فلاديمير بوتين.. ومستقبل العالم الجديد
تاريخ النشر: 22nd, May 2024 GMT
وقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطأ إستراتيجي قبل أكثر من 20 عامًا، عندما حوّل روسيا إلى حليف للغرب "بقيادة الولايات المتحدة الأميركية" في عدّة مسارات؛ منها "محاربة الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001م، فعزّز بذلك هيمنة "القطب الواحد".
لكنه وبعد سنوات من التجربة، غدا يعترف بهذا الخطأ في سياق تعليقاته المتكررة على أحداث الأزمة الروسية – الأوكرانيّة، " فتحدث صراحة أنه أخطأ بتقديم ثقة مجانية في الغرب، عزّزت التغلغل الأميركي خاصة في ملفات العالم".
هذا الانصياع الروسي للأجندة الغربية، أفقد العالم التوازن المطلوب، وغابت روسيا عن الدور المحوري في ضبط الإيقاع الدولي العام، وخلق مسارات متوازنة للمصالح العالمية. "عشرون عامًا" من الثقة الروسية العمياء (من العام 2000 إلى 2020م)، خسرت روسيا فيها الكثير؛ ملفات دولية كانت بيدها، ومصالح مشتركة مع أطراف "بعيدة وقريبة" جغرافيًا، كما فقدت ثقة الدول النامية على المدى الإستراتيجي.، وفقدت هيبتها في المؤسسات الأممية.
وهي اليوم تبذل الكثير لتستعيد "الهيبة، والمكانة، والثقة، وشيئًا من الريادة، ومراعاة المصالح المشتركة، فجاءت استدارتها نحو الذات ثقيلة كالتفاف الضبع حول نفسه، لا رشيقة كالثعلب المراوغ.
والخلل الرئيسي في الانحياز الروسي للغرب على مدار نحو عشرين عامًا، هو غفلته عن مسألة داخلية مهمة، وهي مدى تقبّل "النخب الروسية" والمجتمع التقليدي عامة، للقواعد الغربية الليبرالية، التي تتناقض كليًا مع طبائع المجتمعات "الأهلية التقليدية".
البراغماتية التي انتهجها بوتين في انفتاحه على الغرب، لم تمنحه ثقة الشريك الغربي الذي كان يخطط لزرع المزيد من التوجهات الليبرالية في المجتمع الروسي، وكان يطمح إلى دفع بوتين لاتخاذ خطوات متسارعة لتفكيك السلطة الفردية للقيادة السياسية، وتفكيك التكوين الجمعي للمجتمع عبر إنشاء مؤسسات مجتمع مدني مستقلة تتناقض في مصالحها وأهدافها مع المجتمع الروسي، ودعم تغلغل النظام الرأسمالي، وإنهاك الدولة بخصخصة مقومات الاقتصاد الوطني الذي يمنح روسيا القوة.
خطأ البدايات
وإذا كانت بعض مقدمات الكتب أهم من متونها، فإنني أقف هنا عند مقدمة كتاب "روسيا بوتين" للكاتبة ليليا شيفتسوفا بتمويل من مؤسسة كارنيجي، إذ تشير هذه المقدمة إلى ظروف الانتقال السياسي التي جاءت بالسلطة إلى بوتين فيما يشبه "هدية رأس السنة"، بعد أن استبدّ المرض بالرئيس بوريس يلتسين الذي كان يسعى للجمع بين دورين متناقضين: "الزعيم الديمقراطي، وقيصر الكرملين"، فتحول من رجل يتقن فنون الصراع على السلطة والهيمنة ومواجهة الخصوم إلى عاجز عن مواجهة التحديات التي تواجهها روسيا، وعن تذليل العقبات لبناء دولة حديثة، وما يحتاجه ذلك من تأسيس "وحدة وطنية جديدة"، فتنحّى عن السلطة لشخصية غير معروفة.
وهكذا ورث بوتين تركة التناقضات الداخلية التي تركها له يلتسين، وأضيفت إليها التحديات الخارجية التي تراكمت خلال فترة "الانكفاء الروسي"، واحتاج الأمر إلى نحو 24 عامًا ليصل إلى النضج الروسي في إدراك الذات الوطنية ومتطلباتها، بعيدًا عن تأثيرات وإغراءات العالم الغربي، وسياقاته: السياسية، والاقتصادية، والقيمية.
ومن تابع مراسم تنصيب بوتين لولاية رئاسية جديدة تمتد ست سنوات (حتى العام 2030م)، فسيدرك أن "روسيا بوتين" تخطُ خطًا لا رجعة وراءه تجاه الولايات المتحدة وحلفائها في صراع السيطرة، وحفظ المصالح الروسية، والعمل على رسم معالم المستقبل العالمي، وسيكون على العالم التعامل مع هذا الخط بحذر.
في هذا الخطاب أكد على مفهوم "الاستقرار" الذي لا يعني "الجمود"، بل التحرك وفق المصالح الروسية؛ بمعنى التعامل مع متغيرات العصر وفق رؤية مبنية على أن روسيا دولة ذات "حضارة موحدة وثقافة متعددة القوميات".
وقال في كلمته: "سوف نعمل على تحديد مصيرنا بأنفسنا من أجل مستقبلنا. وبالتعاون مع شركائنا، سنعمل من أجل تشكيل نظام عالمي متعدد الأقطاب"، وفي هذا التزام ثقيل التبعات، ثم ختم كلمته برسالة مهمة: (نحن منفتحون للتعاون مع جميع الدول التي ترى روسيا شريكًا موثوقًا)، بما يؤكد أن روسيا ماضية في نهجها الجديد، وتحدد على أساسه تحالفاتها الدولية سياسيًا، وأمنيًا، واقتصاديًا.
وتواكَب مع هذه المراسم حدثان مهمان:
الأول: احتفالات عيد النصر على النازية، (9 مايو/أيار)، وفيه تحشد روسيا عادة قوتها العسكرية التقليدية، ولكنها في هذا العام لم تعرض سوى دبابة واحدة من طراز "تي 34″، ورأى المحللون في ذلك إشارة رمزية إلى أن روسيا تحشد كامل قواتها في حرب أوكرانيا المستمرّة منذ فبراير/شباط 2022. الثاني: الزيارة الرسمية للصين (16 ـ 17 مايو/أيار 2024م)، والتي ركزت على التعاون الصيني- الروسي في 3 ملفات: (أوكرانيا ـ الشرق الأوسط ـ آسيا)، وهي باستثناء أوكرانيا فضاءات التحرك الجديد "للجنوب العالمي" وما يمكن تسميته بـ "محور الشرق" بأدواته السياسية وممكناته الاقتصادية، ولذلك أثارت هذه الزيارة الصحافة الغربية فخرجت تحذر منها. تحديات النهج الجديدوفي مسيرته لتحقيق أهداف نهجه الجديد، يواجه الرئيس الروسي عددًا من التحديات:
ملف أوكرانيا:وهو مهم للاستقرار العالمي، فهو محور الصراع "الروسي الغربي" الذي ينذر بمخاطر عالمية كبيرة، والأممُ المتحدة ومجلس الأمن عاجزان عن فعل شيء تجاهه، وقرارات "الناتو" بشأنه غير مستقرة، وخارج إجماع الأعضاء، واستمرار الحرب مؤثر بشكل سلبي وعميق على الاقتصاد العالمي.
إزاء هذا الملف يحدد بوتين ملامح السيناريو الذي لن يتنازل عنه؛ يقول: "سيكون هناك سلام عندما نحقق أهدافنا التي لم تتغير: إزالة النازية، نزع السلاح، وضع أوكرانيا على الحياد". وهو يؤكد على أن "كل مهام العملية الخاصة (في أوكرانيا) سيتم الوفاء بها"، وأنّ روسيا أُجبرت على تنفيذ هذه العملية: "كان الأمر صعبًا لكنه قسري وضروري واستند إلى ميثاق الأمم المتحدة للدفاع عن أمننا". هذه المضامين تلزم القيادة السياسية والعسكرية الروسية، أمام مواطنيها لإتمام ما بدأته مهما كانت التبعات.
روسيا والشرق الأوسط:المجال الجيوستراتيجي لروسيا مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالإيرانيين، من جانب، وبحالة الشرق الأوسط من جانب آخر، ما يعني أن عليه أن يحافظ على علاقة مع إيران وهي فاعل مؤثر في الشرق الأوسط، ويتعامل مع خصومها والمتضررين منها في المنطقة، وعلى رأسهم السعودية، فكيف تتوازن في تعاملها مع طرفي النقيض، ولا سيما في ملفات تهم الأمن القومي العربي: كاستقرار العراق، عودة سوريا، التسوية اليمنية، لبنان، السودان، وغيرها؟
روسيا والدول المستقلة عن الاتحاد السوفيتي:تمثل هذه الدول المجال الحيوي لروسيا، لاعتبارات الحدود والتاريخ المشترك – الإيجابي والسلبي منه- منذ روسيا القيصرية وحتى نهاية الاتحاد السوفياتي مطلع 1990م، إضافة إلى الثقافة واللغة المشتركة والتحالفات والمصالح والمخاطر الإستراتيجية المشتركة.
فهل تستطيع روسيا في هذا الفضاء المتناقض، تحقيق المكاسب وتجاوز السلبيات التي يفرضها الجوار الصيني، والمصالح الغربية، والتغلغل الإسرائيلي، والدور الإيراني في تعميق التناقض الطائفي مع العموم السني في الشرق الأوسط بل وفي روسيا أيضًا؟
إزاء هذه المتناقضات تلاحقنا الأسئلة: هل لدى بوتين رؤية إستراتيجية للخروج منتصرًا وقيادة مستقبل العالم الجديد بسلام؟ هل التوجه الروسي للحد من النفوذ الغربي، يمثل خيارًا عالميًا مفيدًا؟ هل يستطيع "الجنوب العالمي" بقيادة روسيا والصين تحمل عبء الاقتصاد الدولي في حال نجاحهم في تحييد "الدولار" ومنظوماته المالية؟ كيف ستتفاعل "المؤسسات الأممية" مع التحولات التي تقودها روسيا؟ وأخيرًا: أين سيكون الخليج العربي من تلك التحولات؟ هل سيكون تابعًا أم متكيّفًا أم فاعلًا؟
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الشرق الأوسط فی هذا
إقرأ أيضاً: