خطاب عباس وإعادة إنتاج المأزق القيادي الفلسطيني
تاريخ النشر: 22nd, May 2024 GMT
انطلق النضال الوطني الفلسطيني منذ ما يزيد على المئة عام، ولم تخلُ حقبة في التاريخ المعاصر، منذ الاحتلال البريطاني لفلسطين عام 1917، من موجة نضال ومقاومة، ويتزايد عنفوان وقوة المقاومة الفلسطينية مع مرور الزمن.
ترافق مع عظم الأداء والبطولة من قِبل الشعب الفلسطيني، وقواه المقاوِمة في غالبية محطات نضاله، أداءٌ سياسي مرتبك وضعيف، في كثير من الأحيان، ومأساوي في أحيان أخرى.
نقف اليوم، في ظلال معركة "طوفان الأقصى" البطولية، أمام تحدٍّ تاريخي جديد، مرتبط في جزء مهم منه بأداء القيادة السياسيّة الفلسطينيّة، وقدرتها على الاستثمار في الأداء الشعبيّ والمقاوم الاستثنائيّ في هذه المعركة، حيث يترافق مع ذلك تغيير كبير في موقع ومكانة القضية الفلسطينية بين شعوبِ العالم المختلفة، وعددٍ مهمٍ من الدول.
فالمسيرات الشعبية لا تتوقف في عدد كبير من دول العالم، والاحتجاجات الطلابية في العديد من جامعات العالم، وبالذات في الجامعات الأميركية، ونشاط حركات التضامن مع الشعب الفلسطيني، وتنامي الدعوات لتفكيك الاستعمار الصهيوني لفلسطين ومواجهته كنظام أبرتهايد، يشبه نظام الفصل العنصري الذي ساد في جنوب أفريقيا عقودًا طويلة، وتطوّر مواقف العديد من الدول التي تنادي علنًا بضرورة الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطينيّ وحقه في إقامة دولته المستقلّة.
لقد كشفت هذه الحرب حقيقة الكيان الصهيوني بوصفه كيانًا عنصريًا فاشيًا متطرفًا يفيض كراهية وإجرامًا. كل ذلك يصبّ في مصلحة النضال الفلسطيني العادل، ويدفع باتجاه تحول القضية الفلسطينية إلى قضية أممية، تحظى بدعم كل أنصار الحرية والعدالة والمساواة، الأمر الذي يحتاج أداء قياديًا فلسطينيًا مختلفًا.
فجوة لا بدّ من سدّهاأثار خطاب رئيس السلطة الفلسطينية أمام القمة العربية في المنامة، والحديث عن الانقسام، وتحميل حماس المسؤوليّة عن استمراره، الكثيرَ من الاستغراب. فقد بدا وكأنه يبرّر العدوان الهمجي للاحتلال على غزة، وقد ناله من النقد والهجوم ما ناله، خاصة أن الخطاب جاء بعد أشهر من عرض قيادة المقاومة رؤيتها السياسية، المنسجمة مع رؤية الكل الوطني الفلسطيني، والتي تمّ الإعلان عنها رسميًا على لسان رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، وتقديمها للعديد من دول العالم، وبالذات التي تقود الوساطة لإنهاء الحرب.
لكن الأهمّ أن هذا الخطاب كشف مرّة أخرى عن الأزمة الفلسطينية العميقة، وعن الفجوة الكبيرة بين الميدان والقيادة الرسميّة.
الحديث عن قيادة فلسطينية واحدة قد يبدو جمعًا بين المتناقضات، والبرامج المتعارضة، والمصالح المتباينة، وهو أمر بعيد المنال وصعب التحقيق، لكنّه رغم ذلك لا يمكن أن يحول دون العمل وفق، المشترك الوطني والسياسي، وهو كبير، وتغليب مصلحة الشعب والجماهير التي تصمد وتقاوم، على المصالح الضيّقة والمكاسب الحزبية الموهومة.
