من تناقضات الواقع الاجتماعي للقضية الجنوبية
تاريخ النشر: 22nd, May 2024 GMT
بقلم / وضاح اليمن الحريري
تدخل كل مسألة أو قضية فكرية أو اجتماعية أو سياسية أو تحت أي مسمى كان، عند ذهابها أو اقترابها من الجانب التطبيقي في الواقع، في تناقضات يكشفها واقع التجربة العملية وانعكاساته في معايير الناس وقيمهم، بل وممارساتهم اليومية، فيما يبين الموقف من مصالحهم واستفادتهم من تلك التجربة أو التطبيق، لتحدث متغيرات عدة في السلوك أو الموقف العام تجاه تلك المسألة، يمكن قياسها بالمؤشرات مثل استبيانات الرأي العام وقياس الرأي من حين إلى آخر.
هذا أمر حدث ومازال يحدث على مدى التاريخ الانساني، إذ يلعب الزمن كبعد مهم دوره المؤثر في دورة حياة تلك المسائل، على مستواها الكلي أو الجزئي، الأساسي أو الفرعي، كذلك تتبدل الأدوار وتتأثر الأحوال، ليس بقدرة قادر ولكن بفعل التفاعلات المختلفة سلبا أو ايجابا في مدارات غير متوازية أو منفصلة تتقاطع كثيرا مع بعضها، في مسار تطور التجربة زمنيا ومكانيا، بالارتباطات المؤثرة عليها ذاتيا أو موضوعيا.
على ضوء التمهيد السابق كفرشة لموضوعنا اليوم، يمكن أن نتناول بعضا من تناقضات الواقع الاجتماعي للقضية الجنوبية، في سياقه التاريخي الذي يحدث الان أو هو وارد في حدوثه، عما قليل في المستقبل القريب، وإننا إذ نسعى للكشف عن التناقضات، لا نهدف أساسا لأن نقف لصف جهة ما من الناحية السياسية، مجازا، كي نحجب صفة التصنيفات والتحديات الى جانب احد هنا أو هناك، بقدر ما نتوخى الوصول الى السؤال، كيف يمكن تناول تلك التناقضات والاستفادة منها أو حلها، ففي الحالتين ستظهر نتائج وأثر لهذا الانكشاف، الذي يظهر أهم تناقضاته كما سيلي:
يظهر اول التناقضات فيما بين الحالة المعيشية لعامة الناس التي صارت تدعو وتنادي لحل مشاكلها المباشرة واليومية التي تواجهها في كل لحظة، وبين الخطاب السياسي المتمسك بمقولاته حول استعادة الدولة الجنوبية، صانعا حالة من الجفاء مع حقوق الناس التي يعوها ويلمسونها على صعيد حياتهم، هذا التناقض الذي وضح الالتباس القائم وجعل جانبيه في حالة عدم اتفاق، ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية الاجتماعية في بعدها السياسي، غالبا ما نتوقع أن الأثر هنا سيقود الى انخفاض شعبية الشعار السياسي لصالح المطلب الجماهيري الذي صار يتنافى معه.
ثاني التناقضات في الواقع الاجتماعي للقضية الجنوبية، ينبثق من حالة السيطرة على أرض الواقع، أي أن تكريس الجنوب كفكرة عقائدية وليس كمشروع سياسي، سيعكس نفسه في عملية التقييم في الوعي الجمعي للناس فإذا كان الجنوبيون هم من يسيطر في واقع الأرض فلماذا اذن لا يتحقق شئ من الشعارات المرفوعة، ليبرز السؤال هل استعادة الدولة الجنوبية يعني حل القضية الجنوبية أو أن اشكاليات أخرى ستعقد من حلها، هنا يظهر أن تباعدا من نوع ما حصل ما بين مشروع الدولة الجنوبية وحل القضية الجنوبية، وفق سياق واقع الحال وسلطانه.
التناقض الثالث، الذي لا مفر منه، هو مواجهة مشروع السلام، وتسوياته التي سيفرضها، السلام الذي سيتحقق وفق شروط، بل واملاءات خارجية غالبا ما تعلن تأييدها لدولة موحدة وفق المرجعيات الثلاث، سيتعارض بلا أدنى شك مع طموحات الجمهور المناصر لفكرة الانفصال، لأن أنصار الفكرة، لا يستطيعون أن يحاربوا منفردين من أجل تحقيقها، اي ان حالة ازدواجية عنيفة ستحدث، بين ما يمكن تحقيقه وما لا يمكن تحقيقه، بالقوة أو بغيرها.
