأرض في حين أن القيادة الإسرائيلية تمثل أبشع أنواع الاحتلال والاستعمار وصناعة الموت والدمار والإبادة.
ادعاء تعطيل الصفقة: تروج الدولة الصهيونية لفكرة أن أوامر الاعتقال ستقضي على إمكانية التوصل إلى صفقة تبادل ووقف ولو مؤقت لإطلاق النار، بالادعاء بأن حماس تنتظر أن تكون من تداعيات محكمة الجنايات وقف الحرب من دون الحاجة لصفقة تبادل. وهذه حجة جديدة يستغلها نتنياهو للتغطية على موقفه الرافض للصفقة المطروحة.
ادعاء التكبيل: تدعي إسرائيل أن قرار المدعي العام الدولي يهدف إلى تكبيل أيادي إسرائيل وحرمانها من ممارسة حقها في «الدفاع عن نفسها». وبطريقة ما، تدعم الولايات المتحدة وبريطانيا هذا الادعاء. هذا الادعاء غير مقبول في القانون الدولي، لأنه لا يحق لأي دولة أن ترتكب المجازر وتدعي الدفاع عن النفس. لقد آن الأوان لإعادة تعريف مفهوم «الدفاع عن النفس» في ظل استغلاله للإبادة الجماعية.
هناك ادعاءات إسرائيلية أخرى، لكن بالمجمل الدولة الصهيونية في مأزق صعب غير مسبوق، وهي فرصة يجب استغلالها عربيا وفلسطينيا لوقف الحرب الإجرامية القذرة على أهالي قطاع غزة والضفة ولبنان.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الجنائية الدولية الادعاءات الدفاع عن النفس الجنائية الدولية ادعاءات الدفاع عن النفس دولة الاحتلال مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة القیادة الإسرائیلیة الدولة الصهیونیة الجنائیة الدولیة الدفاع عن النفس ضد الإنسانیة المدعی العام هذا الادعاء کریم خان
إقرأ أيضاً:
أفريقيا ولعبة التوازنات الدولية
أعاد التنافس والصراع الدولي حول المصالح بين القوى العظمى والكبرى الذي تشهده القارة الأفريقية والذي تجدد مع بداية هذا القرن شيئًا من البريق المفقود لهذه القارة، التي عانت وما تزال من حالات الاحتراب الداخلي، والتشظّي المُجتمعي، وانسداد الأفق السياسي المفضي لعقد اجتماعي يعمل على بلورة مشروع وطني يتجاوز بدول القارة مربع الفشل التنموي والتخلف الاقتصادي إلى نوع من الاستقرار والازدهار، مقارنة مع أقاليم وقارات أخرى من العالم.
وقد لعبت عدة عوامل دورًا في تسليط الضوء مجددًا على أفريقيا في إطار معادلة البحث عن القوة وتعزيز النفوذ بين المتنافسين الإقليميين والدوليين. ومن هذه العوامل قضايا النمو السكاني، ووفرة الموارد الطبيعية التي تشمل 30٪ من احتياطيات العالم من المعادن، و12٪ من احتياطياته من النفط، و8٪ من الغاز الطبيعي، و65% من الأراضي الصالحة للزراعة، بجانب كون أفريقيا موطنًا لـ 40٪ من احتياطيات الذهب في العالم التي جعلت من القارة محورًا مُهمًا للاقتصاد العالمي، خاصة في مجال الصناعات الإستراتيجية عالية التقنية، مثل: الرقائق الإلكترونية Semiconductors، والبطاريات، والصناعات المرتبطة بالطاقة الخضراء.
إعلانوعلى الرغم من هذه الموارد، فإن دول القارة – كما أسلفنا – لم تتجاوز مربع الفشل التنموي والتخلف الاقتصادي، وهذا يطرح مجموعة من الأسئلة التي يسعى هذا المقال للإجابة عنها، والتي من بينها:
ما هي جذور وخلفيات التنافس الدولي على أفريقيا؟ ما أبعاد التنافس الدولي على القارة الأفريقية؟ ماهي تداعيات ذلك التنافس على الدول الأفريقية؟ ما طبيعة العلاقة بين التحديات الداخلية للقارة، مثل: الصراع السياسي، وتحديات الحكم التي تعيق تقدمها، وتعزيز نفوذ الأطراف الخارجية؟ ما مستقبل النفوذ الخارجي على أفريقيا، ولمصلحة أي الأطراف ستحسم معركة التنافس حول المصالح والنفوذ؟ مؤتمر برلين وانعكاساته الجيوستراتيجيةعقد مؤتمر برلين في الفترة ما بين 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 1884 إلى 26 فبراير/ شباط 1885، وقد عُرف عند بعض المؤرخين بالمؤتمر الذي وضع أسس الصراع في أفريقيا، إذ قاد إلى رسم خريطة سياسية مُشوهة تجاهلت الحدود الثقافية والعرقية للشعوب، مما أسفر عن عواقب وخيمة لا تزال آثارها قائمة حتى اليوم.
فقد تمّ تقسيم الشعوب المتجانسة ثقافيًا وعرقيًا إلى كيانات متفرقة، ومن أمثلة ذلك شعب التوغو الذي قسم بين دول مختلفة، مما أدى إلى تشتيت هويتهم وزرع بذور الصراع، بجانب إشعال النزاعات الحدودية، حيث أصبحت الحدود المرسومة arbitrarily وقودًا للصراعات والنزاعات بين الدول الأفريقية.
ويتجلى هذا الأمر في الخلاف الحدودي بين الصومال وإثيوبيا حول إقليم أوغادين، والمشكلة الحدودية بين تشاد والسودان حول قبائل الودّاي، والنزاع الموريتاني – السنغالي حول قضية قبائل التكرور، ومشكلة قبائل الباكونغو المقسمة بين الكونغو برازافيل، والكونغو كينشاسا، ومشكلة قبائل الهوسا بين النيجر ونيجيريا، ومشكلة دينكا نجوك بين السودان وجنوب السودان.
الأمر الذي خلّف إرثًا ثقيلًا من التفتت والنزاع في القارة الأفريقية، وقد قاد هذا الواقع الصراعي الذي وضعت لبناته الدول الكبرى عبر بوابة مؤتمر برلين، إلى فتح الباب لمزيد من التنافس بينها حول أفريقيا ومواردها، بصورة أضرت بمستقبل التنمية السياسية، والاقتصادية والاجتماعية داخلها.
إعلانوالملاحظة الجديرة بالاهتمام هنا تتمثل في أن الاستعمار لم يكن يحتل أكثر من 10% من المساحة الكلية لأفريقيا قبل مؤتمر برلين، ولكن بعد المؤتمر لم يتبقَّ من الأراضي الأفريقية خارج سيطرة المستعمر إلا 8% فقط.
وليس بالضرورة أن ينظر لخريطة أفريقيا السياسية اليوم بكل تمزقاتها كنتيجة لمؤتمر برلين فقط، وإنما يجب النظر أيضًا إلى نتائج الحرب العالمية الثانية التي أسهمت في بلورة هذه الخريطة بنسبة مقدرة، غير أن المؤتمر المشار إليه يُعد واحدًا من أهم الأدوات التي استُخدمت لتفتيت القارة وتقاسم النفوذ فيها بين القوى الدولية.
وبالتالي لا يُمكن قراءة واقع التنافس الدولي على القارة الأفريقية اليوم بمعزل عن استصحاب الانعكاسات الجيوستراتيجية الناجمة عن نتائج مؤتمر برلين.
أطراف التنافس وأبعادهتتعدد الأطراف المتنافسة دوليًا على قارة أفريقيا بتعدد المصالح وتباين زوايا النظر لها. ولكن رغم كثرة المتنافسين سنركز على أربع قوى رئيسية تشمل الصين، الولايات المتحدة، روسيا وفرنسا.
فالصين سعت إلى تعزيز وجودها في أفريقيا منذ فترة مبكرة، وذلك بغرض تحقيق عدة أهداف، بدءًا من تأمين المواد الخام وتصدير السلع المصنعة، وصولًا إلى توسيع نفوذها السياسي والاقتصادي.
وقد اشتملت إستراتيجيتُها في البداية على التركيز على استيراد المواد الخام، وتصدير السلع المصنعة، مصحوبًا ذلك بتمويل مشاريع البنية التحتية التي تُعد جزءًا رئيسيًا من إستراتيجيتها المعروفة بالحزام والطريق.
وترتكز هذه الإستراتيجية على ربط مناطق الإنتاج داخل الصين مع مناطق الاستهلاك خارجها، وتعد أفريقيا أهم الجوائز الكبرى في سباق التنافس الدولي حول المصالح، وتعزيز النفوذ، رغم وجود بعض المخاوف من قبل الأفارقة فيما يتعلق بأمرين.
الأوّل منهما يتعلق بمخاطر الوقوع فيما يُسمى بفخ الديون الذي تنصبه بكين لدول القارة، في مقابل تعزيز نفوذها السياسي والاقتصادي، والأمر الثاني يرتبط بجلب الصين لعمالتها المحلية، والتي تضعف حظوظ السكان المحليين في الحصول على الوظائف في ظل انتشار العمالة الصينية الماهرة، والرخيصة في نفس الوقت.
إعلانفي المقابل فإنّ الولايات المتحدة تنظر لأفريقيا كموقع إستراتيجي حاكم يساعدها على تعزيز سيطرتها ونفوذها العالميين، وذلك بالنظر إلى الموقع الجغرافي الحيوي الذي تتمتع به القارّة، فهي تقع بالقرب من أهم أربع نقاط عبور بحرية من أصل ثمانٍ في العالم: (قناة السويس، مضيق باب المندب، رأس الرجاء الصالح، مضيق جبل طارق، مضيق ملقا، مضيق هرمز، مضيق البوسفور التركي، قناة بنما).
الأمر الذي جعلها محط اهتمام القوى الدولية الساعية للسيطرة على طرق التجارة، وتعزيز النفوذ العسكري، ويتجلى ذلك من خلال تواجد القواعد العسكرية الأميركية بالقرب من المضائق البحرية وطرق الملاحة الإستراتيجية.
وقد منحها ذلك الوضع تفوقًا إستراتيجيًا من الناحية الأمنية والعسكرية. ومن المنظور التحليلي فإن أفريقيا بالنسبة لأميركا تُعدّ ملفًا أمنيًا بامتياز، رغم وجود بعض المصالح الاقتصادية، إذ بلغ حجم الاستثمارات الأميركية في كل أفريقيا في عام 2020 ما قيمته 33.3 مليار دولار، مقابل 175. 3 مليارات دولار تُمثل حجم تجارة الصين مع عشرة شركاء تجاريين فقط في أفريقيا في عام 2021.
وبالتالي فإنّ قصور المقاربة الأميركية، أسهم ضمن عوامل أخرى في تراجع نفوذها لمصلحة شركاء آخرين، وبات قصور نظرتها في إطار تعاطيها مع القارة الأفريقية أحد أهم المحددات التي ربما قادت لمستقبل تؤول فيه السيطرة لأطراف دولية أخرى، تعتمد مقاربة سياسية، اقتصادية وعسكرية أكثر شمولًا وعمقًا.
وفي ذات الإطار المتصل بلعبة التوازنات الدولية، هناك روسيا وفرنسا اللتان تتنافسان على إحدى أهم المناطق في القارة الأفريقية والمتمثلة في دول غرب أفريقيا ومنطقة الساحل. وتُعد هذه المنطقة من المنظور التاريخي إحدى دوائر النفوذ الفرنسي التقليدي، وتُمثل آخر القلاع المتبقية لباريس في إطار معركة التنافس الدولي حول المصالح.
إعلانوالملاحظة المهمة في هذا الصدد، هي أن هذا النفوذ بدأ في التراجع والتآكل بشكل متسارع لمصلحة موسكو التي نجحت في توطيد علاقاتها مع دول المنطقة التي باتت الغلبة فيها لأنظمة عسكرية ذات طابع تحرري معادٍ للوجود الغربي بشكل عام، والنفوذ الفرنسي بشكل خاص.
وعملت روسيا على استثمار هذا الشعور المعادي للوجود الفرنسي في المنطقة، وساعدها ذلك الشعور المتعاظم لدى سكان الإقليم بأن باريس تُمثل مشروعًا للعبودية والجشع الاستعماري الذي يهتم بمصالحه، دون مراعاة لمطلوبات التنمية التي تقتضي نوعًا من الشراكة العادلة بين هذه الدول وفرنسا.
ونجحت موسكو في استمالة شريحة مقدرة من قيادات هذه الدول، مستثمرةً العداء الشعبي المتنامي ضد فرنسا. والأمر الآخر الذي دفع روسيا لتوطيد علاقتها بدول القارة، هو تداعيات حربها مع أوكرانيا، والتي دفعتها للبحث عن موارد وشراكات بديلة لتعويض خسائرها الناتجة عن الحرب، وبالتالي يمكن قراءة مشروعها للبحث والتنقيب عن الذهب واليورانيوم في دول، مثل: السودان، أفريقيا الوسطى، ليبيا، موزمبيق، تنزانيا، النيجر والكثير من دول الساحل في هذا السياق التعويضي.
