بعد عام ونيف من النكبة التي تعرض لها السودان المتأرجح أبداً ما بين الغفلة والانتباهة في استطاعتنا أن نقول الآن رغم كل المآسي، قد عبرنا وادي الصمت والصدمة إلى وادي الوعي المفضي إلى التحرير والتعمير.

ورغم البسالة والشجاعة والصمود الذي جابه به الشعب السوداني هذه العثرات إلا أن قياداته السياسية ونخبه الحاكمة بزعمها ما زالت ترفل في ضلالها القديم مثل أسرة البوربون التي لم تنسى ولم تتعلم، ومازالوا حتى الآن من أقصى اليمين إلى اقصى اليسار يدسون سراً لبعضهم البعض الطبخة النيئة والطعام المسموم.

والمساكين لا يعلمون أنهم يتذوقونه قبل خصومهم، فلندعهم لغيهم يعمهون.

ولنؤسس جبهة السودانيين المفتوحة والعابرة لكل الطوائف والأحزاب والملل والنحل والتكوينات، ولنؤسسها على المصالح والقيم التي تجمع تيار السودانيين العريض الحالم بمشروع النهضة القائم على مرتكزات الأمن والتأمين والتعليم والصحة والزراعة والصناعة والاستثمار ووضع السودان في المقدمة بجهد مضاعف يحيل اليوم الى ٧٢ ساعة.
سودان يقوم على قيم الدين والفضيلة والاعتدال والسنة العملية التي تمشي بين الناس بالخير والجمال والسلام.

وعندما جاءت مفردة الطبخ والطعام المسموم والطاهي تذكرت طرفة سودانية وهي إحدى مفردات الثقافة السودانية الشعبية المتداولة بين الجماهير في حبور والنكات عند أهلنا دون لطائف الآخرين مليئة بالذكاء والسخرية والمعاني فكيف ما صرفتها تفيدك في السياسة والمعارف والمؤانسة.

فعندما كنت أرتب لتوثيق سهرات مع الراحل الموسيقار محمد الأمين حمد النيل كان عازف الكمان والموسيقي الشاب والصندوق الأسود للباشكاتب والسوليست الشهير لؤي عبد العزيز هو منسق اللقاء بيني وبين الفنان الكبير. وقد حكى لي مجموعة من المواقف الطريفة واللطيفة للأستاذ منها أنهم قد لبوا دعوة حفل زواج وكان الزمان شاتيا وعندما وصلوا سرادق المناسبة كانت مراسم عقد القران قد انتهت مع بداية العشاء. وكان حظنا من عشاء الفنانين صينية مترعة بعدة أصناف ولأن الشتاء يستدعي الجوع العابر فقد أسرعنا نحوها لمجابهة ليلة طويلة من العزف المتأمل، ولكننا أصبنا بخيبة أمل اذ كان اعداد الطعام رديئاً ومالحاً التقط منه الأستاذ لقمة وأخرى وقذف بها متأففاً، وذهب ليغسل يديه استعدادا للوصلة الأولى. وفجأة انطلقت رصاصات هاتفة معلنة عن انتهاء المراسم وبداية حياة سعيدة لأزواج سعداء فعلق ود الامين بطريقته الساخرة المشهودة على أصوات الرصاص قائلاً: أمك الطباخ قتلوا !!

ولقد أخرنا الفاصل الأول نصف ساعة حتى نخرج ما اعتمل في نفوسنا من ضحكات.
رحم الله ذلك الزمان ورحم الله ود الامين، وأعاننا على استعادة سودان ٥٦ الذي أنجب الأزهري والسيد الصديق المهدي والمحجوب والشريف حسين الهندي وعبدالرحمن دبكة ومشاور جمعة سهل وود الأمين والكابلي واحمد المصطفى ومحمد المهدي مجذوب والصاغ محمود أبوبكر والفيتوري وصادق عبدالله عبد الماجد وحسن الطاهر زروق وفاطمة طالب وخالدة زاهر السادات وصديق منزول وبرعي احمد البشير. سودان الاستقلال الذي نلناه بلا قطرة دم بذكاء جيل الاباء المؤسس وقد نزفت فيه دول الجوار الآلآف من القتلى والضحايا والشهداء.

