هل نجحت روسيا في إخراج أميركا من منطقة الساحل الأفريقي؟
تاريخ النشر: 22nd, May 2024 GMT
تستعد الولايات المتحدة الأميركية لإنهاء وجودها العسكري في منطقة الساحل بعد قرار إخراج قواتها من النيجر وإنهاء تعاونها العسكري مع تشاد. وفي حين تتهيأ روسيا لملء الفراغ، تبحث واشنطن عن بديل غير بعيد لقواتها، ورجح معهد دراسات الحرب الأميركي أن يكون هذا البديل غانا أو ساحل العاج.
وقد انتهت مطلع الأسبوع الجاري في العاصمة النيجرية نيامي مفاوضات استمرت 5 أيام بين مسؤولين عسكريين من النيجر والولايات المتحدة، لبحث آليات سحب القوات الأميركية استجابة لرغبة حكومة نيامي.
وفي بيان مشترك نشرته صفحة المجلس العسكري الحاكم في النيجر على منصة إكس (تويتر سابقا)، أعلن الجانبان مساء الأحد توصلهما إلى اتفاق ينص على أن سحب القوات الأميركية من النيجر الذي بدأ بالفعل يجب أن ينتهي بحلول 15 سبتمبر/أيلول المقبل.
ويؤكد الاتفاق على أن يتعاون الجانبان على حماية القوات المنسحبة وتسهيل إجراءات دخول وخروج الأفراد الأميركيين خلال عملية الانسحاب.
ويعني القرار أن حوالي ألف جندي أميركي، حسب وكالة رويترز، كانوا موجودين في قاعدتين عسكريتين بالنيجر لم يعد مرحبا بهم على الأراضي النيجرية.
فقدان مركز المراقبةوتعتبر دراسة للمجلة البحثية الأميركية (Responsible Statecraft) نشرت في 26 أبريل/نيسان الماضي أن سحب القوات الأميركية من النيجر يعني فقدان أميركا لقاعدة عسكرية مهمة في مدينة أغاديز على بعد حوالي 920 كيلومترا من العاصمة نيامي، وقد كلف بناؤها 110 ملايين دولار، هذا إضافة إلى خسارة مئات الملايين من الدولارات كانت الولايات المتحدة استثمرتها في تدريب جيش النيجر منذ بدء عملياتها هناك في عام 2013.
وحسب المجلة، فإن القاعدة كانت تُستغل للعمليات المختلفة وبالخصوص الرقابة الجوية من خلال الرحلات المأهولة والطائرات بدون طيار، فكانت بمثابة مركز لمراقبة منطقة الساحل بأكملها، وبالتالي فإن فقدان القوات الأميركية لهذه القاعدة يمثل خسارة إستراتيجية كبرى.
وكان المجلس العسكري الحاكم في النيجر قد أعلن في 16 مارس/آذار 2024 عن إلغاء اتفاقيات التعاون الدفاعي مع الولايات المتحدة، وذلك في أعقاب زيارة إلى نيامي قام بها وفد أميركي يضم مولي في مساعدة وزير الخارجية الأميركي، وقائد القيادة الأميركية في أفريقيا (أفريكوم) الجنرال مايكل لانغلي.
وحسب تقرير أعده مركز "أبعاد البريطاني للدراسات"، فقد كان من اللافت خلال تلك الزيارة رفضُ رئيس المجلس العسكري النيجري الجنرال عبد الرحمن تياني مقابلة الوفد الأميركي، وبالرغم من ذلك مدد الوفد إقامته من 12 حتى 14 مارس/آذار الماضي بهدف إقناع النيجريين بالإبقاء على اتفاقية التعاون الدفاعي المشترك بين البلدين.
إلا أن ذلك لم يجد نفعا، مما دفع الوفد الأميركي للمغادرة، وعقب ذلك أصدرت سلطات النيجر قرارها بإخراج القوات الأميركية من البلاد وإنهاء الاتفاق العسكري بين البلدين، باعتباره مجحفا بالنيجر ومفروضا عليها، وينتهك القواعد الدستورية والديمقراطية النيجرية.