ويظهر جليًا أن روسيا ومن خلال دعمها كثيرًا من الأنظمة العسكرية في دول الساحل نجحت بشكل كبير ليس في محاصرة النفوذ الفرنسي فحسب، بل في إخراج الولايات المتحدة من بعض المناطق الحرجة التي تزخر بالمعادن الإستراتيجية في منطقة الساحل، ويمكن قراءة قرار إخراج قواتها من النيجر، وإنهاء تعاونها العسكري مع تشاد في هذا السياق.
ويمثل فقدان قاعدة أغاديز الأميركية، والتي تبعد عن العاصمة النيجرية نيامي حوالي 920 كيلومترًا خسارة إستراتيجية كبرى، وذلك بالنظر إلى أن بناءها كلف 110 ملايين دولار، ويضاف إلى ذلك خسارة مئات الملايين من الدولارات كانت واشنطن قد استثمرتها في تدريب جيش النيجر منذ بدء عملياتها هناك في عام 2013.
إعلانويُمكن قراءة الفيتو الذي استخدمته موسكو لصالح الخرطوم في نوفمبر/تشرين الثاني داخل مجلس الأمن في سياق مساعي موسكو لكسب مزيد من النقاط في أفريقيا في إطار تنافسها مع غرمائها الغربيين.
تداعيات التنافس الدوليتُعدّ إشكالية بناء الدولة القومية، أو ما يسمى بأزمة التكامل القومي أكبر مُعضلة واجهت الدولة الأفريقية، ويعود ذلك بدرجة أساسية لعاملين رئيسيين:
يرتبط العامل الأول بالاستعمار ومخلفات سياساته التي لم تكن موجهة لخدمة الأفارقة ولا المؤسسات المصطنعة التي باتت تعرف لاحقًا بالدولة. والثاني ذو صلة بتجربة الحكم الوطني التي تلت خروج المستعمر.فالدولة الموروثة في أفريقيا رغم أن قيادتها شكلًا تُعد وطنية، فإنها لم تنجح في تحقيق التنمية المنشودة بمثل ما حدث في قارات أخرى من العالم، كالتجربة التايوانية، أو الكورية الجنوبية، أو حتى النموذج الصيني، رغم التحفظات على بعض جوانبه.
فعوضًا عن قيادة التنمية وإحداث التغيير المطلوب داخل المجتمعات الأفريقية، تشكلت بيئة حاضنة للفساد وإهدار الموارد الوطنية داخل محيط الدولة الأفريقية، والنماذج في هذا الصدد كثيرة، وكانت وثيقة صلة بالمستعمر الذي نجح في خلق وكلاء محليين من النخب لحماية مصالحه.
وتُعدُ تجربة الكونغو كينشاسا في عهد موبوتو نموذجًا لذلك، وظلت هذه النماذج الفاسدة مستمرة إلى يومنا هذا. فأصبحت الدولة والسيطرة على مفاصلها إحدى الأدوات التي استخدمت لإثراء النخب الحاكمة ووكلائهم في الخارج.
وتُعدّ تجربة الدولة في السودان، الصومال، تشاد، إثيوبيا، جنوب السودان، وغيرها من الدول الأفريقية امتدادًا لهذا الإرث من الفشل، وعليه لا يمكننا استثناء أي من الدول التي لم تذكر ضمن النماذج المشار إليها أعلاه، ليفتح ذلك الباب أمام تساؤل مفصلي، وهو: ما مستقبل الدولة الأفريقية، وما مستقبل التنافس الخارجي عليها في ظل لعبة التوازنات الدولية؟
إعلان مستقبل الدولة الأفريقيةيتوقف مستقبل الدولة الأفريقية ومسار التنافس عليها على جملة من التحديات:
فأولى هذه الصعاب تعتمد على قدرة هذا الكيان المُصطنع الذي اصطلح على تسميته بالدولة على تجاوز قائمة طويلة من التحديات، والتي يقف على رأسها تحدي إدارة التنوع في أبعاده الإثنية، واللغوية، والدينية.فالدولة المنقسمة على نفسها ثقافيًا لا تستطيع إنجاز مشروع وطني يحظى بالقبول بين مختلف مكونات الشعب، وبالتالي فإن الاعتراف بالتنوع وحسن إدارته يعد اللبنة الأولى في اتجاه تحقيق الاستقرار السياسي والسلام المجتمعي. فالاعتراف بالتنوع وحسن إدارته يقتضي تمثيلًا عادلًا في هياكل الدولة من جهة، وتنمية متوازنة ترتكز على مبدأ التقاسم العادل للثروات القومية.