أما التناقض الرابع، يمكن تسميته بلعبة المقابر، كيف يمكن السير بميت لدفنه، يتم السير به في جنازة مهيبة تلفت الانتباه وتشجع على استقطاب كثيرين، الى مسيرة الموكب الجنائزي، يمكن أن يحدث ذلك ببساطة، عليك فقط أن تتعلم، الا تحل المشاكل، بدلا عن السعي لحلها، عليك أن تعقدها أكثر، أن تكتسب مزيدا من الخصوم حولك وفي مواجهتك، من مختلف قوى وفئات الشعب، الذي أصبح في الأساس يرى أنك مسرع في موكب الدفن هذا، بهتافات عالية ومشي سريع لا يتوقف على الاقل ليلتقط أنفاسه.
أما أظرف التناقضات فهو الخامس، رغم اتساع الفكرة في نطاقها اليمني، أو الجنوبي حتى، تضيق قوى السيطرة عسكريا وأمنيا على هذا المشروع، لتتركز بأيدي محددة مناطقيا أو جهويا، كما يرى الرأي العام، من خلال تراكم الوعي لديه، بأن تجربة ما تكرر نفسها مع اختلاف الأسماء، الا أن تكريس التمايز الاجتماعي هو سمة مشتركة بينهما، قد لا يحتملها الجنوب فتقوده الى تهديدات وجودية حقيقية..والسلام ختام.
المصدر: موقع حيروت الإخباري
إقرأ أيضاً:
آفاق التحالفات الإقليمية المقبلة
مسعود أحمد بيت سعيد
masoudahmed58@gmail.com
مُنذُ بَدء عملية "طوفان الأقصى" تنامى اعتقادٌ لدى بعض النخب الثقافية العربية بأن الموقف من الحرب العدوانية الإرهابية على الشعب الفلسطيني وبقية محور المقاومة، قد أفرز تيارين واضحين في الأمتين العربية والإسلامية، ويعتقد هؤلاء أنهما سيؤسسان قواعد سياسية جديدة لمجمل التحالفات الاستراتيجية المقبلة في عموم منطقة الشرق الأوسط كلها.
مدى دقة هذه التقديرات في رصد المتغيرات القادمة انطلاقًا من المعطيات القائمة هو ما سنحاول تسليط الضوء عليه، عبر التذكير بطبيعة البُنى الاقتصادية والاجتماعية التي تُحدِّد بشكل عام المسارات الأساسية في رسم التوجهات السياسية؛ سواءً في اللحظة الراهنة أو المستقبلية، دون إهمال البُعد الآيديولوجي في الاصطفافات السياسية المرحلية. وإذا أُخِذَت هذه الحيثيات في الاعتبار، لن يبقى من تلك التطلعات سوى النزعات المثالية والانتهازية، التي تُستخدم لتمويه التناقضات، ولا ريب أن إعطاء مثل هذه القضايا الأهمية التي تستحق قد يُسَهِّل استشراف الأفق القادم، وممكناته على كافة الصعد السياسية والتحالفية وغيرها. وبطبيعة الحال، فإن الظروف الاستثنائية وما يرافقها من إرهاصات قادرة على أن تُداعِب أحلامًا خيالية، جُلُّها تنطلق من فرضية ترى أن ترتيب الواقع نظريًا يُمكن من ترتيبه واقعيًا! غير أن وقائع الحياة العملية تدحض باستمرار مثل هذه التصورات القائمة على توليفات غير متناسقة شكلًا ومضمونًا، والتي تساهم في ستر الحقائق المُستوحَاة من التجربة التاريخية.
لن يحتاج المرء للكثير من الاجتهادات الفكرية لرؤية الأمور كما تجري من الناحية الفعلية، التي لم يطرأ عليها إلى الآن تغيير جدي في الرؤى والمواقف الآيديولوجية السابقة؛ فما زالت جميع الأطراف الفاعلة سلبًا وإيجابًا ترى في اللحظة الراهنة لحظة عابرة وتحالفاتها مؤقتة؛ الأمر الذي يجعل التمسُّك بالثوابت التقليدية- بصرف النظر عن مدى صحتها- أمرًا قائمًا. ومن يتتبع الخطاب السياسي والإعلامي يلحظ ذلك بيُسرٍ، وهذا في حد ذاته مؤشر أولي على ثبات القناعات الفكرية والسياسية التاريخية، باعتباره انعاكسًا لثبات المواقع الطبقية والتناقضات التاريخية، وأن أي جهد يسعى لتحري الحقيقة خلف الستار الكثيف من التلميحات والتصريحات المتناقضة، وعليه أن يُعطي المرتكزات المادية والفكرية، الأوليةَ، بحيث لا يغيب طغيان ركائز آيديولوجية راسخة قائمة على احتكار الحقيقة، وإكسابها الطابع الكُلي غير القابل للمراجعة والنقد العلمي، والتي تحمل في ذاتها ميكانيزمات تستبعد التقاطعات الاستراتيجية البعيدة.
هذا المدخل بخطوطه العامة قد يحمل في داخله مسارًا آخرَ صاعدًا، لم يأخذ مداه داخل الواقع الخاص لكل حالة، وهو بحاجة إلى المزيد من الوقت حتى تتضح معالمه بشكل كافٍ. وربما هذا أحد مكامن حذر القاعدة الجماهيرية العربية التي ما زالت- رغم عنف الصراع وتفاعلاته- تعيش تناقضًا حادًا بين الانحياز المُطلق لنهج تُعِدُهُ وسيلةً للخلاص من السيطرة الاستعمارية الكولونيالية، وبين الأطر القائمة التي لا تُشكِّل وجودَها حالة اطمئنان كافية. وبتناقضاتها تلك يتجلى وعي جدلي مُركَّب يستمد مشروعيته من مخزون نظري وعملي مُتجذِّر في تُربة الواقع الاجتماعي، ويتمظهر بين قُطبي المقاومة والتغيير الاجتماعي؛ كخيار استراتيجي وبين الضمانات التي يجب أن تصُب في مصلحتها اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا وفكريًا. ولا ضير من الاعتراف بأن مبعث تردُّدِها هو الإحساس الغامض بأنَّ كل ما هو مطلوب منها يُراد به تكريس خياراتٍ ما زال حولها جدل فلسفي وفكري وسياسي، ولم يُشكِّل يومًا عنصرَ إجماعٍ، لا في جانبه الفكري والفقهي، ولا في جانبه السياسي والتنظيمي؛ وهي معضلة بحاجة إلى الكثير من الممارسات النزيهة حتى تأخذ حيِّزها المُستَقِر في العقل والوجدان؛ بعيدًا عن توظيف الدواعي الآنية في بوتقة نعرات الماضي القاتلة.
ولعل المسألة الجوهرية في صياغة التحالفات القادمة، تتوقف بالدرجة الأولى على دور الأمة العربية في تجاوز الإخفاقات ولَمْلَمَة أوضاعها الذاتية والاعتراف بالهزيمة كمعطى موضوعي، وما نتج عنها من تِيهٍ، جعلها عرضةً للانتهاكات المزدوجة، وهو أمر طبيعي في ظل تفشي المشاريع القُطرية التي تتطلب ظهيرًا خارجيًا من ناحية، واستغلال المشروع الإمبريالي والصهيوني للحالة المتردية لبسط سيطرته المطلقة من ناحية أخرى. وما بينهما من حركة موازية للمشاريع الإقليمية الخاصة، وكلها تدور رحاها في فضاء الجغرافيا العربية المُنهكة بالحروب العبثية، بحيث لا تستطيع التحالفات المُجزَّأة صدها، مهما كانت مبررات اللحظة الراهنة؛ الأمر الذي يفرض ضرورة وأهمية إعادة الاعتبار للمشروع القومي، كإطار وَحْدَوِيٍ جامعٍ، وانتشالِ ما تبقى من شتات عوالم التقسيم الاستعماري بكل صعوباته وتعقيداته، وإطلاق الفعالية الفكرية والنقد الحُر الذي يطال الماضي والحاضر، دون محاذير مُسبَقة، حتى يُبحر العقل طليقًا في عالم المعرفة والحقائق العلمية والتحرر من التعصب البدائي الأعمى.
وعلى ضوء حركة الجدل بين الواقع والفكر، سيتضح مدى المساحات المشتركة مع الذات والآخر، بكافة أبعادها الإقليمية والدولية، ثم يأتي العمل السياسي ليؤطِّر حصيلة الإنتاج المعرفي، والاحتكام لشروط الزمان والمكان، وفق صيغ ومقاربات نيِّرة، تُفرزها عملية الجدل الموضوعي ومُتطلبات الواقع واستحقاقاته.
رابط مختصر