هذا السودان الذي يرغب الغزاة الجدد أن يشطبوه بعاهة السرقة والاغتصاب واغتيال الأبرياء، وأنى لهم فهذه أرضٌ قد تعودت على انجاب القيم والتحضر والاعتدال واحترام الانسان لأخيه الانسان.
ورحم الله الشاعر العبقري مرسي صالح سراج الذي اختصر كتابا من التاريخ في بيت شعر واحد:
حين خط المجدُ في الأرض دروبه
مجد ترهاقا وإيمان العروبة
عرباً نحن حملناها ونوبة

حسين خوجلي

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

إقرأ أيضاً:

الجنجويد والطائرات المسيرة: سيمفونية الدمار التي يقودها الطمع والظلال الإماراتية

كتب الدكتور عزيز سليمان استاذ السياسة و السياسات العامة

في زمن يتداخل فيه الدخان الأسود برائحة البارود، وتصدح فيه أنين الأطفال وسط خرائب المستشفيات والمدارس و محطات الكهرباء و المياه ، يبدو السودان كلوحة مأساوية رسمها الجشع البشري. لكن، يا ترى، من يمسك بالفرشاة؟ ومن يرسم خطوط التدمير الممنهج الذي يستهدف بنية تحتية سودانية كانت يومًا ما عصب الحياة: محطات الكهرباء التي كانت تضيء الدروب، والطرق التي ربطت المدن، ومحطات مياه كانت تنبض بالأمل؟ الإجابة، كما يبدو، تكمن في أجنحة الطائرات المسيرة التي تحمل في طياتها أكثر من مجرد قنابل؛ إنها تحمل مشروعًا سياسيًا وجيوسياسيًا ينفذه الجنجويد، تلك المليشيا التي فقدت زمام المبادرة في الميدان، وانكسرت أمام مقاومة الشعب السوداني و جيشه اليازخ و مقاومته الشعبية الصادقة، فاختارت أن تُدمر بدلاً من أن تبني، وتُرهب بدلاً من أن تقاتل.
هذا النهج، يا اهلي الكرام، ليس عبثًا ولا عشوائية. إنه خطة مدروسة، يقف خلفها من يدير خيوط اللعبة من الخارج. الجنجويد، التي تحولت من مجموعة مسلحة محلية إلى أداة في يد قوى إقليمية، لم تعد تعمل بمفردها. الطائرات المسيرة، التي تقصف المدارس والمستشفيات، ليست مجرد أدوات تكنولوجية؛ إنها رسول يحمل تهديدًا صامتًا: “إما أن تجلسوا معنا على طاولة المفاوضات لننال حظنا من الثروات، وإما أن نجعل من السودان صحراء لا تحتمل الحياة”. ومن وراء هذا التهديد؟ الإجابة تلوح في الأفق، وهي دولة الإمارات العربية المتحدة، التي باتت، بحسب الشواهد، الراعي الأول لهذه المليشيا، مستخدمةً مرتزقة من كل أنحاء العالم، وسلاحًا أمريكيًا يمر عبر شبكات معقدة تشمل دولًا مثل تشاد و جنوب السودان وكينيا وأوغندا.
لكن لماذا السودان؟ الجواب يكمن في ثرواته المنهوبة، في أرضه الخصبة، ونفطه، وذهبه، ومياهه. الإمارات، التي ترى في السودان ساحة جديدة لتوسيع نفوذها الاقتصادي والسياسي، لم تتردد في استغلال الخلافات الداخلية. استخدمت بعض المجموعات السودانية، التي أُغريت بوعود السلطة أو خدعت بذريعة “الخلاص من الإخوان المسلمين”، كأدوات لتفكيك النسيج الاجتماعي والاقتصادي للبلاد. لكن، هل هذه الذريعة الدينية أو السياسية كافية لتبرير تدمير أمة بأكملها؟ بالطبع لا. إنها مجرد ستار يخفي وراءه طمعًا لا حدود له.
الجنجويد، التي انهزمت في المعارك التقليدية، لجأت إلى استراتيجية الإرهاب المنظم. الطائرات المسيرة ليست مجرد أسلحة؛ إنها رمز لعجزها، ولكن أيضًا لدعمها الخارجي. فكل قصف يستهدف محطة كهرباء أو طريقًا أو مصدر مياه، هو رسالة موجهة إلى الحكومة السودانية: “لن نوقف حتى تجلسوا معنا”. لكن من يجلسون حقًا؟ هل هي الجنجويد وحدها، أم القوات المتعددة الجنسيات التي تجمع بين المرتزقة والمصالح الإماراتية؟ أم أن الجلسة ستكون مع الإمارات نفسها، التي باتت تتحكم في خيوط اللعبة؟ أم مع “التقدم”، ذلك الوهم الذي يبيعونه على أنه مخرج، بينما هو في الحقيقة استسلام للعدوان؟
هنا، يجب على الحكومة السودانية أن تتذكر أنها ليست مجرد ممثلة لنفسها، بل هي وكيلة عن شعب دفع ثمن أخطاء الحرية والتغيير، وأخطاء الإخوان المسلمين، وأخطاء السياسات الداخلية والخارجية. الشعب السوداني، الذي قاوم وصبر، يطالب اليوم بموقف واضح: موقف ينبع من روحه، لا من حسابات السلطة أو المصالح الضيقة. يجب على الحكومة أن تتحرى هذا الموقف، وأن تعيد بناء الثقة مع شعبها، بدلاً من الاستسلام لضغوط خارجية أو داخلية.
ورأيي الشخصي، أن الحل لا يبدأ بالجلوس مع الجنجويد أو راعيها، بل بفك حصار الفاشر، وتأمين الحدود مع تشاد، ورفع شكاوى إلى محكمة العدل الدولية. يجب أن تكون الشكوى شاملة، تضم الإمارات كراعٍ رئيسي، وتشاد كجار متورط، وأمريكا بسبب السلاح الذي وصل عبر شبكات دول مثل جنوب السودان وكينيا وأوغندا. كل هذه الدول، سواء من قريب أو بعيد، ساهمت في هذا العدوان الذي يهدد استقرار إفريقيا بأكملها.
في النهاية، السؤال المرير يبقى: مع من تجلس الحكومة إذا قررت الجلوس؟ هل مع الجنجويد التي أصبحت وجهًا للعنف، أم مع القوات المتعددة الجنسيات التي لا وجه لها، أم مع الإمارات التي تختبئ خلف ستار الدعم الاقتصادي، أم مع “صمود” التي يبدو وكأنها مجرد وهم؟ الإجابة، كما يبدو، ليست سهلة، لكنها ضرورية. فالسودان ليس مجرد ساحة للصراعات الإقليمية، بل هو تراب يستحقه اهله ليس طمع الطامعين و من عاونهم من بني جلدتنا .

quincysjones@hotmail.com

   

مقالات مشابهة

  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: الضلع الرابع للمثلث
  • اللهم نصرك الذي وعدت ورحمتك التي بها اتصفت
  • “دقلو” يبدو أن الزهللة التي يعيشها أنسته أنه هاجم من داخل العاصمة ولم يتمكن من الاحتفاظ بها
  • قصة أيوب لحميدي لاعب “منتخب جبل طارق” الذي هزم الرجاء في كأس العرش
  • الجنجويد والطائرات المسيرة: سيمفونية الدمار التي يقودها الطمع والظلال الإماراتية
  • حسين خوجلي يطالب باستقالة الاعيسر
  • خالد الإعيسر: ‏حرب آل دقلو.. عمق المأساة!
  • تامر أفندي يكتب: أنا اليتيم أكتب
  • عيد محور المقاومة الذي لا يشبه الأعياد
  • الحرب العالمية التجارية التي أعلنها ترمب لا تخصنا في الوقت الراهن