يكاد لا يمر يوم دون أن تصلنا مستجدات ملفتة حول تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مختلف المجالات والأنشطة البشرية، وينطلق هذا الزحف التقني الثوري مدفوعا باستثمارات تكنولوجية ضخمة من جانب كبريات الشركات العالمية في دول مثل الولايات المتحدة والصين (وهناك سباق محتدم للاستحواذ على مكونات وممكنات وأشباه الموصلات في هذه التقنية بصورة شرسة مثل شركة انفيديا وإنتل وجوجل وميتا وأيه أم دي) وبحسب موقع ستاتيستا (Statista)، فإن سوق الذكاء الاصطناعي خلال هذا العام يتوقع أن يصل في الولايات المتحدة وحدها إلى نحو (50 مليار دولار) وفي الصين إلى (34 مليار دولار) تقريبا فيما يتوقع أن يصل في المملكة العربية السعودية إلى (ملياري دولار) ودولة الإمارات العربية المتحدة إلى (950 مليون دولار) تقريبا.

وبعيدا عن الجانب الفني وتعقيداته، فإنه من الملائم التعريج على رأي الخبراء وإلقاء نظرة على واقع هذا الحراك الذي لم تشهد البشرية له مثيلا في تسارعه ومآلاته وغموضه. يشير تريستان هاريس وهو الشريك المؤسس لمؤسسة (The Center for Humane Technology) إلى القدرة الملفتة للذكاء الاصطناعي على تطوير نفسه وبمقاربة ذلك مع بقية الاكتشافات البشرية الكبرى مثل التطورات في القدرات والأسلحة النووية والتقدم اللافت في علوم الأحياء فإن هذه التطورات لا يمكنها مثلا أن تطور نفسها دون تدخل بشري لتصبح أسلحة أفضل أو علما متقدما بصورة أكبر بمعنى أنها لا تطور نفسها تلقائيا، في حين أن الذكاء الاصطناعي يطور نفسه أحيانا وبدون تدخل بشري بل إن العلماء أنفسهم لا يفهمون في بعض الأحيان كيف فعلها؟!.

من جانبه ينبه الخبير البريطاني من أصل سوري مصطفى سليمان الذي يشغل منصب رئيس وحدة الذكاء الاصطناعي في شركة مايكروسوفت أن الذكاء الاصطناعي لن يستحوذ على الوظائف البشرية بالكامل في المستقبل القريب، ولكنه ينوه أيضا، أن الأمر غير ثابت وليس مسلما به على إطلاقه، فعلى سبيل المثال، كان يعتقد قبل سنتين أن الذكاء الاصطناعي ليس بمقدوره فهم التعاطف واللطف الإنساني، وقبل أربع سنوات لم يتقبل العلماء آنذاك أن هذه التقنية بوسعها أن تكون مبدعة وخلاقة للأفكار الإبداعية وهو ما ثبت عدم دقته أمام التطورات الجديدة التي نسفت هذا التصور. نشر الرجل كتابا مهما حول أهمية احتواء وتنظيم وتقنين مسار وحدود الذكاء الاصطناعي وأخلاقياته قبل أن تواجه البشرية تداعيات خطرة جراء ذلك.

