اكـتشفت النخب الفـكريـة والسياسيـة العربيـة الحديثة نظام الدولـة الوطنيـة منذ اصطدمت به في مطالع القرن التاسع عشر: أيـان بدأ الغـزو الكولونيالي الأوروبي للديار العربيـة. كان ذلك في مصر، ابتداء، إبـان حملة بونابارت، ثـم في الجزائر تاليا مع احتلالها (1830) لتكـر السبحة بعدها فـتـندفع جحافـل الغزاة إلى معظم تلك البلاد العربيـة؛ ما كان واقعا منها تحت حكم السلطة العثمانيـة، وما كان مستـقـلا عنها، فـتسيطر عليها وتقيم فيها إدارات استعماريـة.
من البيّـن لدى الدارسيـن لتـم ثلات النخب العربيـة، في ذلك الإبان، أن طريقة الاكـتشاف والاتصال الثـقافيـين بهذه الأوروبا تـتـبع، حكْـما، نمطا بذاته من التمـثـل. هكذا نـلفي أن انقسام الوعي العربي في القرن التاسع عشر، مثـلا، بين نظرتين إلى أوروبا وصورتين عنها على طرفي نقيض واقـعٌ تـولـد من اختلاف طريقة ذلك الاتصال بالعالم المتمـثـل في الذهـن. بـيان ذلك أن الذين ما عرفوا من أوروبا سوى عساكرها وإداراتها الاستعمارية ومستوطنيها، ما بـارح معناها عنـدهم القـوة العسكريـة والبطش، والغـلظـة في التعـامل، والسخـرة في الأعمال، ونهب الأراضي الخصبة والخيرات، والميز الصارخ بين المستوطنين والأهالي: سكـان البلاد المستعـمـرة...إلخ. أما الذين عاينوا أوروبا من الداخل فأدركوا مقـدار ما تـنطوي عليه هذه من موارد القـوة: العلم، العـقـل، الإنتاج، التـنظيـم الإداري والسياسي.. إلخ. وهكذا بمقـدار ما بدت للأولين تهديـدا يحتاج كـفـه إلى إبـداء الرفـض والمقاومـة، بدت للأخيرين نموذجـا من شأن احـتذائـه والاقـتـداء به أن يـفـتح أفـقا أمام التـقـدم.
بعـيدا من هـذا الاستقـطاب الحاد الذي استبـد بالوعـي العربي وأحـدث في النخب انقسـاما توزعـت به إلى فريقيـن، ظلا قائـمين منذ ذلك الحين إلى يـوم الناس هذا؛ فريـقٌ من دعاة الأصـالـة وفريق ثان من دعاة الحداثـة، ... فإن وعيـا بأهمية نظام الدولـة الوطنيـة تكـون لدى النهضويين العرب، وتشبعوا به إلى حـدود بعيدة، فطفـقوا - منذ ذلك الحين - يترسمون خطوات أوروبا في ابتناء أساسات انتهاضها وإقامة مدنيـتها الحديثة، ويـدلون عليها قـراءهم عامـة ونخب الدولـة خاصـة، عسى أن يحصل الوعي بها، أولا، وأن يـشـرع في تقـفي تلك الخطـوات، ثانيـا، وعلى وجـه التـحديد على صعيـد ما نبـه النهـضويـون إليه وألحـوا على مـركزيـته في أي نهوض: الإصـلاح السياسي. وكما قوبـلت دعوة النهضـويين إلى وجوب الأخـذ بالأسباب عينـها التي كانت في أساس تـقـدم أوروبا بالكـثيـر من الصـد والإنكـار من النخب الثـقافيـة والديـنيـة المحافظـة، نظرا إلى جـراءتها النادرة لحظـتئـذ، كـدعوة، وإلى مجافاتها للمـألوف وللمشهور من الموروث، قـوبلت - من النخب الإصلاحيـة من رجالات الدولـة - بالقبول والاستحسان والتـشجيع، خـاصـة في البلدان التي أبدت فيها نخب الدولـة رغبـة صادقة في الإصلاح (مصر محمد علي باشا، تونس الباي، ومغرب السلطانيـن محمد الرابع والحسن الأول). ولقد كان ذلك الاستحسان هو، بالذات، ما فسـر تلك الظاهرة الناشئة، في ذلك الحيـن، وهي: تزايـد طلب الدولـة على النخب الإصلاحيـة وأدوارها، والسعي في طريق توسعة قاعدتها من طريق تكوين أطر حديثة من خلال الإقـدام على سياسة إرسال البـعـثات التـعليميـة إلى البلدان الأوروبية لتـلقي تكويـن عـال حديث في العلـوم والعلـوم العسكريـة وعلـوم الإدارة وسواها.