محاولات البقاء
وحاولت أميركا لاحقا ثني النيجر عن قرارها، حيث أعلنت وزارة الخارجية الأميركية عن زيارة وفد ثان للنيجر نهاية أبريل/نيسان الماضي، وفي ذات الشهر صرح كريستوفر جرادي نائب رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة لوكالة أسوشيتد برس بأنه لا قرار نهائيا بشأن سحب القوات الأميركية من النيجر وتشاد، وأن بلاده ما زالت تسعى لإقناع السلطات النيجرية بتمديد الاتفاق العسكري معهما.
لكن يبدو من الإعلان المشترك بالاتفاق على جدول زمني لسحب القوات الأميركية أن كل محاولات الأميركيين باءت بالفشل، وصار همهم أن يتم الانسحاب بسلام، كما جاء في الإعلان المشترك.
وفي مقابلة مع صحيفة واشنطن بوست نشرت في 16 مايو/أيار الجاري، اتهم رئيس وزراء النيجر علي محمد الأمين زين الولايات المتحدة بالتدخل في شؤون بلاده، مضيفا أن المسؤولين الأميركيين حاولوا تحديد الدول التي يمكن أن تتعامل معها النيجر، وفشلوا في تبرير وجود القوات الأميركية في البلاد، في حين لم يفعلوا شيئا لمواجهة الإرهاب في المنطقة، حسب تعبيره.
البحث عن بدائلورجّحت دراسة للمعهد الأميركي لدراسات الحرب نشرت في التاسع من مايو/أيار الجاري أن تمثل ساحل العاج وغانا وبنين خيارات أخرى بديلة تنقل إليها القاعدة الجوية الأميركية لتضمن استمرار نفوذ واشنطن في المنطقة وقدرتها على المراقبة.
ومؤخرا قام قائد القيادة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) بزيارة لساحل العاج وبنين، ويرى مراقبون أن هذه الزيارة تتعلق بالبحث عن مكان بديل لقاعدة النيجر.
وكانت صحيفة وول ستريت جورنال قد ذكرت أن الولايات المتحدة قد بدأت بالفعل مناقشات أولية لإنشاء قواعد للطائرات بدون طيار في ساحل العاج وبنين وغانا في إطار بحثها عن بدائل لقواعدها في النيجر.
بيد أن تقرير "معهد دراسات الحرب" كشف أن هذه المواقع البديلة تواجه بعض التحديات، إذ لا يمكنها أن توفر نفس الوصول السريع إلى المناطق المستهدفة الذي تتيحه القواعد الأميركية في النيجر وتشاد، وبالتالي فلن تمكّن القوات الأميركية من استمرار مراقبتها لمنطقة الساحل والشمال الأفريقي.
روسيا تتمدد في الساحل
تدرك النيجر أنه من المستحيل الجمع بين استضافة وجود عسكري لكل من أميركا وروسيا، نظرا للعداء التاريخي البلدين. ولذلك لما استنجدت سلطات نيامي بالروسيين بات لزاما عليها إخراج الأميركيين، لتفادي التصادم.
وكان الجانبان قاب قوسين أو أدنى من الاحتكاك مطلع شهر مايو/أيار الحالي، فقد صرح مسؤول عسكري أميركي لوكالة رويترز أن أفرادا من القوات الروسية دخلوا قاعدة جوية في النيجر تستضيف قوات أميركية، محذرا من عواقب أي احتكاك بين الطرفين.
ولم يكابر الأميركيون هذه المرة حيث اعترفوا أن إخراجهم من النيجر وربما تشاد مكسب لروسيا وتراجع لنفوذهم في أفريقيا، فقد كرس مجلس الشيوخ في أبريل/نيسان الماضي جلسة له لتدارس التمدد الروسي في أفريقيا مقابل التراجع الأميركي.
وخلال الجلسة قال رئيس القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا الجنرال لانغلي إن روسيا تحاول السيطرة على وسط أفريقيا ومنطقة الساحل بوتيرة متسارعة، هذا فضلا عن نفوذها في ليبيا وفي جميع أنحاء المغرب العربي، تلك المنطقة التي تمثل الخاصرة الجنوبية لحلف الناتو.
وكانت هيئة الإذاعة والتلفزيون النيجرية، قد أعلنت خلال شهر أبريل/نيسان الماضي أن روسيا سلمت القوات النيجرية معدات عسكرية تتضمن أنظمة حديثة للدفاع الجوي.
