لجريدة عمان:
2025-03-10@19:12:16 GMT

سأظل أنتظر شعر وليد الشيخ

تاريخ النشر: 22nd, May 2024 GMT

أنتظر دائمًا شعر وليد الشيخ، كما أنتظر هربًا غاضبًا وسريعًا من الحصة السابعة في مدرستي الـمصنوعة من شواهد قبور وصمت جثث. أحتاج إلى شعر وليد، كما أحتاج إلى حنين غامض إلى بلاد لا أعرفها، بلاد ليست بالتأكيد بلادي، يأخذني وليد إلى حيث شجري، أنا الفلسطيني المقيم في تاريخ اللعنة أو لعنة التاريخ، التعرف إلى شعر وليد، يشبه التعرف إلى امرأة نعرفها منذ زمن بعيد، نعيد اكتشافها وحبها ولعنتها الجميلة، كما التعرف، أيضًا، إلى مدينة نزورها كل يوم لكننا نسترجع معها نضارة روحنا وماء قلوبنا وندى ذاكرتنا.

لا أذكر شاعرًا فلسطينيًا سبق وليد في اكتشاف شجر روحنا وأجسادنا، اكتشفه وتسلقه وهزه وتذوقه ورقّصه وغناه، كأجمل ما تكون الأغنيات، لا أذكر شاعرًا فلسطينيًا قبله ذهب إلى شجرنا.. شجرة حد الـموت حد تخريب الإيقاع وترويع التراث، وتحطيم اللغة وتجميد الصفوف، وبعثرة أثاث مدارسنا من أجراس ثقيلة وكراسيّ جبانة وملصقات حزينة سطحية ومجلات حائط بغيضة، هزّ وليد نخلنا على مرأى من عيون الصحراء المريضة، هزها هزًا مميتًا. هكذا هو شعره، يكتبه بالموت والانمحاء... بالغياب والعزلة. بالشجر تمتلئ نصوصه عكس ادعائه في رشقته الاولى (حيث لا شجر) يكتب الشعر وكأنه يرشقه بجدار متفاجئ دائمًا، جدار العادي والمتفق عليه والمتاح، وليد لا يحب السير على الطرق الـمعبدة حيث العمال العبيد والخرائط والمرسومة بأناقة مهندس طرق واستقرار موظف حسابات وأرقام، إنه يأتينا من فوقنا من طريق غيمية مكثفة ومقطرة، ومن تحتنا حيث الأرض التي تمور بالدالية الخفية، والتمور الـممنوعة، ومن يسارنا ويميننا حيث الـمحميات التي يجتاحها بشعره ويفتح الأبواب للأسود والنمور الـمحبوسة، وليد مطلق النمور الشعرية في شعره يتضامن مع نمور الـمحميات، ويتآمر معها من أجل نمرة كبرى هي الحرية ضد حارسها الـمتجمد الروح والأحاسيس، القابع بخوف شديد وطاعة مؤلمة في كوخ معتم، ليست الجرأة وحدها هي ما يميّز شعر وليد، إذ من السهل أن يكون الإنسان جريئًا، لكن الروعة تكمن في اشتباك الجرأة مع دقة النظرة وتكثيفها واختيار الجوهري من اللقطات وطرافة الربط وعمق الاستنتاج وجمال الدلالة، وشجاعة طعن التراث السقيم في قلبه.

وصل وليد الشيخ إلى خارطة الشعر الفلسطيني، في مرحلة كانت فيها السياسة تنتحل صفة الشعر، وكانت القصيدة رخيصة لذهن سياسي مريض بالشعارات والكذب والتكرار والفقر الروحي. رمق وليد الخارطة من بعيد مبتسمًا وحذرًا، درس أنساقها وتفحّص تاريخ رموزها وجغرافيا نصوصها، وفهم فورًا أن التمهل في الدخول هو صفة شعرية وملـمح جمالي أيضًا، عزلة وليد عن الـمشهد الشعري كانت نصا أيضا، كتبه بذكاء وانتماء إلى مشروعه الذي يشتغل عليه بصمت، أصوات كثيرة داخل الـمشهد دعت وليد إلى الدخول، لكنه رفض بأدب مفضلاً صنع جُزر من الحضور الشعري متباعدة ولكنها نقية من غبار الشعار ودخان الـممكن، النساء في شعره قريبات وجارات وخالات وأمهات وصديقات، كلهن مقبوض عليهن في دائرة الحسية الـمحرجة، كلهن معرّضات للعنة والفضيحة والانكشاف، وليد لا يرحم نساءه، يعرضهن لأقسى وأعذب حالات الانكشاف والوضوح، كلهن مقبوض عليهن بأوضاع خاصة، لـم تجرؤ كاميرا شعرية على التقاطها، مَن من الشعراء تجاهل أحداث أيلول، تجاهلًا تامًا، ولـم يصدقها حتى حين عرف عنها لاحقًا بعد أشهر، إنه وليد الذي كان مشغولًا بالحزن على أمه وهي تهوي إلى هوة لا رجعة منها.

إذ من هو هذا العالـم لحظة موت الأمهات؟

وماذا يساوي؟.

وليد، صافع لغة بامتياز، والبلاغة أشد أعدائه ضعفًا وحيرةً منه ومن وجهته، انظروا إلى صفعاته من ديوانه (أن تكون صغيرًا ولا تصدق ذلك):

(كأن تمر سيارة الجسر مباشرة" أوكأنك رأيتهم على الشباك يشيرون لك بأيديهم، كأنك تأخرت عن الـمائدة أو "ممنوع البصْق

والتدخين

أو إخراجُ اليد أو الرأس

أو رمي النفاياتِ من الشّبابيك

أو التكلّم مع السائق).

من منا انتبه إلى شعرية ودلالات هذه الجملة الـمعلقة في حافلاتنا، والتي نراها كل يوم لكننا لا نعيرها أدنى تأمل؟ وليد، انتبه، والشعراء الـمميزون هم الـمنتبهون قبل غيرهم.

أو

ممنوع لبسُ الشّورت على البلكون)

أو النّظر في عيني الأب مباشرة

أو النومُ حتى الظهيرة

أو أن تلعبَ الأخت على الباسكاليت).

أو

"(أنتِ الوحيدةُ في الحي،

والباقي بشرٌ سواء، نساء ورجال وصغار مثل قطيعِ الـماعز الجبليّ، يتناثرون في الأزقّة ويحشرون بعضَهم في عتماتِ البيوت الضيِّقة.

الفرح الـمؤلـمُ الوحيد أنت، عنوان الـمسافة بين الحرية ووصايا الأسلاف اللئيمة.

الوحيدة في الحي أنت،

بالفاكهة والّلحم والعظم والبارد والساخن والـمعجّنات، وبالنارجيلة على كرسيّ القش الذي يفيضُ بما تحملين إليه من دفء ضجِر، ومن هواء عبق يطير كسرب أزهار وراء كلامك)".

أو

"رأيتك مرّة قبل سنتين ونصفٍ في الباص

ولا مرّة رأيتك بعدها".

من يجرؤ من شعرائنا على كتابة هذه الجملة الـموغلة في نثريتها وعاديتها؟ إنها سخرية وليد وعبثيته، أخاله كتبها ليغيظنا ويلعب بأعصابنا، ويضحك على استغرابنا، إنه لاعب أعصاب مجنون، وخالط أوراق ماكر، وملك نساء حزين، تتسع قصائده لكل شيء كأنها رواية متسامحة وواسعة، حياتها وبكارتها في تعددية قراءتها أو هي مومس نبيلة تتباهى بعدد الرجال الذين استراحوا على سفحي عينيها في الـمساءات الباردة، انظروا إلى الـمفردات في نصوصه عامية وفصحى أو بين بين والمنتزعة من عوالـم متضاربة وغريبة: الشاورما، الـمعجنات، الأسلاف، الفواكه الـماعز، الشباك، البول، اللحم، سينما، عشب، كاسيت، تاكسي، حكمة، ممنوع التجول، فضيحة، ليل، دم، ماء، ألـم، عطر، سيولة صلابة، روح، جسد، دكان، فانيلا، مقهى... إلخ.

.

يبدو وليد مهجوسًا بشكل جمالي ووجودي بحيوات النساء في العائلة من خالات وعمات وأخوات وجدات، إنه يستحضر عذاباتهن وحكاياتهن وأسرارهن. لكنه لا يخضع نسق نصه أو حياته أو طريقة عيشه لـمعايير هؤلاء النسوة الـموضوعات بموضوعية وأمانة في تاريخية أذهانهن، وموضوعية التربية والقيم التي نشأن في ظلها، إنه الـمتمرد السائح في كوكب المرأة، في وأفراحها ومفاجآتها وتقلباتها وآلامه، لكنه يعرج على العائلة ليستريح من وهجات شموس ترحاله الـمفرطة في الانزياح عن خط الأفق الـمرسوم.

سأظل أنتظر شعر الفلسطيني وليد الشيخ.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: ولید الشیخ

إقرأ أيضاً:

«مدرسة جميلة» ومربي فاضل هو «ابن» سرحتها الذي غنى بها

«مدرسة جميلة» ومربي فاضل هو «ابن» سرحتها الذي غنى بها

قصة التعليم بين جيلين

إيمان حمزة بلدو

.نحاول هنا رد الفضل الى أهله… والى الدور الذي قام ويقوم به المعلم الجليل والمربي الفاضل الاستاذ حمد النيل فضل المولى عبد الرحمن قرشي.. معلم مادة الجغرافيا في مدرسة “جميلة” المتوسطة.. في مدينة الأبيض… إبان العهد الذي يبعد سنوات ضوئية عن سودان اليوم. كتب الاستاذ حمد النيل رداً على مقالي: “الثامن من مارس والجالسات على أرصفة العدالة في السودان” فاهاجت كتابته الذكرى واستدعت أحقيته في الوفاء والعرفان، ولو بالقليل مما يستحق. له أجزل الشكر والامتنان.

ما ينفك استاذنا يذكر الفضل للمعلمين والمدراء الذين عمل معهم ويحتفي بسيرتهم العطرة ويؤرخ لحقبة في التعليم قد يصعب التوثيق لها وتداركها بسبب الحرب وما خلفته من ضياع للوثائق وتهجير للمعلمين داخل البلاد وخارجها.. وربما تكون كتاباته النبراس الذي يهدي في الظلمات… يوقد جذوات الطريق كلما أنطفأ.. يقص علينا احسن القصص. فقد آنستنا كلماته في وحشة دنيانا بعد الحرب وردت الينا بعض الطمأنينة… فلا اهل العزم نادوا علينا… ولا نودوا… وكلما ذكر معلمي مدرسة جميلة “كساها حسناً وحببها.. حتى كانّ اسمها البشرى أو العيد”…

في كردفان.. وفي سالف العصر والأوان… كان للتعليم مدارس متميزة ورواد… وكانت المدارس الداخلية… لبنة الوحدة الوطنية… والوشائج المجتمعية… وكانت المدارس محصنة بالمعامل والمكتبات… وميزانيات للانشطة الطلابية.. وبعيداً عن مدى فاعلية الاستراتيجيات التعليمية ومدى الاستجابة لحاجة الارياف والاصقاع البعيدة.. أو في البادية.. وحيث العيشة الجافية… وليس بعيداً عن الكارثة الماحقة التي حلت بالبلاد قبل ثورة ديسمبر في كافة مجالات الحياة… وعلى التعليم بوجه خاص.. تعطلت لغة الكلام. ولغة الارقام.. ولغات الإشارة.. وعانى الطلاب من وعورة دروب الاستنارة… تكدست قاعات الدراسة وأصبح الفصل بين طبقات المجتمع في مجال التعليم اشبه بالابارتهايد.. للبعض قبلة عند الشروق… وللبعض قبلة ثانية.. لم تصطدم بهموم الحياة.. ولم تدر- لولا الحرب- ما هيه. استشرت مؤسسات التعليم الخاص في مراحل التعليم ما قبل الجامعي وعجزت المدارس الحكومية عن الإجلاس وعن دفع مرتبات المعلمين… فتضاعفت اعداد الاطفال خارج المنظومة التعليمية.. ولم تستوعب الحكومات أهمية التعليم التقني.. ولا عملت على تأهيل المدارس وبنيتها التحتية أو زيادة الميزانية للتعليم أو الصحة حتى يحصل الاطفال على رعاية صحية وعلى تعليم اساسي مجاني لا يفرق بين طبقات المجتمع في سبيل بناء امة يمكنها تحقيق ولو بعض اهداف التنمية المستدامة اسوة بالشعوب التي تعيش معنا نفس الالفية على كوكب الأرض. أما في المراحل الجامعية فقد وصلت الاوضاع الكارثية مداها جراء إلغاء العام الدراسي لاعوام حسوما ما أدى الى ضياع سنوات على الخريجين. وجاءت الحرب وانتشر الحريق.. فاذا الدنيا كما نعرفها واذا الطلاب كل في طريق.. وصدح العالم بالرقم الفلكي: اكثر من تسعة عشر مليون من السودانيين من الأطفال والشباب خارج النظام التعليمي… ومن لم يمت بالجهل مات بغيره.

هل من رؤية يا ترى حول كيف سيؤثر هذا الوضع على جيل باكمله وعلى شعب يأمل أن يكون في مصاف البشرية!

في مدرسة جميلة… بقيادة الاستاذ محمد طه الدقيل.. فريق من المعلمات والمعلمين- ومن بينهم الاستاذ حمد النيل- كان الفريق ينحت الصخر ويبنى من الاحجار قصورا.. آمنوا بادوارهم وبالطالبات.. ولم يهنوا.. وكانوا هم الأعلون… وما قلته في مقالك استاذنا سوى شيئاً شهدناه… عظيم في تجليه. رحيم حين تلقاه… بديع في معانيه اذا ادركت معناه.

كانت الحصص الصباحية.. وكانت المعامل مجهزة تحوى المحاليل والمركبات الكيميائية.. تنقلنا الى آفاق العلم والتجارب. وكانت الجمعيات الادبية واكتشاف المواهب وأهمها الشعر والقصة والرسم والتمثيل. وكانت حصة الجغرافيا نقلتنا فيها بين المدارات والصحارى والسهول وجبال الاطلس. والروكي والانديز وجبل التاكا وجبال الاماتونج.. تاخذنا عبر افلاك ومجرات. وتخوم.. ونسعد حين يحط بنا الخيال “فوق للقوس والسماك الأعزل”… بعيد في نجوم.

ثم كان الاستعداد لحفل نهاية العام الدراسي وكانت مسرحية “مجنون ليلى” اخرجها الاستاذ محمد طه الدقيل… بعد أن امضت الطالبات اسابيع للحفظ وتجويد الأداء وكانت البروفات تتم في الامسيات… والمواصلات توفرها المدرسة إذ أن مكتب التعليم بالابيض كان راعياً وكان مسؤولاً عن رعيته، آنذاك.

وصار اليوم الختامي في ذلك العام والمسرحية ذات المضامين الانسانية حديث المدينة… لزمن طويل.

لم تذكر دورك- استاذنا- في ذلك الألق والجمال… وآثرت ان تمشي في طريق الإيثار فلا يعرف الفضل الا ذووه… من قبلك كان هناك كثيرون منهم الاستاذ محمود- وكنت قد ذكرته في غير مقال في معرض الوفاء والإخلاص لرفقاء دربك الرسالي-.. الذي انتقل الى مدرسة جميلة بعد تحويلها.

كتب الاستاذ محمود قصيدة في وداع مدير كلية المعلمات بالابيض الاستاذ المربي الجليل عليه الرحمه بشير التجاني.. وكان بالكلية نهران للمستوى المتوسط.. حميراء وجميلة… كتب القصيدة ولحنها ودرّب الطالبات عليها لإلقائها في احتفالية الوداع:

“أختاه من لحن القصيد نهدي الى الجمع السعيد حلو النشيد… ومودعين ربيعنا و- ربيعنا-… ابقى لنا زرعاً حصيد… زرعاً سقاه بعلمه وبخلقه ورعاه بالرأي السديد… فشعاره العمل الجميل وقدوة للخير والفعل المجيد” الخ.

فصدق عليكم القول. ذلك الرعيل الذي يؤثر الغير ويرد الفضل الى أهله.. وما الزرع الذي تعهدتموه “بالعلم والخلق والراي السديد”… الا زرعاً أخرج شطأه.. فاستغلظ فاستوى على سوقه… وسيؤتى حقه يوم حصاده… باذن الله.

جميلة حياها الحيا وسقى الله حماها ورعى….. كانت حصنا.. وحمىً… وكانت مرتعا.. كم بنينا من حصاها اربعاً وانثنينا فمحونا الاربعا… وخططنا في نقى الرمل…. فحفظ الريح والرمل و.. وفضل المعلم المربي الجليل… أجمل السير…و … وعى…

لن ننسى أياماً مضت. في محرابها و ستظل مدرسة “جميلة… جميلة على متن الحياة… ما بقي في الأرض أمثال المعلم الجليل…” اذكر أيامها ثم انثنى على كبدي من خشية أن تصدعا”.

“قد يهون العمر إلا ساعة… وتهون الأرض… إلا موضعا”.

[email protected]

الوسومإدارة التعليم إيمان حمزة بلدو الأبيض الحرب السودان ثورة ديسمبر شمال كردفان مدرسة جميلة مسرحية مجنون ليلى

مقالات مشابهة

  • «مدرسة جميلة» ومربي فاضل هو «ابن» سرحتها الذي غنى بها
  • ما قصة القرش الذي حرمَ مشتركاً من راتب التقاعد المبكر؟
  • أكشن مع وليد | نقاش حول احتجاج النصر ومقارنته باحتجاج الوحدة والاتحاد
  • مقدمة وليد الفراج ورفض احتجاج النصر
  • وليد الفراج: خسارة الهلال ستكون فاتورة فادحة ومزلزله وعلينا جميعا منع حدوثها
  • بن صهيون.. والد نتنياهو الذي غرس فيه كره العرب
  • انتصار السيسي: «سأظل داعمة لكل سيدة تسعى لتحقيق أحلامها»
  • قرينة السيسي: سأظل دائمًا داعمة لكل سيدة تسعى لتحقيق أحلامها وبناء مستقبل أكثر إشراقا لوطننا
  • سجال قوي بين وليد الركراكي ومدافع فولهام
  • الطاهر ساتي يكتب: هذا الذي ..!!