ليس من غير معـنى ودلالة أن النـهضويين والإصلاحيين العرب أجمعوا، وإن كان على تفاوت بينهم، على أن المسألة الأساس التي تفسـر التـقدم والتأخـر في أي مجتمع هي، بالتـعريف، المسألة السياسيـة: مسألة الدولة والنـظام السياسي. وترجمة ذلك أننا لم نتأخـر إلا لأن النـظام السياسي في مجتمعاتنا تقليدي ومتأخـر، سادرٌ في عالمه الذي كان فيه منذ تولـت الحضارة العربيـة الإسلاميـة وبدأت موجة الانحطاط؛ في المقابـل، ما تـقـدمت أوروبا وأنشأت مدنيـتها الحديثة وبسطت سلطانها على أصقاع الأرض كافـة إلا لأنها اهتدت إلى بناء دولـة قويـة من طريق تأسيس نظام سياسي حديث. وما كان النهضويـون مخطئين حين نسبوا فتوحات أوروبا في العلم والإنتاج والمدنيـة إلى نظام الدولـة الوطنيـة فيها؛ كانوا يـفصـحون، على نحـو دقيق، عن وعي صحيح بمركزيـة تلك الدولة في الاجتماع الأوروبي، وأدوارها في إنتاج أسباب التـقـدم. لذلك ما ترددوا في أن يحولوا مسألة الإصلاح السياسي وبناء الدولـة الوطنيـة إلى أم المسائل النـهضوية التي ظلـت تحتـل مركز البؤرة في تآليـفهـم. ولذلك، أيضا، ما كان مستغربا أن ينصرف تـفكيرهم إلى الاهتمام بمسائل العـقـل والحريـة والدستور والنـظام التمثيلي والعدل، بما هي الأحجار الأساس التي يقوم عليها صرح تلك الدولـة الحديثة، وأن ينصرف - في الوقت عيـنه - إلى مقارعة الاستبداد وبيان شروره، واستدعاء أفكار ابن خلدون في هذا الباب، جنبا إلى جنب مع أفكار جان جاك روسو وڤـولتير والموسوعـيين الأوروبيـين.
من الواضح، إذن، أن لفكرة الدولـة الوطنيـة الحديثة تاريـخا في الفكـر العربي، بـل في الوعي العربي إجمالا، يبدأ منذ ما يقارب المائتي عام؛ منذ دون رفاعة رافع الطـهطاوي رحلته إلى باريس، على رأس بعثة تعليـمية مصرية إليها، حتى اليوم. وإذا ما أخذنا في الحسبان حقيقة أنه وجـد باستمرار - طـوال هذه الفترة - مـن كان متشـبعا بهذه الفكرة من رجالات الدولـة، ثم من السياسييـن فيما بعـد، اجتمعت الأسباب للقـول إن الاعـتقاد بتلك الفكـرة وبمشروعها ما كان منحصرا في بيئات المفـكرين والمثـقـفين، فقط، بل اتسع نطاق الإيمان بها في أوساط نخب الدولـة نفسها. هذا، أيضا، ما يفسـر لماذا خيض في هذا المشروع سياسيـا؛ أعني على صعيد الدولـة، منذ مشروع محمد علي باشا للتحديث حتى اليوم؛ ولماذا أحرزت نجاحاتٌ متفاوتة النسب في مضمار بناء نظام الدولـة الوطنيـة في قسـم كبيـر من البلاد العربيـة منذ ذلك الحيـن.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ما کان
إقرأ أيضاً:
خيري رمضان: نعترف أننا في أزمة والدولة والنظام السياسي لديه مبررات لهذا التضييق
كتب- محمد شاكر:
انطلقت ضمن فعاليات اليوم الثاني، للمؤتمر العام السادس لنقابة الصحفيين، جلسة نقاشية تحت عنوان "احتياجات القارئ وتحديات الدقة وموضوعية التناول".
ويدير الندوة الإعلامي خيري رمضان، بمشاركة رئيس تحرير الأهرام إبدو نيفين كامل، ومدير تحرير الأهرام عبد الله عبد السلام، والإعلامي حمدي رزق عضو الهيئة الوطنية للصحافة، ومدير تحرير الأهرام محمد البرغوثي.
وأكد الإعلامي خيري رمضان أن التدهور العام الذي نعاني منه لم يصب الصحافة فقط، وإنما امتد لمجالات كثيرة، ولم يقف عند الصحافة فقط.
وأضاف خيري: لا نعرف كيف نعلم لأولادنا ما تعلمناه، وسيأتي يوم ونسأل لماذا لم نستطيع أن نعلم أبناءنا ما تعلمناه خوفا من لحظة المواجهة.
وتابع: علينا أن نعترف أننا في أزمة، والدولة والنظام السياسي لديه مبررات لهذا التضييق.
وأكمل رمضان: بدت هناك تغييرات مؤخرا باختيار شخصيات لها علاقة بالمهنة، هل هو مؤشر نعم، هل هو حقيقي، لا نعلم.