وفي الوقت نفسه أفادت وكالة أسوشيتد برس بوصول مدربين عسكريين روس لتعزيز الدفاعات الجوية للبلاد مع معدات روسية لتدريب النيجريين على استخدامها، كما كشفت تقارير صحفية محلية عن بداية انتشار "فيلق أفريقيا" في النيجر، وهي تسمية جديدة لقوات فاغنر الروسية الموجودة في المنطقة.
وقد أكدت دراسة المعهد الأميركي لدراسات الحرب بدء انتشار القوات الروسية في النيجر، وإن رجحت أن حضور روسيا في النيجر سيظل محدودا في الأشهر المقبلة، لكنه سيخلق العديد من الفرص الإستراتيجية للكرملين "لتهديد أوروبا إستراتيجيا بالابتزاز في مجال الطاقة، وتدفقات الهجرة، والتهديدات العسكرية التقليدية".
وتتوقع الدراسة أن تعمل القوات الروسية في النيجر على تعزيز سلطات المجلس العسكري الحاكم في البلاد، وهو ما سيمكن روسيا على الأرجح من تحقيق أحد أهدافها المتمثلة في تأمين الوصول إلى الموارد الطبيعية للنيجر.
وتعتبر دراسة المعهد الأميركي أن عمليات نشر "المرتزقة" الروس مكنت من قبل من بناء هذا النوع من العلاقات الشخصية مع "أنظمة استبدادية" في بلدان أخرى، وذلك بهدف تعزيز النفوذ الروسي والحصول على امتيازات من الموارد الطبيعية لتلك البلدان.
ورأى معهد دراسات الحرب الأميركية أن استيلاء الروس على القاعدة الأميركية في أغاديز بالنيجر من شأنه تعزيز الارتباط بين القواعد الروسية في أفريقيا خصوصا بين شمال أفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى، حيث تبعد قاعدة أغاديز حوالي 1100 ميل من القاعدة الجوية التي تسيطر عليها روسيا في ليبيا شمالا، كما تقع على بعد المسافة نفسها تقريبا من القاعدة الروسية الرئيسية في العاصمة المالية باماكو غربا.
وتعتبر الدراسة أن المكسب الكبير لروسيا من زيادة نفوذها في النيجر هو وصول الروس إلى احتياطيات اليورانيوم الكبيرة في شمال النيجر، وهو ما من شأنه أن يزيد حصة روسيا في سوق الطاقة النووية، فالنيجر هي سابع أكبر منتج لليورانيوم في العالم، حيث تنتج سنويا حوالي 5% من إنتاج العالم من هذه المادة، وكانت فرنسا تعتمد خلال العقد الماضي بنسبة 20% على يورانيوم النيجر لتشغيل منشآت الطاقة النووية لديها.
تشاد على خطى النيجر
وأصبح طرد القوات الغربية في منطقة الساحل ظاهرة ينتقل عدواها من دولة لأخرى، فبعد طرد القوات الفرنسية من مالي وبوركينافاسو وقرار النيجر بإخراج القوات الأميركية من أراضيها، ها هي تشاد تسلك السبيل ذاتها.
فقد أعلن المجلس العسكري الحاكم في تشاد برئاسة الجنرال محمد إدريس ديبي في 19 أبريل/نيسان 2024 التعليق الفوري للأنشطة العسكرية الأميركية في قاعدة "أدجي كوسي" الجوية المتاخمة للعاصمة التشادية نجامينا، مبررا ذلك بفشل الأميركيين في تقديم وثائق تبرر وجودهم العسكري هناك، حسب رسالة من قائد القوات الجوية التشادية أمين أحمد إلى الملحق العسكري بالسفارة الأميركية في نجامينا، ونشرتها وكالة رويترز.
ونقلت وكالة أسوشيتد برس في 25 أبريل/نيسان 2024 عن مسؤولين أميركيين قولهم إن الولايات المتحدة ستسحب غالبية قواتها من تشاد، والتي يبلغ عددها نحو 100 جندي، لكن المتحدث باسم وزارة الخارجية فيدانت باتيل قال في مؤتمر صحفي مطلع الشهر الجاري إن الولايات المتحدة لا تزال في مفاوضات مع السلطات في تشاد حول مستقبل الشراكة العسكرية بين الطرفين، متوقعا تكثيف هذه المفاوضات بعد فراغ تشاد من الانتخابات الرئاسية التي جرت في البلاد في السادس من مايو/أيار الجاري.