التحدي الثاني في مسار مستقبل الدولة الأفريقية في إطار لعبة التوازنات الدولية، يرتبط بعسكرة الدولة وأمننتها. فعملية عسكرة الدولة وإدارتها كملف أمني له تبعات مضرة من المنظور الإستراتيجي، فالوضع الطبيعي لمستقبل أي دولة، والحديث ينصرف هنا لأفريقيا، أن يتمّ الاهتمام بمختلف قطاعات الدولة المدنية والعسكرية التي تشكل في المحصلة النهائية ما يعرف بقوى الدولة الشاملة.ويُعدّ تطوير عناصر القوة المختلفة مسؤولية كبرى تتجاوز إمكانات المؤسسة العسكرية والأمنية كمؤسسات محترفة تُعنى بالجانب العسكري والأمني، لشمل بقية القطاعات الأخرى ذات الطابع المدني.
وعملية التطوير المشار إليها تقتضي الاهتمام بتطوير البنى السياسية المدنية، والتي تشمل الأحزاب، والكيانات المهنية، ومنظمات المجتمع المدني، والتي يُمثل وجودها ضرورة قصوى؛ لضمان تنمية ولاءات وطنية وقيم عليا تحمي الدولة والمجتمع من الارتداد إلى ما يُعرف بالولاءات تحت القومية المتمثلة في القبيلة والعشيرة.
ويمكن فهم وتفسير ظاهرة تعاظم دور القبيلة في الدولة الأفريقية في سياق العجز عن بناء مؤسسات مدنية ناضجة تستطيع أن تحمي وتستوعب أحلام وتطلعات المجتمع، وبالتالي احتماء الناس بقبائلهم، بل وفي كثير من الأحيان الاستقواء بها للظفر بالمنصب السياسي والحظوة المالية التي يوفرها.
إعلان سيناريوهات التنافس على أفريقيامن الطرح أعلاه يمكن النظر لمستقبل التنافس على الدولة الأفريقية في إطار لعبة التوازنات الدولية في سياق ثلاثة سيناريوهات رئيسية:
السيناريو الأول:أن تنجح الدولة الأفريقية في تجاوز التحديات المشار إليها والمتعلقة بالقدرة على الاعتراف بالتنوع وإدارته بشكل جيد من جهة، والعمل على بناء مؤسسات الدولة وتفادي عسكرتها من جهة أخرى.
وفي حال نجاح التعامل مع هذه التحديات تستطيع الدولة الأفريقية أن تواجه تحدي التنافس الدولي حول المصالح أو ما نسميه بلعبة التوازنات الدولية بشكل فاعل ورشيد، والعمل على تحقيق مصالح المجتمعات الأفريقية، بدلًا من أن تعمل النظم السياسية كوكلاء للخارج، رغم إمكانية أن تستفيد الأطراف الخارجية من موارد الدول الأفريقية، ولكن في إطار مبدأ الكل كاسب.
السيناريو الثاني:أن تفشل الدولة الأفريقية في مسعى الاستجابة لتحدياتها الداخلية، وتدخل معترك التنافس الدولي بظهر مكشوف لمصلحة روسيا، والصين والولايات المتحدة، بعيدًا عن المسار الانعزالي والشعبوي الذي يمكن أن يسلكه الرئيس الأميركي الجديد كصانع للسياسة الخارجية، بمعنى أن تبقى واشنطن منخرطة في عملية التنافس الدولي.
وفي هذه الحالة ربما تحوّلت القارة لساحة لتصفية الحسابات بين القوى الثلاث، وفي حال حدوث هذا السيناريو فإن الكلفة الأمنية ستكون باهظة على الأفارقة.
السيناريو الثالث:أن تفشل الدولة الأفريقية في الاستجابة للتحديَين المطروحين، وتدخل في لعبة توازنات دولية غير متكافئة، تكون المحصلة فيها مزيدًا من الاستنزاف الخارجي لمواردها، واتساع نطاق الاختراق الخارجي المرتكز على استغلال هشاشة الدولة، وتوظيف العملاء الداخليين من النخب الأفريقية؛ لخدمة مصالح أطراف خارجية يأتي على رأسها الصين، وروسيا.
وبروز هاتين القوتين كلاعب رئيسي في هذا السيناريو يعتمد على انكفاء واشنطن على نفسها في ظل الإدارة الأميركية الجديدة بقيادة دونالد ترامب وشعاراته الشعبوية القائمة على مبدأ الانعزال والانكفاء الداخلي.
إعلانولعل هذا السيناريو هو الأقرب للحدوث من منظور تحليلي دون استبعاد إمكانية حدوث السيناريوهات الأخرى.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية