السودان يتفكك.. حوار مع النخبة الحائرة
تاريخ النشر: 22nd, May 2024 GMT
على خلفيّة مطالبات منظمات مدنية في مارس/آذار 2015، أصدرت الولايات المتحدة الأميركية قرارًا برفع العقوبات عن بعض برمجيات ومعدات الاتصالات الشخصية للإنترنت في السودان، لتسمح بشراء ما لم يكن متاحًا في البلد المحاصَر بالعقوبات.
لم يتوقف كثيرون وقتها حول دلالة القرار الذي زعم الأميركيون أنه يهدف لدعم حرية التعبير والطلاب والمجتمع المدني.
كان ذلك القرار أداة مهمة لتنفيذ خطة أميركية لاختراق المجتمع السوداني، وتغيير هويته عبر وسائل ناعمة، وهي الخطة التي ساهمت مع عوامل أخرى في إشعال حرب تتواصل منذ أكثر من عام، وتتمدد أفقيًا ورأسيًا، معرضة وحدة البلاد ومستقبلها لخطر انقسام وشيك.
ومنذ اندلاع الحرب تقف النخبة السودانية بجميع توجهاتها عاجزةً عن طرح مشروع وطني جادّ، وهو عجز ليس وليد اللحظة الراهنة، بل نتيجة مسيرة طويلة من التآكل الداخلي والإنهاك الخارجي، لازمتها منذ بواكير نشاطها، وسيطرت على عصب تفكيرِها، وفي تقديري هناك سببان رئيسيان لهذه الحالة: أحدهما داخلي يتعلق بتركيبة هذه النخبة وإخفاقاتها المتواصلة، والثاني خارجي مرده الاستهداف المنظم الذي تعرضت له البلاد لفترة طويلة.
الإنهاك والتآكل البطيءلعل أبرز مظاهر فشل أداء هذه النخبة هو عدم الاتفاق على توصيف ما يجري في البلاد، نتيجة اختلافها العميق في صياغة مفهوم موحد للأمن القومي ومقتضياته، إذ تواصل التمترس حول انقساماتها العدمية مقدمة مصالحها الذاتية على حفظ وحدة البلاد.
وعلى رأس المواقف المحيرة يقف تحالف الحرية والتغيير "تقدم" المدعوم غربيًا وإقليميًا متعصبًا لرؤية علمانية إقصائية، مراهنًا على الخارج ومتكئًا (حديثًا) على بندقية خصمه التاريخي الدعم السريع، من أجل العودة لكراسي السلطة.
وفي استماتته العمياء تلك لا يرى هذا التحالف ما يتعرض له الشعب من إبادة جماعية وتهجير قسري، ونهب منظم من قبل حليفه الجديد مليشيا الدعم السريع التي يعتمد عليها لتنفيذ رؤيته الإقصائية والانتقامية.
على النقيض يقف الإسلاميون مساندين للجيش الوطني، ورغم التحديات الكبيرة التي يواجهونها في هذا المجال، إلا أنّ الظروف الإقليمية والدولية الرافضة لعودتهم، وتوجّس قادة الجيش أنفسهم من علاقتهم معهم تحدُّ كثيرًا من قدرتهم على طرح مبادرات سياسية توازي أداءهم في الميدان العسكري.
وفيما عدا هاتين الكتلتين، تحاول بقية النخب أن تجد موطئ قدم في المشهد المتداعي، ولكنها واقعة بين مطرقة إقصاء كتلة "الحرية والتغيير"، وسندان عدم الطمأنينة من مواقف "المجلس السيادي" التي تسانده. وما لم تفهم هذه النخبة طبيعة التحديات التي تحيط بالبلاد، فلن تستطيع انتشالها من حافة الانهيار.
النظر الفاحص يقودنا إلى أن البلاد تعرضت، ولفترة طويلة، لحملات منظمة تستهدف عناصر قوتها المادية والمعنوية، حسبما يقول السفير ميشيل رامو، سفير فرنسا السابق لدى الخرطوم، في كتابه المعنون "السودان في جميع حالاته": (إن الطمع في ثرواته المعروفة من النفط واليورانيوم والنحاس والذهب هي سبب استهداف السودان، والصورة النمطية التي يشكلها الإعلام الغربي للسودان غير واقعية وغير حقيقية، والهدف منها هو خدمة المخطط الأميركي والدولي؛ لإضعاف الحكومة المركزية وصولًا لزعزعة استقرار البلاد عبر إضعافها من الأطراف).
خطة إفشال الدولة
ومشروع زعزعة الاستقرار عبر إشعال الحروب في الأطراف، تم تنفيذه في السودان بدقة تلخص جوهر محاضرة البروفيسور ماكس مانوارينج، الخبير في العلوم العسكرية لضبّاط منتقين في إسرائيل عام 2018، والتي شرح فيها مفهوم الجيل الرابع للحروب، فقال: إن هدفها ليس "تحطيم المؤسسة العسكرية لإحدى الأمم، أو تدمير قوتها، بل الهدف هو الإنهاك والتآكل البطيء لكن بثبات، والهدف هو زعزعة الاستقرار". وهذه الزعزعة ينفذها مواطنون من الدولة العدو لخلق الدولة الفاشلة التي "يتم إيجاد أماكن داخلها لا سيادة عليها عن طريق دعم مجموعات محاربة وعنيفة للسيطرة على هذه الأماكن".
وحين نتحدث عن هذه المخططات فإننا نسعى إلى تذكير النخب بطبيعة المعركة لتنظر إليها بشكل شامل وإستراتيجي لا نظرة مجتزأة آنية.
وفي تقديرنا فقد شكلت "ثورة ديسمبر/كانون الأول" محطة مهمة في هذا المشروع الذي سلط على المجتمع السوداني وسائل ناعمة كالإعلام والثقافة ومنظمات المجتمع المدني، وأخرى عنيفة كالحروب التي لا تنتهي، بهدف إفراغ الدولة من عناصر قوتها المادية ونقلها إلى مربع عدم الاستقرار والتنابذ الاجتماعي.
وبعيدًا عن الأسباب الموضوعية التي أدّت لتلك "الثورة" التي أطاحت بنظام الإنقاذ الوطني، فإن نتائجها تبيّن أنَّ الهدف كان إزاحة أكبر كتلة اجتماعية وسياسية متماسكة تحفظ التماسك الوطني بما تضمه من أطياف اجتماعية وسياسية متنوعة دمجت قوى الريف المنتجة مع المجتمع الأهلي والقطاع الحديث من الطبقة الوسطى، جنبًا إلى جنب مع التشكيلات العسكرية المختلفة.
ولو كانت الحكمة الوطنية حاضرة لدى النخبة في ذلك الوقت فترفعت عن الاستجابة للمشروع الأجنبي للتغيير، لأمكن تطوير ذلك التحالف العريض لتحقيق إصلاح متدرج يجنب الوطن مزالق التغيير العنيف الذي كان واضحًا أن تياره سيقتلع القديم دون أن يكون قادرًا على إعادة البناء.
وهو المعنى الذي رآه الإمام الراحل الصادق المهدي بحكمة السنين، حين قال: "أرفض تغيير نظام البشير بالقوة، وأكافح التيار القبلي والعنصري"، ولكن للأسف الشديد لم تكن حناجر "تسقط بس" الصاخبة لتسمح لأصوات الحكمة أن يتردد صداها في ذلك المشهد المشحون.
ولقناعة قادة الحرية والتغيير بأن التحالف الذي سعوا لإسقاطه يمثل التيار الاجتماعي الأوسع، فقد رفضوا تمامًا اللجوء للانتخابات لإنهاء الفترة الانتقالية، مؤكدين أنها ستعيد الإسلاميين للمشهد، ودعمهم في ذلك رئيس بعثة الأمم المتحدة فولكر بيرتس الذي قال في أحد تقاريره: "يجب عدم التسرع في إجراء انتخابات في مثل هذه الظروف".
وبإبعاد تلك الكتلة الاجتماعية وإحلال أخرى، ثبت بالدليل أن الكتلة الجديدة لا تملك العمق الاجتماعي الذي يمكنها من حسن إدارة البلاد، مما رتب نتائج كارثية، منها:
انحدار تصنيف الاقتصاد السوداني من السادس أفريقيًا إلى الثامن عشر في أول سنة لحكومة الدكتور حمدوك. تضخم قوات الدعم السريع من 20 ألف مقاتل إلى 150 ألف مقاتل. انهيار المنظومة التعليمية، حيث لم تتخرج دفعة واحدة في الجامعات طوال سنوات حكمهم. وضع البلاد تحت الوصاية الأممية، حين استقدم حمدوك بعثة الأمم المتحدة وخوّلها بعض صلاحيات حكومته.آن لهذه النخبة أن تفتح بصيرتها لترى أن ما جرى في البلاد، هو عين ما جرى في البلدان من حولنا وفق خطة ماكرة وثابتة لضرب المجتمع والدولة والجيش والاقتصاد واستنزاف ثروات البلاد.
هذه النخبة بحاجة عاجلة لصياغة مشروع وطني لإيقاف الحرب على قاعدة الحوار السوداني-السوداني، ومنع التدخل الأجنبي في الشأن الوطني، والانتباه للاستهداف المنظم الذي يعمل على بثّ اليأس ونشر الكراهية وسط الأجيال الجديدة، وليحدث ذلك فعليهم التخلي عن التمحور حول الانتماءات الصغيرة لصالح الانتماء للوطن الكبير؛ لأن الأحداث الجسام تتطلب قادة حكماء.
وعلى قادة "تقدم" الذين يعملون كمقاول للمشروع الأجنبي مراجعة أنفسهم والنظر فيما حل بالشعب نتيجة اصطفافهم مع مشروع أجنبي ونصرتهم لمليشيا ضد جيش بلادهم الوطني، وإذا ما اتهموا الجيش بأنه مسيّس فليتذكروا أنه خطأ ارتكبته كل الأحزاب السياسية منذ الاستقلال، ولكن علاجه ممكن.
أما الاستجارة بمن كانوا يصفونهم بالمليشيا والجنجويد لتصفية الحسابات وهدم المعبد على رؤوس الشعب، فخطيئة كبرى أخشى ألا يتاح لمرتكبيها التطهّر منها والتوبة الوطنية، إذ إن طوفان الانقسام لن يمنحهم الزمن الكافي.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات هذه النخبة
إقرأ أيضاً:
دوقاز يحتفظ بلقب "النخبة العربية للتنس"
أسدل الستار على منافسات بطولة النخبة العربية الرابعة للتنس بتتويج اللاعب التونسي عزيز دوقاز بلقب المسابقة للمرة الثانية على التوالي بعد فوزه على منافسه السوري حازم النو بنتيجة 2 - 1 بواقع 7- 6 و 1 - 6 و(10 - 3) في المباراة النهائية التي أقيمت على ملعب نادي ضباط الأمن العام في العاصمة البحرينية المنامة، برعاية وحضور معالي وزير الداخلية البحرينية الشيخ راشد بن عبدالله آل خليفة، وبحضور سعادة سفير دولة الكويت لدى مملكة البحرين الشيخ ثامر جابر الأحمد الصباح ورئيس مجلس إدارة الاتحاد العربي للتنس الشيخ أحمد الجابر العبدالله الصباح، ورئيس الاتحاد البحريني للتنس الشيخ عبدالعزيز بن مبارك آل خليفة.
وأعرب الشيخ أحمد الجابر عن سعادته البالغة للنجاح الكبير الذي تحقق في البطولة من الجوانب الفنية والتنظيمية والإعلامية، مقدماً شكره لوزير الداخلية البحرينية على حضوره ورعايته للحفل الختامي للبطولة.
وقال الشيخ أحمد الجابر إن النسخة الرابعة ظهرت بصورة رائعة واحترافية في ظل التعاون المثمر مع الاتحاد البحريني للعبة الذي سخر جميع إمكانياته لإنجاح هذا الحدث الرياضي العربي، موجهاً شكره الجزيل لرئيس الاتحاد البحريني الشيخ عبدالعزيز بن مبارك آل خليفة على جميع الجهود المبذولة في هذه البطولة.
وتقدم بالشكر لوزارة الداخلية البحرينية ونادي ضباط الأمن العام على احتضان منافسات البطولة، مضيفاً أن "هذا الأمر ليس غريباً على الأشقاء البحرينيين الذين عودونا على حسن التنظيم وطيب الملقى وكرم الضيافة".
وأعلن الشيخ أحمد الجابر أن النسخة الخامسة ستقام في مملكة البحرين، مضيفاً أن الأشقاء البحرينيين نجحوا بامتياز في تنظيم واحدة من أفضل نسخ البطولة، وهذا ما شجع الاتحاد العربي على إسناد تنظيم النسخة المقبلة للاتحاد البحريني.
وأكد الشيخ أحمد الجابر أن الاتحاد العربي حريص على استمرار هذه البطولة بصورة سنوية لما حققته من مكتسبات وفوائد فنية للاعبين العرب، مقدماً شكره لإدارة قنوات "بي إن سبورتس" على جهودها في نقل نهائي أقوى بطولات التنس العربي، ومشيداً أيضاً بالجهود التي بذلها مسؤولو الاتحاد العربي وجميع المنظمين وشركاء النجاح.
وقدم رئيس الاتحاد العربي التهنئة للفائزين بالمراكز الأولى في هذه النسخة، مشيداً بالمستوى العالي الذي أظهره اللاعبون في جميع أدوار البطولة، ومشيراً إلى أن بطل المسابقة سيحصل على بطاقة وايلد كارد التي تخوله للمشاركة في بطولة مراكش الدولية.
وشهد الحفل الختامي للبطولة حضور كل من نائب رئيس الاتحاد الدولي ورئيسة الجامعة التونسية للتنس الدكتورة سلمى المولهي ورئيس الاتحاد المصري للعبة إسماعيل الشافعي ورئيس الاتحاد الفلسطيني للتنس الدكتورة مها راسم جرّاد، ونائب رئيس الاتحاد الأفريقي عزيز لعراف والأمين العام للاتحاد العربي علي لافي المطيري وسكرتير عام الاتحاد العربي المهندس وليد سامي ورئيس نادي رواد التنس الأردني وعضو لجنة الرواد في الاتحاد العربي المهندس أحمد القدومي وعدد من مسؤولي الاتحاد البحريني.