ويشار إلى أن المجلس الدستوري النيجري أعلن في 17 مايو/أيار الجاري فوز رئيس المجلس العسكري محمد إدريس ديبي بنسبة 61% من الأصوات، لكن منافسه سوسيس ماسرا أعلن رفضه لتلك النتائج معتبرا نفسه الفائز وداعيا أنصاره للاحتجاج.
وكانت تشاد ـ تلك الدولة ذات الرقعة الشاسعة الواقعة في وسط إفريقياـ تعتبر شريكا رئيسيا للجيوش الغربية في معركتها ضد ما تسميه الإسلام المتطرف في منطقة غرب أفريقيا المجاورة، لكن قرارها بتعليق التعاون العسكري مع الولايات المتحدة يعتبر، إن تمادت عليه، بمثابة تموقع جديد.
واعتبر تقرير لمركز "أبعاد البريطاني" أن قرار السلطات التشادية قد يكون مُناورة للحصول على اتفاق أفضل يضمن مزيدا من الامتيازات والعائدات الاقتصادية، لكن مراقبين يعتبرون أن مضي النيجر قدما في إخراج القوات الأميركية من أراضيها قد يشجع اتشاد في التمسك بقرارها مع ما يعنيه ذلك من مكاسب أهمها مسايرة النقمة الشعبية المتزايدة ضد الغرب في الساحل، إضافة إلى إغراءات البديل الروسي.
واعتبر تقرير للمعهد الأميركي لدراسات الحرب أن تشاد تُعد الهدف الروسي الراهن في منطقة الساحل الأفريقي، وهو توجه يتقاطع مع سعي السلطات التشادية لتعزيز تقاربها مع موسكو الذي عكسته زيارة رئيس المجلس العسكري الحاكم محمد ديبي، إلى روسيا يناير/كانون الثاني 2024، إضافة إلى دخول المجلس العسكري الحاكم في نجامينا في تحالفات مع المجالس العسكرية الحاكمة في منطقة الساحل، والمدعومة من روسيا.
تثبت كل المعطيات، ومنها دراسة نشرتها مجلة "Responsible Statecraft" البحثية الأميركية في أبريل/نيسان الماضي أن إخراج النيجر للقوات الأميركية من أراضيها يعكس تنامي المشاعر المعادية للغرب وما يرتبط بها من تحولات إستراتيجية.
لكن الدراسة تكشف أن الرفض الجديد الخاص بالوجود العسكري الأميركي في منطقة الساحل مرده أن الولايات المتحدة لم تتقن لعبة التعامل مع الأنظمة في المنطقة، فلم تحل الديمقراطية بالقدر الكافي، ولم توفر الغطاء اللازم للمجالس العسكرية الحاكمة، وهو ما جعلها في نهاية المطاف تفقد كل شيء.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات المجلس العسکری الحاکم فی سحب القوات الأمیرکیة القوات الأمیرکیة من أبریل نیسان الماضی الولایات المتحدة مایو أیار الجاری فی منطقة الساحل الأمیرکیة فی فی المنطقة فی أفریقیا فی النیجر من النیجر روسیا فی
إقرأ أيضاً:
فخ ثوسيديدس وخطوط الصين الحمراء مع أميركا ترامب
خلال الأشهر الأخيرة جعل الرئيس الصيني شي جين بينغ موقف الصين من العلاقة مع الولايات المتحدة واضحا بشكل لا لبس فيه، وانعكس ذلك في خطاباته وتصريحاته المتعددة في قمم مثل "بريكس" و"بريكس بلس" ومنتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادي (APEC) وقمة العشرين.
وتحدث الرئيس الصيني بوضوح عن إستراتيجيته تجاه الولايات المتحدة في ظل عودة الرئيس المنتخب دونالد ترامب إلى السلطة وما قد يحمله ذلك من تحديات للعلاقات الثنائية، مستعرضا رؤيته لعالم مثالي بعيدا عن الهيمنة الغربية التي ترى بكين أنها تعيق التقدم العالمي.
وحدد الرئيس الصيني خطوطا حمراء للعلاقة بين البلدين لا يجوز تجاوزها، وتشمل قضية تايوان وملف حقوق الإنسان ومسار التنمية الصينية.
ولعل أبرز إعلان لتلك الخطوط وشكل العلاقة، كان في لقاء جمعه مع الرئيس الأميركي جو بايدن في 16 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي على هامش الاجتماع 31 لقادة اقتصادات منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادي (APEC) في عاصمة بيرو ليما.
وأكد أن سياسة "احتواء الصين" محكوم عليها بالفشل، داعيا إلى تعاون مبني على الاحترام المتبادل والندية، وقد يُنظر إلى هذا اللقاء مستقبلا، كلحظة فاصلة في العلاقات الصينية-الأميركية، نظرا لأهميته، حيث وضع إطارا واضحا للعلاقة بين البلدين، خاصة مع عودة دونالد ترامب إلى السلطة.
عودة الرئيس المنتخب دونالد ترامب إلى السلطة تسبب قلقا للصين (رويترز) فخ ثوسيديسانطلق الرئيس شي في حديثه مع الرئيس بايدن في لقائهما في ليما، مفندا نظرية المفكر الأميركي غراهام تي أليسون المعروفة بـ "فخ ثوسيديدس" الرائجة بين السياسيين الأميركيين اليوم.
إعلانومفاد تلك النظرية أن الصدام شبه حتمي بين الصين كقوة صاعدة والولايات المتحدة كقوة مهيمنة، مؤكدا أن الصين غير قابلة للهزيمة، وأن من سيحاول ذلك سيفشل، وأن خسارتها ستكون خسارة للجميع.
وحسب تعبير شي في منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادي "لاحظ أحد الحكماء الصينيين القدماء أن الرجل الفاضل، بينما يعمل على ترسيخ نفسه وتحقيق النجاح، يعمل أيضا على مساعدة الآخرين على ترسيخ أنفسهم وتحقيق النجاح".
وذكر الرئيس الصيني صراحة خلال اللقاء مع بايدن أن سياسة "احتواء الصين" ليست خيارا حكيما أو مقبولا، ومن المؤكد فشلها.
وحدد في خطابه 7 نقاط أساسية كمبادئ توجيهية للعلاقات، وهي:
المواجهة بين الطرفين ليست حتمية. الثقة والمصداقية وتوافق الأقوال مع الأفعال مطلب أساسي لنجاح العلاقة. ضرورة التعامل من منطلق الندية والمنافسة. الحرص على عدم التعدي على المصالح القومية الكبرى والتي تعتبر خطوطا حمراء. اعتماد مبدأ الحوار والتعاون. والعمل على التجاوب مع تطلعات الشعب بالاستقرار والرفاه. إدراك مسؤولية الدول الكبرى في مجال السلام العالمي والصالح العام للبشرية.كما شدد على 4 خطوط حمراء رئيسية في علاقة البلدين، وهي:
قضية تايوان. ملف حقوق الإنسان. مسار الصين ونظامها. حق الصين في التنمية.بالتأكيد فإن المخاطب بهذه السياسات والخطوط الحمراء في كلام الرئيس الصيني الاستثنائي وغيره من المسؤولين الصينيين، لم يكن الرئيس بايدن، بل هو ترامب المعروف بمواقفه المتشددة تجاه الصين.
ففي مقال نشرته وكالة بلومبيرغ تحت عنوان "غصن الزيتون الذي يقدمه شي إلى ترامب يأتي مصحوبا بتحذير بشأن الخطوط الحمراء" وآخر في افتتاحية صحيفة ساوث تشاينا مورنينغ بوست تحت عنوان "شي يحدد خطوطا حمراء في المحادثات مع بايدن من أجل ترامب".
وكان ترامب قد هدد خلال حملته الانتخابية بإعادة فرض رسوم جمركية تصل إلى 60% على الواردات الصينية بجانب الرسوم القائمة، كما هدد لاحقا بفرض جمارك 100% على دول منظمة بريكس التي يمكن أن تفكر بتقويض مكانة الدولار الأميركي، ومواصلة سياسات الضغط للحد من صعودها على الساحة الدولية.
إعلانوشكل فريقا من الذين ما فتئوا يطلقون تصريحات معادية للصين، مثل بيتر نافارو وستيفن ميلر، اللذين طالما أكدا في مقالاتهما على ضرورة استمرار خطط الضغط على الصين، مع التركيز على "التعامل الصارم" وفرض تعريفات جمركية جديدة وتوسيع الإجراءات لحماية الصناعة الأميركية.