وواصل رمضان: نحن نتاج مجتمع له ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية ولا نستطيع التعبير عن هذا المجتمع، لظروف خارجة عن إرادتنا ولا يجب أن نجلد أنفسنا طوال الوقت، ولدينا أخطاء ويجب أن نستعد جيدا، وهناك فوضى في الإعلام لعدم وجود مؤسسات حقيقية، والحل لن يبدأ من عندنا وإنما من القيادة السياسية عندما تقرر فتح المجال للصحافة، ونحن نناصر الدولة المصرية ونحن "ضهر الدولة المصرية"، وإذا توافرت الحرية سنجد الصحفيين في أفضل مكان، وزملاءنا في الخارج يقدمون أعظم شغل، ونحن في مفترق طرق وندعو الله أن يأتي التغيير، وقد وثقتنا في هذا النظام وعليه أن يثق فينا، ويتأكد أننا مثله تماما، حريصون على هذا الوطن.
خيري رمضان النظام السياسي المؤتمر العام السادس لنقابة الصحفيين
تابع صفحتنا على أخبار جوجل
تابع صفحتنا على فيسبوك
تابع صفحتنا على يوتيوب
فيديو قد يعجبك:
الخبر التالى: مجلس النواب يوافق على تعديل قانون رسوم السفن الأخبار المتعلقة انطلاق جلسة احتياجات القارئ وتحديات الدقة بالمؤتمر العام السادس لنقابة أخبار بدء جلسات اليوم الثاني والأخير للمؤتمر العام السادس لنقابة الصحفيين أخبار مجدي الجلاد: "لو توليت رئاسة تحرير الأهرام فمصيري الحبس أو الرفت" أخبار كاتب صحفي: "مصراوي" نموذج غير قابل للتكرار ومن أنجح المواقع في المنطقة أخبار أخبار مصر مجلس النواب يوافق على تعديل قانون رسوم السفن منذ 8 دقائق قراءة المزيد أخبار مصر خيري رمضان: نعترف أننا في أزمة والدولة والنظام السياسي لديه مبررات منذ 9 دقائق قراءة المزيد أخبار مصر الشراء الموحد والمنظمة العالمية للترقيم تطلقان منصة تسجيل مواقع الرعاية منذ 11 دقيقة قراءة المزيد أخبار مصر مجلس النواب يوافق على تعديل مشروع قانون التجارة البحرية منذ 14 دقيقة قراءة المزيد أخبار مصر "الصحة النفسية" تستعرض تجربة مصر في مكافحة الإدمان بالحوار الأفريقي منذ 14 دقيقة قراءة المزيد أخبار مصر وزير التموين: الصناعات الغذائية قاطرة لتحقيق الأمن الغذائي والتنمية منذ 17 دقيقة قراءة المزيدإعلان
إعلان
أخبارخيري رمضان: نعترف أننا في أزمة والدولة والنظام السياسي لديه مبررات لهذا التضييق
أخبار رياضة لايف ستايل فنون وثقافة سيارات إسلاميات© 2021 جميع الحقوق محفوظة لدى
إتصل بنا سياسة الخصوصية إحجز إعلانك داخل المتحف المصري الكبير.. شاهد حكاية 7 آلاف سنة 22القاهرة - مصر
22 12 الرطوبة: 40% الرياح: شمال شرق المزيد أخبار أخبار الرئيسية أخبار مصر أخبار العرب والعالم حوادث المحافظات أخبار التعليم مقالات فيديوهات إخبارية أخبار bbc وظائف اقتصاد أسعار الذهب أخبار التعليم رياضة رياضة الرئيسية مواعيد ونتائج المباريات رياضة محلية كرة نسائية مصراوي ستوري رياضة عربية وعالمية فانتازي لايف ستايل لايف ستايل الرئيسية علاقات الموضة و الجمال مطبخ مصراوي نصائح طبية الحمل والأمومة الرجل سفر وسياحة أخبار البنوك فنون وثقافة فنون الرئيسية فيديوهات فنية موسيقى مسرح وتليفزيون سينما زووم أجنبي حكايات الناس ملفات Cross Media مؤشر مصراوي منوعات عقارات فيديوهات صور وفيديوهات الرئيسية مصراوي TV صور وألبومات فيديوهات إخبارية صور وفيديوهات سيارات صور وفيديوهات فنية صور وفيديوهات رياضية صور وفيديوهات منوعات صور وفيديوهات إسلامية صور وفيديوهات وصفات سيارات سيارات رئيسية أخبار السيارات ألبوم صور فيديوهات سيارات سباقات نصائح علوم وتكنولوجيا تبرعات إسلاميات إسلاميات رئيسية ليطمئن قلبك فتاوى مقالات السيرة النبوية القرآن الكريم أخرى قصص وعبر فيديوهات إسلامية مواقيت الصلاة أرشيف مصراوي إتصل بنا سياسة الخصوصية إحجز إعلانك خدمة الإشعارات تلقى آخر الأخبار والمستجدات من موقع مصراوي لاحقا اشترك