صحيح أنّ التحديات أمام توحيد الموقف الفلسطيني كثيرة، بدءًا بالموقف الأميركي والضغط الإسرائيلي، وكثير من المواقف الإقليمية المعيقة، لكن لا يوجد خيار سوى تحدّي هذه العقبات، وبالذات عندما يكون الأمر مرتبطًا بالصمود والتضحيات والبقاء الوطني، ومواجهة التهجير والتطرّف الصهيوني. إن التجربة التاريخية الفلسطينية تؤكد ألا مستقبل لمن يتماهى مع هذه الضغوط ويستسلم لها، فلا الشعب الفلسطيني سيغفر، ولا القوى الخارجية ستوفر الحماية في المستقبل.
القيادة السياسيّة الموحدة أوَّلية قصوىإنَّ وجود قيادة سياسية موحدة ومنسجمة مع موقف ومقاومة شعبها، شرط ضروري لتحقيق الإنجاز السياسي، والاستثمار في النضال والمقاومة لصالح المشروع الوطني، وإن حديث البعض عن أن الانقسام السياسي والقيادي الفلسطيني لا يلحق بالضرورة ضررًا بالحركة الوطنيّة والمشروع الوطني الفلسطيني، بل وذهاب بعضهم بعيدًا في اعتبار الانقسام حالة خدمت المشروع، هو أمرٌ لا يقبله منطق، ولا تصدّقه التجربة التاريخية، ولا تجارب الشعوب التي وقعت تحت الاستعمار.
وإن القياس على تجارب مثل فيتنام أو غيرها – ممن قام الاستعمار فيها بتشكيل حكومات أو بنى سياسية موالية له وجزء من مشروعه – لا ينطبق على الحالة الفلسطينية، وهو ما لا تتعامل قيادة الفصائل الفلسطينية، وبالذات قيادة المقاومة وَفقه.
كما أن كل فلسطيني يشارك في الفعاليات الدولية والمؤتمرات المهنية، ويلتقي مع أصدقاء الشعب الفلسطيني من مؤسسات رسمية وشعبية يواجَه بسؤال الوحدة الوطنية، والحثّ على ضرورة التوحد لمواجهة المشروع الصهيوني، ولتسهيل مهمة أصدقاء الشعب الفلسطيني وداعميه، وقد برز ذلك واضحًا، على سبيل المثال لا الحصر، في مؤتمر مناهضة الاستعمار والأبرتهايد في فلسطين، الذي انعقد قبل أيام في جنوب أفريقيا.
ولعل وجود عنوان سياسي موحد، وقيادة منسجمة مع حركة نضال الشعب الفلسطيني، يساهم بشكل فعال في:
الحيلولة دون استمرار الاحتلال وداعميه في استخدام الانقسام القيادي السياسي كذريعة للتهرب من الالتزام بالقرارات والتحركات والدعوات الدولية المطالبة بوقف الحرب الهمجية على قطاع غزة، وإنجاز بعض من الحقوق السياسية. قطع الطريق على حكومة الاحتلال وإحباط محاولتها فرضَ صيغة غير وطنية وغير فلسطينية، إقليمية أو دولية، لتتولى ما بات يعرف باليوم التالي للحرب. تهيئة بيئة سياسية قد تساعد في وقف العدوان من خلال وجود عنوان فلسطيني واحد معترفًا به إقليمًيا ودوليًا، ويحظى بشرعية وتوافق وطني فلسطينيّ. التجاوب مع رغبة الغالبية العظمى من الشعب الفلسطيني الطامحة لإنجاز الوحدة، والارتقاء لمستوى صموده وصبره وعطائه وبطولته، وبث قدر من الأمل والطمأنينة في أوساطه. مساعدة كل أصدقاء الشعب الفلسطيني رسميًا وشعبيًا عبر توحيد عنوانهم السياسي، ورفع الحرج عنهم في التعامل مع أكثر من عنوان سياسي وقيادي، ناهيك عن كونها متباينة غالبًا، ومتناقضة في بعض الأحيان. حل الأزمة القائمة لدى مناصري الشعب الفلسطيني والمتضامنين معه ومع قضيته العادلة، الناجمة عن طرح أكثر من رؤية وموقف فلسطيني حول ذات الموضوع. القوى الشعبية الفلسطينية قد تشكل حلًافي ظل استمرار الفجوة الناجمة عن غياب قيادة فلسطينية جامعة وكاملة التمثيل ومنسجمة مع حركة الشعب وقواه المقاومة في الميدان، يمكن أن تساهم قوى المجتمع المدني والمبادرات الوطنية والشعبية في سد جزء منها، في بعض الميادين والملفات الهامة، ولو مرحليًا.
فالقوى الشعبية يجب أن تتصدى لمهمتَين تاريخيتَين، وتتحرك بشكل سريع وفعال للتعامل معهما، الأوّلى: هي ممارسة ضغط جدي وفعال على الفصائل والمؤسسات والقيادات السياسية؛ لتشكيل قيادة فلسطينية موحّدة انتقالية، تتولى إدارة المرحلة الحالية، وملء الفراغ القيادي.
والثانية: هي التعامل مع كل ما نجم عن هذا الفراغ والتقصير القيادي تجاه المعركة الاستثنائية التي يقودها شعبنا، سواء في تعزيز الرواية الفلسطينية ونشرها، ودعم وإسناد الحراكات والحركات الداعمة للفلسطينيين ونضالهم الوطني، وإسناد شعبنا في قطاع غزة، وتوفير كل أسباب الصمود له، ومواجهة كل أشكال العدوان عليه، وملاحقة المحتل على كل الصعد: الإعلامية، والقانونية، والحقوقية.
وهو ما يتطلب توافقًا وتنسيقًا وتنظيمًا لجهود المجتمع المدني الفلسطيني، ومؤسساته وتجمّعاته الشعبية. وهي الأخرى مدعوة لتجاوز بعض خلافاتها البينية، وأزمة من بادر ومن صاحب الفكرة، ومن سيقود التحرّك، لصالح العمل الجاد والمؤثر المنسجم مع اللحظة التاريخية، والمعبّر عن بطولات الشعب الفلسطيني وأصالته.
يمرّ الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية ومشروعه السياسي بمرحلة حرجة للغاية، تحمل في ثناياها الكثير من المخاطر والتحديات، وفي ذات الوقت الكثير من الفرص التي يجب اغتنامها، الأمر الذي يتطلب من الجميع، أحزابًا وقوى ونخبًا وأفرادًا، التحلي بأعلى درجة من المسؤولية، وتغليب المصلحة الوطنية على ما سواها.
وإن شعبًا يقدّم، منذ ما يقارب الثمانية أشهر، نموذجًا غير مسبوق في التضحية والفداء والصمود والصبر والبطولة، ويسطر كل هذه الملاحم التي نعيشها يوميًا، يستحقّ من الجميع نكران الذات، والارتقاء في المواقف، والتصرُّف وَفق ما يمليه عليهم دينهم، وإنسانيتهم، وانتماؤُهم الوطنيّ.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الشعب الفلسطینی ة الفلسطینی
إقرأ أيضاً:
إطلاق سراح القيادي الفلسطيني البارز في صفقة تبادل الأسرى الإسرائيلية
القدس المحتلة - من المقرر إطلاق سراح زكريا الزبيدي، الزعيم السابق لجماعة فلسطينية مسلحة والذي سجن بسبب هجمات أدت إلى مقتل العديد من الإسرائيليين، الخميس 30يناير2025، كجزء من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة بين إسرائيل وحماس.
ويعد الزبيدي (49 عاما) أحد أبرز المعتقلين الـ110، بينهم 30 قاصرا، الذين من المقرر إطلاق سراحهم مقابل ثلاثة إسرائيليين، بحسب نادي الأسير الفلسطيني.
برز الزبيدي خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ليصبح أحد أبرز القادة المسلحين في جنين ومخيم اللاجئين التابع لها في الضفة الغربية المحتلة.
خلال الانتفاضة، قُتلت والدة الزبيدي برصاصة عندما داهم الجيش الإسرائيلي المخيم.
ويعرفه أجهزة الأمن الإسرائيلية بأنه الرجل الذي يقف وراء العديد من الهجمات المميتة البارزة ضد الإسرائيليين.
- سنوات طويلة من النضال -
انخرط الزبيدي في حركة فتح التي يرأسها الرئيس الفلسطيني محمود عباس بعد فترة قضاها في السجن عام 1989 عندما كان في الرابعة عشرة من عمره.
أعيد اعتقاله في عام 1990 بتهمة إلقاء الحجارة والزجاجات الحارقة على القوات الإسرائيلية، وترقى في الرتب حتى أصبح في نهاية المطاف زعيم الجناح المسلح لحركة فتح، كتائب شهداء الأقصى، في جنين.
وأُطلق سراحه مرة أخرى في عام 1994 بموجب اتفاقيات أوسلو، وانضم إلى قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية التي تم إنشاؤها حديثًا في مدينة أريحا بالضفة الغربية إلى جانب سجناء سابقين آخرين.
وفي عام 2001، أصيب الزبيدي في انفجار عرضي أثناء "مهمة عسكرية" تسبب في حروق بالغة في وجهه وعينيه لا تزال ظاهرة حتى اليوم.
-'الفأر الأسود'-
وأُرغم الزبيدي على الاختباء بسبب نشاطه المسلح المستمر، وظل هارباً حتى عام 2007، عندما وافق على تسليم أسلحته للسلطة الفلسطينية.
وبموجب الصفقة، التي شملت جميع الهاربين الذين اختاروا الامتثال، تم رفع اسم الزبيدي من قائمة إسرائيل للأفراد المطلوبين.
لكن في عام 2011، ألغت إسرائيل العفو عن الزبيدي لأسباب غير معلنة. وقد ألقي القبض عليه في عام 2019 للاشتباه في تورطه في هجمات إطلاق نار متعددة بالقرب من مستوطنة بيت إيل الإسرائيلية، بالقرب من رام الله.
وزعم المتشدد أنه نجا من عدة محاولات اغتيال من قبل إسرائيل التي قيل إنها أطلقت عليه لقب "الفأر الأسود" بسبب قدرته على التهرب من الاستهداف.
ومن بين الفلسطينيين، يُعرف الزبيدي بأنه صاحب نفوذ في جنين، فضلاً عن كونه أحد السجناء القلائل الذين تمكنوا من الفرار من سجن جلبوع الإسرائيلي شديد الحراسة في عام 2021.
مع خمسة سجناء آخرين، تمكن من الهروب عبر نفق تم حفره تحت جدران السجن، ولكن تم القبض عليه مرة أخرى بعد خمسة أيام.
- المسرح -
وانخرط الزبيدي أيضًا في المسرح في جنين، وهو مخيم للاجئين مكتظ بالسكان تم إنشاؤه في أوائل الخمسينيات من القرن العشرين لاستضافة الفلسطينيين الذين فروا من منازلهم عند إنشاء إسرائيل.
عندما كان طفلاً، شارك في أنشطة "بيت أرنا"، وهو مساحة مجتمعية ومسرح أسسته الناشطة الإسرائيلية أرنا مير خميس لشباب المخيم، ويقع في نفس المبنى الذي تعيش فيه عائلته.
وفي غارة عام 2002، دمر الجيش الإسرائيلي مسرح المجتمع المحلي، والذي أعيد بناؤه فيما بعد وأطلق عليه اسم مسرح الحرية.
وبعد العفو الصادر عام 2007، عاد الزبيدي إلى جنين وشارك من جديد في مسرح المخيم.
وفي الفترة نفسها، أصبح أيضًا ناقدًا علنيًا للسلطة الفلسطينية.
خلال سنوات سجنه، قُتل ثلاثة من أشقاء الزبيدي، بالإضافة إلى ابنه محمد، على يد الجيش الإسرائيلي.
وقالت مصادر مقربة من الزبيدي إن أول ما كان يخطط له بعد الإفراج عنه هو زيارة قبر ابنه الذي غاب عن جنازته أثناء وجوده في السجن.
Your browser does not support the video tag.