لجريدة عمان:
2025-04-10@06:35:11 GMT

سأظل أنتظر شعر وليد الشيخ

تاريخ النشر: 22nd, May 2024 GMT

أنتظر دائمًا شعر وليد الشيخ، كما أنتظر هربًا غاضبًا وسريعًا من الحصة السابعة في مدرستي الـمصنوعة من شواهد قبور وصمت جثث. أحتاج إلى شعر وليد، كما أحتاج إلى حنين غامض إلى بلاد لا أعرفها، بلاد ليست بالتأكيد بلادي، يأخذني وليد إلى حيث شجري، أنا الفلسطيني المقيم في تاريخ اللعنة أو لعنة التاريخ، التعرف إلى شعر وليد، يشبه التعرف إلى امرأة نعرفها منذ زمن بعيد، نعيد اكتشافها وحبها ولعنتها الجميلة، كما التعرف، أيضًا، إلى مدينة نزورها كل يوم لكننا نسترجع معها نضارة روحنا وماء قلوبنا وندى ذاكرتنا.

لا أذكر شاعرًا فلسطينيًا سبق وليد في اكتشاف شجر روحنا وأجسادنا، اكتشفه وتسلقه وهزه وتذوقه ورقّصه وغناه، كأجمل ما تكون الأغنيات، لا أذكر شاعرًا فلسطينيًا قبله ذهب إلى شجرنا.. شجرة حد الـموت حد تخريب الإيقاع وترويع التراث، وتحطيم اللغة وتجميد الصفوف، وبعثرة أثاث مدارسنا من أجراس ثقيلة وكراسيّ جبانة وملصقات حزينة سطحية ومجلات حائط بغيضة، هزّ وليد نخلنا على مرأى من عيون الصحراء المريضة، هزها هزًا مميتًا. هكذا هو شعره، يكتبه بالموت والانمحاء... بالغياب والعزلة. بالشجر تمتلئ نصوصه عكس ادعائه في رشقته الاولى (حيث لا شجر) يكتب الشعر وكأنه يرشقه بجدار متفاجئ دائمًا، جدار العادي والمتفق عليه والمتاح، وليد لا يحب السير على الطرق الـمعبدة حيث العمال العبيد والخرائط والمرسومة بأناقة مهندس طرق واستقرار موظف حسابات وأرقام، إنه يأتينا من فوقنا من طريق غيمية مكثفة ومقطرة، ومن تحتنا حيث الأرض التي تمور بالدالية الخفية، والتمور الـممنوعة، ومن يسارنا ويميننا حيث الـمحميات التي يجتاحها بشعره ويفتح الأبواب للأسود والنمور الـمحبوسة، وليد مطلق النمور الشعرية في شعره يتضامن مع نمور الـمحميات، ويتآمر معها من أجل نمرة كبرى هي الحرية ضد حارسها الـمتجمد الروح والأحاسيس، القابع بخوف شديد وطاعة مؤلمة في كوخ معتم، ليست الجرأة وحدها هي ما يميّز شعر وليد، إذ من السهل أن يكون الإنسان جريئًا، لكن الروعة تكمن في اشتباك الجرأة مع دقة النظرة وتكثيفها واختيار الجوهري من اللقطات وطرافة الربط وعمق الاستنتاج وجمال الدلالة، وشجاعة طعن التراث السقيم في قلبه.

وصل وليد الشيخ إلى خارطة الشعر الفلسطيني، في مرحلة كانت فيها السياسة تنتحل صفة الشعر، وكانت القصيدة رخيصة لذهن سياسي مريض بالشعارات والكذب والتكرار والفقر الروحي. رمق وليد الخارطة من بعيد مبتسمًا وحذرًا، درس أنساقها وتفحّص تاريخ رموزها وجغرافيا نصوصها، وفهم فورًا أن التمهل في الدخول هو صفة شعرية وملـمح جمالي أيضًا، عزلة وليد عن الـمشهد الشعري كانت نصا أيضا، كتبه بذكاء وانتماء إلى مشروعه الذي يشتغل عليه بصمت، أصوات كثيرة داخل الـمشهد دعت وليد إلى الدخول، لكنه رفض بأدب مفضلاً صنع جُزر من الحضور الشعري متباعدة ولكنها نقية من غبار الشعار ودخان الـممكن، النساء في شعره قريبات وجارات وخالات وأمهات وصديقات، كلهن مقبوض عليهن في دائرة الحسية الـمحرجة، كلهن معرّضات للعنة والفضيحة والانكشاف، وليد لا يرحم نساءه، يعرضهن لأقسى وأعذب حالات الانكشاف والوضوح، كلهن مقبوض عليهن بأوضاع خاصة، لـم تجرؤ كاميرا شعرية على التقاطها، مَن من الشعراء تجاهل أحداث أيلول، تجاهلًا تامًا، ولـم يصدقها حتى حين عرف عنها لاحقًا بعد أشهر، إنه وليد الذي كان مشغولًا بالحزن على أمه وهي تهوي إلى هوة لا رجعة منها.

إذ من هو هذا العالـم لحظة موت الأمهات؟

وماذا يساوي؟.

وليد، صافع لغة بامتياز، والبلاغة أشد أعدائه ضعفًا وحيرةً منه ومن وجهته، انظروا إلى صفعاته من ديوانه (أن تكون صغيرًا ولا تصدق ذلك):

(كأن تمر سيارة الجسر مباشرة" أوكأنك رأيتهم على الشباك يشيرون لك بأيديهم، كأنك تأخرت عن الـمائدة أو "ممنوع البصْق

والتدخين

أو إخراجُ اليد أو الرأس

أو رمي النفاياتِ من الشّبابيك

أو التكلّم مع السائق).

من منا انتبه إلى شعرية ودلالات هذه الجملة الـمعلقة في حافلاتنا، والتي نراها كل يوم لكننا لا نعيرها أدنى تأمل؟ وليد، انتبه، والشعراء الـمميزون هم الـمنتبهون قبل غيرهم.

أو

ممنوع لبسُ الشّورت على البلكون)

أو النّظر في عيني الأب مباشرة

أو النومُ حتى الظهيرة

أو أن تلعبَ الأخت على الباسكاليت).

أو

"(أنتِ الوحيدةُ في الحي،

والباقي بشرٌ سواء، نساء ورجال وصغار مثل قطيعِ الـماعز الجبليّ، يتناثرون في الأزقّة ويحشرون بعضَهم في عتماتِ البيوت الضيِّقة.

الفرح الـمؤلـمُ الوحيد أنت، عنوان الـمسافة بين الحرية ووصايا الأسلاف اللئيمة.

الوحيدة في الحي أنت،

بالفاكهة والّلحم والعظم والبارد والساخن والـمعجّنات، وبالنارجيلة على كرسيّ القش الذي يفيضُ بما تحملين إليه من دفء ضجِر، ومن هواء عبق يطير كسرب أزهار وراء كلامك)".

أو

"رأيتك مرّة قبل سنتين ونصفٍ في الباص

ولا مرّة رأيتك بعدها".

من يجرؤ من شعرائنا على كتابة هذه الجملة الـموغلة في نثريتها وعاديتها؟ إنها سخرية وليد وعبثيته، أخاله كتبها ليغيظنا ويلعب بأعصابنا، ويضحك على استغرابنا، إنه لاعب أعصاب مجنون، وخالط أوراق ماكر، وملك نساء حزين، تتسع قصائده لكل شيء كأنها رواية متسامحة وواسعة، حياتها وبكارتها في تعددية قراءتها أو هي مومس نبيلة تتباهى بعدد الرجال الذين استراحوا على سفحي عينيها في الـمساءات الباردة، انظروا إلى الـمفردات في نصوصه عامية وفصحى أو بين بين والمنتزعة من عوالـم متضاربة وغريبة: الشاورما، الـمعجنات، الأسلاف، الفواكه الـماعز، الشباك، البول، اللحم، سينما، عشب، كاسيت، تاكسي، حكمة، ممنوع التجول، فضيحة، ليل، دم، ماء، ألـم، عطر، سيولة صلابة، روح، جسد، دكان، فانيلا، مقهى... إلخ.

.

يبدو وليد مهجوسًا بشكل جمالي ووجودي بحيوات النساء في العائلة من خالات وعمات وأخوات وجدات، إنه يستحضر عذاباتهن وحكاياتهن وأسرارهن. لكنه لا يخضع نسق نصه أو حياته أو طريقة عيشه لـمعايير هؤلاء النسوة الـموضوعات بموضوعية وأمانة في تاريخية أذهانهن، وموضوعية التربية والقيم التي نشأن في ظلها، إنه الـمتمرد السائح في كوكب المرأة، في وأفراحها ومفاجآتها وتقلباتها وآلامه، لكنه يعرج على العائلة ليستريح من وهجات شموس ترحاله الـمفرطة في الانزياح عن خط الأفق الـمرسوم.

سأظل أنتظر شعر الفلسطيني وليد الشيخ.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: ولید الشیخ

إقرأ أيضاً:

مضى هذا الوفيّ الشجاع ، الذي جسد كل قيم النُبل

من حيث رأيته….
عاش ملء السمع والبصر ، ملأ الدنيا و شغل الناس ، لكنه كان يملك من الثقة في نفسه ما كان يجعله لا يهتم بحاسديه ولا يهمل ناقديه ولا يرحم خصومه ولا يفقد اصدقائه ..
خاض الكثير من المعارك ، لأجل ما يؤمن انه حق ، كان وفياً لاصدقائه حد إلا حد ، يدافع عنهم ويصلهم ويتفقدهم .

اختلف حوله الناس ،، وغضب منه الإسلاميون وهو القريب منهم ، وحاربه اليساريون فلم ينكسر لهم ، بذّ مجايليه وقرنائه ، ولم يقعده كلام الناس عن ما كان يؤمن به ، كان يحب الشُطار يبحث عنهم ويرعاهم ..لم يهزمه المرض فقد صارعه بجسده الواهن ، وبنفسه الشجاعة والمؤمنة فلم يستسلم له ، ولم يخف من الموت فيجلس حزيناً خائفاً ينتظره .
انه فقدي الكبير اليوم ، فقدي وفقد زوجي عمنا الفاتح عروة ، كان حبيباً لنا قريباً منا ناصحاً لنا ..اكتب من زاوية رأيتها وتعاملت معها لسنوات تجاوزت ربع قرن، وقد عرفنا به الشهيد إبراهيم شمس الدين – زاوية ربما لا يراها الكثيرون ، ولا يتفقون معي ، لكني رأيت عمو الفاتح الإنسان الشجاع ، والشيخ الهميم ، والصديق الوفي ، والعقل الكبير ، والقلب الحاضر ، والذاكرة المتقدة .

زاوية عرفت منها معنى ان تكون انساناً متوازناً ، وكيف تكون قدرات الإنسان الذكي ، ور أيت فيها هذا الوطني المتبتل في محراب عشقه لبلاده .، كان الحوار معه مفيداً والنقاش معه يفتح الأفق ويوسّع المدارك .. كان مدرسةً من نوع خاص .

كان نسج وحده بين السودانيين ، جيله واجيال بعده وقبله ، كان محل الكثير من الإشاعات والقصص من الفلاشا إلى العمالة إلى غيرها ، فلم يقعده ذلك ، ولم يغتر بان الكثيرين يرونه كبطل وفارس ، ويتذكرونه بانبهار وطائرته تنزل بمِلِس زيناوي في أديس أبابا ،صانعاً اللحظة الفارقة في تاريخ إثيوبيا بالقضاء على نظام منقستو هايلي مريام ، معلنةً بداية صفحة جديدة ، ومازال الإثيوبيون يحفظون له هذا الصنيع ، ومازال شخصية يحكي أبناء زيناوي بحب وتقدير رفيع ، كما تفعل صديقتي سماهل زيناوي كبرى بنات الرئيس الراحل .كان ضابطاً متميزاً وطموحاً ، ورجل استخبارات واسع العلاقات يملك شبكة واسعةً من المعارف ، كان يهوى الطيران وطياراٌ ماهر ، حاول إقناعي عدة مرات بالحصول على رخصة طيران ، وأنه سيساهم معي في تكلفتها ، كان زوجي يضحك ويقول له طيران شنو دي بترمي الطيارة !! وكنت أقول يا عمو الفاتح انت شايف ما عندي وقت ! وكان يصر عليّ إلا اسمح للمشغوليات ان تحرمني مني أنا ، لا تسمحي للعمل العام ان يأخذ عمرك ولا تجعليه مهنة .

تحاورنا عن المغزى من تسجيلاته في الأشهر الماضية ، ياعمو الفاتح انت بتحب المعارك ، وكفاية كثيرون حكموا عليك في دينك ووطنيتك ، فلا تجعلهم يزيدون أحكامهم عليك حكماً ، أنا بيني وبينهم الله ، وكان يملك الشجاعة ليقول أنا عارف إني في كل يوم اقترب من الموت خطوات ، دعيهم فأنا عاوز أقول شهادتي للتاريخ ! للأجيال الشابة… للمستقبل ، ليتعلموا من اخطائنا ويبنوا على بنياننا .

يا عمو الفاتح انت بتقول رأيك من زاوية انت واقف فيها ، لكن هناك زوايا أخرى لم ترها ، خلي الشاهد على زاوية أخرى يطلع بشجاعة ويقول الحقيقة من زاويته ، ما أقوله انا ويقوله فلان وإلا علان ، يخدم الأجيال والتاريخ بانه يصنع صورة كاملة ، ثم يضحك ويقول هم لا يملكون الشجاعة ، ليس لأنهم مخطئون بل لان هولاء الشهود يخشون قول الحقيقة في زمن مفصلي ، بدعوى أنهم لم يعتادوا في التنظيم على ذلك !

رأيته قبل اشهر في منزل صديق لنا دعاه عنده فطلب منه مناداتنا زوجي وانا ، كان ينادي زوجي “بالِدش” ولديه اعتقاد جازم بصدق رؤاه ويصر على رأيه بانه اختبر ذلك في الجنوب ، في ذلك اليوم وجدته مرهقاً ، ولكنه ما زال ذاك المحارب ، يرفض ان يساعده احد في حركته ، كنت معه حتى ركب السيارة ، كنت انظر اليه وأصغي السمع له ، وكنت اعلم في دواخلي أني لن أراه !!

كان يفترض ان يسجل تسجيلاً اخيراً ، يضع فيه بعض النقاط على الحروف ، ويملأ بعض الفراغات ، ويسمي بعض الأسماء !إلا ان الموت وصل اليه وانتهى هذا السباق المرهق ، وفاز المنون .

مضى هذا الوفيّ الشجاع ، الذي جسد كل قيم النُبل ، إلى ربه ، ” أنا ما خايف من الموت ، ولكني احمد الله على كل يومٍ افتح فيه عيناي” !

اللهم ارحم عبدك الفاتح عروة فقد أتاك كيوم أوجدته ، فقيراً إليك محسناً الظن بك .. اللهم اكرمه كرماً تطمئن به نفسه ويعلو به مقامه …
سناء حمد العوض سناء حمد

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • مضى هذا الوفيّ الشجاع ، الذي جسد كل قيم النُبل
  • مدير زراعة بني وليد: جراد صحراوي يدمّر المحاصيل منذ مارس والحكومة لا ترد
  • وليد الفراج: لماذا وصل الهلال لهذا الحال.. فيديو
  • سعودي سوداني لأي زول ???????????????? .. شاهد بالفيديو حمود وليد يفعل العجب “الليلة وا ناري انا فارقتو بلالي”
  • وليد الكارتي يتحدث عن مواجهة فريق من بلده مع بيراميدز
  • وليد الكرتي: بيراميدز يهدف للوصول لأبعد نقطة في دوري أبطال إفريقيا
  • شاهد/ كلام تقشعر له الابدان لشقيق الشيخ السهيلي الذي استهدفت الغارات منزله بصنعاء
  • خطير.. وليد صلاح الدين يُحذر الأهلي قبل مواجهة الهلال السوداني
  • وليد الفراج يكشف تفاصيل اجتماع الهلال: اللاعبين يتفقون على التكاتف.. فيديو
  • وليد جمال الدين: مصر مركز إقليمي للطاقة الخضراء.. و قناة السويس تقود التحول نحو الهيدروجين الأخضر