إذن، من الواضح أن الصين على لسان شي أرادت تحديد الممنوع والمسموح في العلاقة الصينية الأميركية ومجالات التعاون المختلفة ومحاولة الاستفادة المتبادلة من المصالح بدلا من التنازع، وأنها مستعدة لكل الخيارات.
من جانبه، أشار بايدن خلال لقاء بشي في قمة ليما، إلى أهمية التعاون بين البلدين في مواجهة التحديات العالمية، مثل التغير المناخي والأمن الغذائي، ومع ذلك، عكس البيان الأميركي الرسمي بعد اللقاء، تجاهلا واضحا للموقف الصيني الحازم، حيث وصف الاجتماع بأنه "إيجابي وبناء"، ويتحدث عن لقاء شبه روتيني، لا يشكل علامة فارقة البتة في العلاقة بين الطرفين، مما يشي بعدم المبالاة الأميركية بمطالب الصين أو عدم جدية إدارة بايدن بالتعامل مع هذا الموضوع المهم.
قمة قازان
وسبق أن ألقى الرئيس الصيني قبل ذلك بأقل من شهر، خطابا قويا خلال قمة "بريكس" ثم في "بريكس بلس" التي عُقدت في قازان في 23 و24 أكتوبر/تشرين الأول الماضي وضع فيه تصورات جديدة لمستقبل النظام العالمي، وركز فيه على بناء عالم أكثر عدالة وإنصافا وعلى ضرورة منع انزلاق العالم إلى هاوية الفوضى والاضطراب.
وبعث رسائل واضحة عن رغبة الصين في قيادة التحول نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب، بعيدا عن الهيمنة الغربية، وهو ما تم عكسه أيضا في خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في نفس المؤتمر، وإن كان ضمن رؤية أقل اتساعا من الرؤية الصينية.
وفي خطابه أمام اجتماع "بريكس بلس"، الذي لم يستغرق سوى بضع دقائق، استخدم الرئيس شي مصطلح "الجنوب العالمي" 13 مرة، مشيرا إلى أهمية الدول النامية في تشكيل المستقبل العالمي، وأن التحديث والتنمية الاقتصادية لهذه الدول يمثلان حدثا تاريخيا يجب دعمه.
إعلانكما دعا إلى تعزيز الحوكمة العالمية في مجالات الأمن والاقتصاد في إشارة مبطّنة إلى فشل النظام العالمي بصورته الحالية، ورفَض صراحة سياسات الهيمنة التي وصفها بأنها تعيق التعاون الدولي.
وأوضح الخطاب أيضا أن بكين ترى فرصتها أكبر في قيادة العالم النامي نحو مستقبل أكثر استدامة، في وقت تعاني فيه المنظومة الغربية التقليدية من أزمات متعددة.
ولعل هذا التركيز على فكرة الجنوب العالمي يوحي بأن الصين ترمي إلى حشد الدول المتضررة من النظام الدولي القائم حاليا -وأغلبها خارج جغرافيا أوروبا الغربية وأميركا الشمالية- لتشكيل كفة تُوازن الهيمنة الغربية على العالم وتحدّ من تغولها، تحت عناوين جذابة كالتنمية والاستقرار.
رؤية الصين للنظام العالميلم تقتصر رؤية الصين على انتقاد النظام الدولي الحالي والتعبير عن عدم رضاها عن كيفية إدارة ما يسمى بالمجتمع الدولي، والتشكك بكيفية توظيف هذه المؤسسات بحيث تخدم دولا بعينها، بل تجاوزت ذلك إلى طرح مبادرات متعددة تسعى لإعادة صياغة هذا النظام بما يخدم توازن القوى عالميا، وحل الأزمات المستعصية التي تواجه العالم.
وترى بكين أن الإصلاح التدريجي للنظام الدولي لن يكون كافيا لتلبية تطلعات الشعوب النامية، مما دفعها إلى تسويق نموذجها كبديل، وقد أظهرت دراسة صادرة عن مجلس الأطلسي بعنوان "كيف تعيد بكين تشكيل النظام العالمي؟"، أن المبادرات الصينية تهدف إلى ترسيخ نظام عالمي جديد تكون الصين مركزه.
ومن أبرز تلك المبادرات "مبادرة الأمن الجماعي" و"مبادرة التنمية العالمية" و"مبادرة الحزام والطريق" و"مبادرة الحضارة العالمية" وغيرها، وكيفية تسويقها على أنها تنسج عالما جديدا بمعايير صينية، وتنتج نظاما عالميا جديدا بديلا عن النظام الحالي، الذي تحتل الولايات المتحدة مركزه.
وورد في دراسة صادرة عن مجلس الأطلسي بعنوان " كيف تسعى مبادرات بكين الجديدة إلى إعادة صناعة النظام العالمي"، أن الصين تروج لنظرية تكون فيها هي مركز هذا النظام العالمي المستقبلي المنشود.
إعلانمن وجهة النظر الصينية، فالصين أخرجت 800 مليون مواطن من تحت خط الفقر، ولديها الحلول لكل المشاكل التي يعاني العالم منها اليوم، كما عبر عن ذلك الرئيس شي في كلمته أمام منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادي عندما قال إن بلاده وضعت خططا منهجية لتعميق الإصلاح على نطاق واسع لتعزيز التحديث الصيني.
وتابع أنه تم الكشف عن أكثر من 300 تدبير إصلاحي لاحق يتعلق "ببناء اقتصاد سوق اشتراكي عالي المستوى، وتعزيز التنمية الاقتصادية عالية الجودة، وتعزيز الانفتاح عالي المستوى، وتحسين نوعية حياة الناس، وبناء دولة جميلة. وسوف يوفر المزيد من التنمية في الصين فرصا جديدة لمنطقة آسيا والمحيط الهادي والعالم أجمع".
بالطبع، لا تبدو الولايات المتحدة مستريحة تجاه هذه المبادرات الكثيرة، بل ترى فيها تقويضا لقيادتها وهيمنتها على العالم، بل أبعد من ذلك فهي تخشى أن تكون الشركات الصينية المشاركة في هذه المبادرات خاصة مبادرة "الحزام والطريق"، مركزا للنظام الذي تدعو الصين إلى تكوينه، وأن تسيطر هذه الشركات على الأسواق العالمية في أميركا وأفريقيا وفي أميركا اللاتينية بل حتى في أوروبا.
استعداد لكل الاحتمالات
تشعر الصين بالقلق إزاء السياسات الأميركية، خاصة مع تبني واشنطن لنظرية أن الصدام بين القوى الصاعدة والقوى المهيمنة هو أمر محتوم، وفي المقابل، تتبع بكين إستراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى تجنب الصراع من خلال تعزيز دورها العالمي.
ولا شك أن الخطوط الحمراء التي شدد عليها الرئيس شي، هي المداخل الكبرى لتقويض السيادة الصينية.
وباتت بكين تدرك أن رغبتها بتجنب الصراع مع الولايات المتحدة ليس مرهونا بالنيات الصينية وحسب، بل يعتمد بالمقام الأول على سلوك الولايات المتحدة، التي تعتنق نظرية الصدام، وتنتهج ما يطلق عليه إستراتيجية "الفناء الصغير والسياج العالي" التي وضعها مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، للحد من نفوذ الصين.
إعلانويبدو أن هذا النهج لا يقتصر على إدارة بايدن والحزب الديمقراطي، بل يتعداه ليشمل غالبية النخبة السياسية الأميركية التي باتت تنظر إلى الصين كمهدد لزعامتها على العالم بل للحضارة الغربية ذاتها.
كما ترى أن عليها أن تحول دون تحقيق الصين لأهدافها مهما كانت التكاليف، ويفضل أن يكون ذلك بأقرب وقت ممكن وقبل أن يصبح ذلك متأخرا.
بالمقابل فإن النخبة الصينية في محاولتها تجنب المواجهة مع أميركا، تنطلق من نظرية أن الولايات المتحدة هي قوة عظمى آفلة وأن تأخير الصراع معها يمكن أن ينفي الحاجة إليه، مع استمرار تراجع الدور الأميركي وضعف نفوذ الغرب عامة.
ولكنها مع ذلك تريد أخذ التدابير الكافية التي تحصن الصين ضد الهزيمة إن حصلت مواجهة في أي مجال من المجالات مع الولايات المتحدة، بالذات في عهد الرئيس ترامب الذي صار معروفا عنه أنه يستعمل إستراتيجيه "الرجل المجنون" غير القابلة للتنبؤ، في إدارته للعلاقات الخارجية.