وفي مثال آخر حول مفاجآت الذكاء الاصطناعي، فقد كان من الملفت أن يشارك الدبلوماسي والعالم السياسي الشهير المخضرم الراحل ووزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر (كان عمره 98 سنة وقتها) في تأليف كتاب «عصر الذكاء الاصطناعي ومستقبلنا البشري» إلى جانب أريك شميت الرئيس التنفيذي لشركة جوجل في الفترة من 2001 إلى 2011 ودان هاتنلوتشر عميد كلية شوارزمان للكمبيوتر بجامعة (MIT) وهو الكتاب الذي تناول جوانب خطيرة في مسألة الذكاء الاصطناعي ببعدها المعرفي والفلسفي والإنساني والأخلاقي، ولا يتسع المقام لاستعراض الإضاءات المهمة والمحذرة للكتاب في هذا الجانب، ولكنه يشير إلى أمثلة تعتبر الآن ربما بسيطة قياسا بالتطبيقات الخطيرة للذكاء الاصطناعي مؤخرا، مثل ابتكار شركة جوجل لبرنامج (AlphaZero ) للشطرنج والذي نجح بعد «تدريبه» لمدة أربع ساعات فقط! من هزيمة أشهر لاعبي الشطرنج في العالم بكل سهولة والمثال الآخر نجاح فريق من باحثي جامعة (MIT ) عبر الاستعانة بالذكاء الاصطناعي من استخراج مضاد حيوي للبكتيريا المؤذية أسموه ( Halicin ) ونجح في الكشف عنه من إجمالي 61 ألف خيار كيميائي في فترة وجيزة بعد أن أعطي تعليمات بأن يكون المضاد المستخرج يتناسب مع معايير هيئة الدواء الأمريكية وغير سام وفعال! (يشير الباحثون أنه لولا مساعدة الذكاء الاصطناعي فإنه من المحتمل ألا يتم اكتشاف هذا المضاد مطلقا!. نظرا لتعقيد المسألة وكلفتها وطول أمدها المعتاد في حقل البحوث الدوائية و الصيدلانية المعقد).

على صعيد تهديد الذكاء الاصطناعي للوظائف بوضعها التقليدي الراهن، فإن تقريرا لصندوق النقد الدولي ظهرت مقتطفات منه في «البي بي سي» بتاريخ 14 يناير 2024، أشار إلى أن الذكاء الاصطناعي سيؤثر على وظائف أربعة موظفين من أصل عشرة على مستوى العالم وسيقفر الرقم إلى ستة موظفين من كل عشرة في الاقتصادات المتقدمة. وفي استطلاع استهدف أوساط الاقتصاديين نشره المنتدى الاقتصادي الدولي ( WEF) أشار نصفهم بأنهم يعتقدون أن الذكاء الاصطناعي ستكون له «تداعيات تجارية مؤثرة» (commercially disruptive) بمعنى أنها ستطال في تأثيراتها الحادة وستغير جوانب تشمل الممارسات التجارية الراهنة والنماذج التجارية والأسواق بنسبة تصل إلى 43% قياسا بعام 2023. في ذات السياق، حذر آراتي برابهكار (Arati Prabhakar ) وهو رئيس سياسات قطاع العلوم والتقنية بالبيت الأبيض في منتدى دافوس بتاريخ 17 يناير الماضي، أن الذكاء الاصطناعي هو «التقنية الأخطر على الإطلاق في عصرنا هذا وينبغي أن تضبط وكذلك إدارة المخاطر المترتبة على استخداماتها».

وهنا لا بد من طرح أسئلة حول ما الذي يمكن عمله على المستوى الوطني العماني في تعزيز جاهزية البلاد ومرونتها للتكيف مع استحقاقات مرحلة إنسانية جديدة تمثل فيها الآلة والأنظمة والذكاء الاصطناعي «ممكنات» وربما «بدائل» وربما «حتميات» يصعب الاستغناء عنها في ظل وجود تهديدات جدية حول مستقبل الوظائف البشرية بشكلها التقليدي الراهن؟!، والأهم من ذلك إذا كنا نواجه تحديات في توسعة الاقتصاد وسوق العمل لخلق فرص عمل مجدية لشباب وشابات عمان في الوقت الراهن، فكيف سنواجه حتميات التكيف مع تطورات ثورية يدشنها الذكاء الاصطناعي دون توقف على كافة الأصعدة؟ علما أن المساعد الشخصي « GPT-4o» الذي أطلق منذ أسابيع قليلة مجرد مثال بسيط لما ينتظرنا من تطبيقات شخصية أو تجارية أو صحية أو قانونية أو عسكرية (قدرة الذكاء الاصطناعي على إطلاق الأسلحة واتخاذ قرارات العنف والقتل دون الرجوع للبشر مثلا) وهو أمر يستهدف معظم ما كان يعتقد البشر أنه نشاط بشري صرف. ولا يفوتني التنويه، أن معظم أعمال صناعة المحتوى الإعلامي والرقمي والأكاديمي أصبحت تحت تأثير برامج الذكاء الاصطناعي إلى درجة ملفتة وتتجاوز البشر سرعة وجهدا ومنتجا!.

من المبهج في هذا السياق، أننا نرى حراكا وطنيا باعثا على التفاؤل، منذ أن أطلق جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم - حفظه الله ورعاه - توجيهاته السامية بإعداد «برنامج وطني للذكاء الاصطناعي» في نوفمبر 2023 ولقي إشادة واسعة من المختصين الذي وجدوا في تلك التوجيهات منطلقا وإطارا وطنيا ساميا يليق بعُمان في سبيل تطوير «تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تساهم في تعزيز الاقتصاد الوطني وتحسين حياة المواطنين» و«إحداث تطورات كبيرة في مجال التحول الرقمي وتكنولوجيا المعلومات» وفق تصريحات بعض الخبراء العمانيين المنشورة في جريدة الرؤية بتاريخ 14 نوفمبر 2023.

إن الفيصل في الأمر هو ضرورة الانطلاق إلى مرحلة التنفيذ والمشاركة الفعالة للاستفادة من معطيات هذه التقنيات الثورية وتفادي أن تتحول هذه الاستحقاقات إلى «فعاليات» أو «هبة جديدة» في تلك الوحدة أو المؤسسة دون أن تنتج واقعا ملموسا على مستوى الوطن وحراكه وتطلعه نحو المستقبل، وكذلك أهمية دراسة طبيعة ومتطلبات التأهيل والتدريب المناسب للتكيف مع استحقاقات سوق العمل الوطني والإقليمي والدولي وحاجته لمهارات جديدة تدور في معظمها حول فلك التمكن من أدوات الذكاء الاصطناعي (إعلانات الوظائف على منصة «لينكد إن» التي تشترط مهارة التعامل مع برامج الذكاء الصناعي أو الذكاء الاصطناعي التوليدي ارتفعت أكثر من الضعف خلال الفترة من يوليو 2021 إلى يوليو 2023 بحسب المنشور في موقع «سي أن بي سي» بتاريخ 4 أكتوبر 2023) وبالتالي تمكين القوى العاملة الوطنية بهذه المهارات والسعي لخلق فرص عمل جديدة مبتكرة لأبناء وبنات عمان واستغلال تلك التقنيات لإيجاد حلول مبتكرة على الصعيد الوطني لكثير من الإشكاليات الحالية في خضم تنافس محموم وزحف لا يتوقف لهجمة هذه التقنيات الثورية على طبيعة الأنشطة البشرية الراهنة ونقل الحياة الإنسانية لحقبة جديدة لا نملك لغاية الآن إجابات واضحة حول ماهيتها وجوهرها ومآلاتها، وتحت وطأة التباس المسافة والأسئلة والحدود بين الإنسان والآلة.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: أن الذکاء الاصطناعی

إقرأ أيضاً:

سام ألتمان يخطط لدمج جميع نماذج الذكاء الاصطناعي في نموذج جديد

صرح الرئيس التنفيذي لشركة "أوبن إيه آي" سام ألتمان بأن الشركة تخطط لإطلاق نموذج "جي بي تي 5" (GPT-5) في غضون أشهر، وستعمل على تبسيط عمل نماذج الذكاء الاصطناعي الخاصة بها من خلال توحيدها في نموذج واحد، وفقا لتقرير نشره موقع "ماشبل".

وأقر ألتمان خلال منشور على منصة إكس بأن مجموعة منتجات "أوبن إيه آي" أصبحت معقدة، وأنه يريد أن يقوم بعمل أفضل من خلال تبسيط عروض شركته، قائلا "نحن نكره تعدد النماذج بقدر ما تكرهونه ونريد العودة إلى ذكاء سحري موحد".

وأضاف أن الشركة تخطط لإطلاق "جي بي تي 4.5" باعتباره آخر نموذج لا يستخدم تقنية سلسلة الأفكار، وهي تقنية تُمكّن النماذج من حل المشكلات المعقدة بشكل أكثر فعالية عن طريق تقسيمها إلى خطوات منطقية مُتسلسلة، كما يريد ألتمان دمج نموذج "أو3" (o3) الذي لم يصدر بعد في نموذج "جي بي تي 5".

وفي تعليق حول الموعد التقديري لإصدار النماذج الموعودة، أجاب ألتمان بأن التوقيت المتوقع لإصدار "جي بي تي 4.5" هو مسألة أسابيع لا أكثر، أما نموذج "جي بي تي 5" فسيستغرق أشهرا.

يذكر أن شركة "أوبن إيه آي" حظيت بمنافس غير مرغوب هز كيانها، وهو شركة "ديب سيك" الصينية التي أطلقت نموذج الاستدلال "آر1" (R1) بتكلفة بسيطة وطرحته بوصفه روبوت محادثة بسعر أرخص بكثير من "أوبن إيه آي".

إعلان

وقد أثار وصول "ديب سيك" إلى الساحة تساؤلات عدة حول إستراتيجية عمل "أوبن إيه آي" وشركات الذكاء الاصطناعي الأخرى، والذي أثبت أنه يُمكن إنشاء نماذج الذكاء الاصطناعي متقدمة وبتكلفة منخفضة.

وقد يكون إعلان ألتمان بمثابة تغيير في الإستراتيجية، فبدلا من طلب 200 دولار شهريا على خطة "برو" (Pro) للوصول المبكر وغير المحدود إلى ميزات نموذج معين، فإن الإستراتيجية الجديدة تهدف إلى جعل منتجاتها متاحة لأكبر عدد ممكن من المستخدمين لتتفوق على المنافسة، وذلك من خلال الاستحواذ على السوق وتقديم تجربة سهلة الاستخدام.

وقال ألتمان في منشوره المطول "هدفنا الرئيسي هو توحيد نماذج سلسلة (أو) ونماذج سلسلة (جي بي تي) من خلال إنشاء أنظمة يمكنها استخدام جميع أدواتنا وقادرة على فهم تفكيرك وتكون مفيدة لمجموعة واسعة جدا من المهام". وهذا يعني أن "أوبن إيه آي" لن تطلق "أو3" نموذجا مستقلا، بل ستدمج قدراته الاستدلالية التي تعزز الدقة وقادرة على حل المشكلات الأكثر تعقيدا في نموذج "جي بي تي 5" القادم.

ومن المتوقع أن يحوي نموذج "جي بي تي 5" وضع الصوت ولوحة الرسم والبحث العادي والعميق بشكل مدمج، وهكذا سيتكيف الروبوت تلقائيا مع احتياجات المستخدم دون الحاجة إلى التبديل بين النماذج والميزات المختلفة، بحسب "ماشبل".

وفي النهاية ذكر ألتمان أن نموذج "جي بي تي 5" القادم سيكون متاحا لمستخدمي "شات جي بي تي" المجانيين، في حين سيحصل مشتركو "بلس" و"برو" على الميزات نفسها ولكن بمستوى أعلى من الذكاء، بيد أن خطة "برو" ستكون الأكثر ذكاء.

مقالات مشابهة

  • الذكاء الاصطناعي يطيح بالجراحين.. أكثر دقة في كتابة الوثيقة الأهم بالعملية
  • طالبات يبتكرن تطبيق الكتروني لمساعدة الصم عبر الذكاء الاصطناعي
  • لمخاوف أمنية.. سول تعلق الذكاء الاصطناعي الصيني
  • ماذا خسر عصر الذكاء الاصطناعي من تراجع المسلمين؟
  • باستخدام الذكاء الاصطناعي.. ميتا تقترب من فك شفرة الأفكار البشرية
  • توصيات باستثمار تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الموارد البشرية والتوظيف
  • ول هاتف في العالم يدعم الذكاء الاصطناعي DeepSeek
  • الذكاء الاصطناعي
  • ميتا تخطط لاستثمارات كبيرة في روبوتات الذكاء الاصطناعي البشرية
  • سام ألتمان يخطط لدمج جميع نماذج الذكاء الاصطناعي في نموذج جديد