علوم الطبيعة وأسئلة الإنسان الكبرى؟
تاريخ النشر: 22nd, May 2024 GMT
تتميز المعرفة العلمية عن المعرفة الدينية والفلسفية بأن المعرفة العلمية أنتجت نتاجا ملموسا وواضحا وسريعا في حياة المجتمعات البشرية، وهذا التغير الكبير والملموس في حياة هذه المجتمعات البشرية، نتج عنه إعجاب كبير ومنقطع النظير بهذه العلوم، كما زاد من ثقة المجتمعات بها، فليس من شاهد كمن سمع، ولقد شاهدت هذه المجتمعات أثر المعرفة العلمية في حياتها والرفاه المادي الذي صاحب هذه المعرفة، ومن هنا فلقد توسعت مساحة هذه العلوم وبدأت تدلي بدلوها في مساحات كانت مخصصة للدين والفلسفة، فعلى سبيل المثال كانت النظريات المرتبطة بنشأة الكون مقتصرة في السابق على نظريات دينية وفلسفية، وكذلك خلق الكائنات الحية وخلق الإنسان، بينما نجد اليوم أن علوم الطبيعة تطرح نظرياتها العلمية في هذا الخصوص،
ولقد وصلت سطوة علوم الطبيعة بحيث أن علماء الدين لا يستطيعون اليوم تجاوز معطيات علوم الطبيعة، بل لابد لهم من أخذها بعين الاعتبار في محاولاتهم لطرح نظرياتهم حول الموضوعات المختلفة.
بل غالى البعض في قيمة المعرفة العلمية وطرح فكرة مفادها أن علوم الطبيعة هي العلوم الوحيدة التي توصل إلى الحقيقة، فكل ما لا يمكن لعلوم الطبيعة إثباته فهو خارج عن إطار الحقائق بل هو أحاديث لغوية لا قيمة لها فلا يمكن التحقق من صحتها. فهل يمكننا بحق الإيمان بذلك؟ وهل يمكننا أن نرفع من قيمة علوم الطبيعة لهذا المستوى بحيث تصبح الوسيلة الوحيدة التي يمكن من خلالها الوصول إلى الحقائق الكونية؟، وهل بإمكان علوم الطبيعة أن تجيب عن الأسئلة الكبرى الخالدة التي ولدت مع الإنسان منذ قديم الزمن، مثل من أين أتيت؟ ولماذا؟ وهل هناك حياة بعد الموت؟ وهل هناك إله خالق لهذا الكون؟ وغيرها من هذا الصنف من الأسئلة؟
ومن نتائج الإيمان بأن علوم الطبيعة هي الوسيلة الوحيدة للوصول إلى الحقائق الكونية، أن علماء الطبيعة هم من يحتكرون الحقيقة وأن الفلسفة التي كانت تبحث عن إجابات لهذه الأسئلة لم تعد لها قيمة فهي تتحدث عن عالم خيالي لا حقيقة له!
لكننا نرى أن من يطرح هذه الرؤية عليه أولا أن يجيب ويوضح لنا كيف يمكننا أن نتحقق من صحة ما يدعيه من أن المعرفة العلمية هي السبيل الوحيد لمعرفة الحقيقة؟ وبأي تجربة يمكننا قياس صحة هذا الادعاء؟ فعلماء الطبيعة متفقون على أن أي ادعاء علمي لا بد أن يكون قابلا للتجربة والرصد، فإذا كان الفرض غير قابل للقياس والتجريب والملاحظة فهو فرض خارج عن نطاق علوم الطبيعة، وبالتالي فهو ادعاء لا دليل علمي عليه، ولذا فإننا نتساءل ماهي التجربة التي يمكننا القيام بها لإثبات صحة ادعاء أن علوم الطبيعة هي الطريقة الوحيدة للوصول إلى الحقيقة؟!
والواقع أن هذا الادّعاء يستحيل إثباته بالتجربة، فإذا تم إثباته بطرق منطقية غير تجريبية، فذلك سيفند الادعاء نفسه ويناقضه، إذ تم إثباته بطرق غير علمية! ولذا فإننا نقطع بزيف هذا الادعاء ونرى أنه لا قيمة له.
كما نلاحظ أيضا أن هناك عددا من الكتب العلمية تسعى إلى تبسيط العلوم، وهذه الكتب ذات أهمية بالغة ولكن هذه الكتب تطرح أيضا رؤية الكاتب في قضايا قد لا تمت لعلوم الطبيعة بصلة مباشرة، وقد تطرح فرضيات وكأنها نظريات علمية مسلمة بها في الوسط العلمي، كأن تنفي وجود قوة غيبية وراء الأسباب الطبيعية أو تحاول أن تثبت وجودها، إن نفي أو إثبات وجود قوة غيبية وراء السبب المادي ولا يرجع إلى علوم الطبيعة من قريب أو بعيد لأن علوم الطبيعة تنحصر في البحث في السبب القابل للتجريب ولذا فمسألة القوة الغيبية هي خارجة عن نطاق علوم الطبيعة من أساسه.
بل إننا نرى أن الأسئلة الكبرى المرتبطة بوجود الإنسان المتعلقة بالمبدأ والمصير والهدف من وجوده وغيرها هي أسئلة فلسفية أو دينية لا تمت لعلوم الطبيعة بصلة مباشرة، وما يطرحه علماء الطبيعة في هذا الصدد هو آراء شخصية تكونت ولعبت علوم الطبيعة دورا في صياغتها ولكن البيئة والتربية والتجارب الشخصية كلها ساهمت وبشكل كبير في صياغتها أيضا، لذلك فهي خلاصة فكر عالم الطبيعة وليس خلاصة علوم الطبيعة!.
لكن علوم الطبيعة يمكنها أن تثير تساؤلات أو تسلط الضوء على بعض الأطروحات التي تتناول هذه الأسئلة الكبرى وتوضحها بصورة أفضل.
فالأساس التي تقوم عليه علوم الطبيعة والركن الركين لها هو الإيمان بوجود نظم وقوانين طبيعية، وأن هذه النظم والقوانين الكونين متحكمة في هذا الكون ومهيمنة عليه، وما تقوم به علوم الطبيعة هو محاولة الكشف عن هذه القوانين والأنظمة، وبالمقابل فإن على علم الفلسفة أن يتصدى ويشرح لنا من أين أتت هذه النظم والقوانين، فنحن نعلم بالبداهة والتجربة أن وجود النظم والقوانين يعني وجود منظم ومقنن، فمن هو المنظم والمقنن في هذه الحالة؟!
وقد يتساءل البعض لماذا تعجز علوم الطبيعة عن الإجابة على هذا السؤال، والجواب أن نسبة هذه القوانين إلى مادة أولية لن يحل الإشكالية، فمن أوجد تلك المادة، أما إذا قلنا بأن المقنن أو المنظم لهذا الكون ليس ماديا، فلقد خرجنا من نطاق الطبيعة إلى نطاق ما وراء الطبيعة ومن علوم الطبيعة إلى ما وراءها.
لقد كان يرى علماء الطبيعة أن فكرة الكون الأزلي الثابت الذي لا يتغير حل لهذه المعضلة، فالكون كان موجودا منذ الأزل ولذا فلا داعي لأن يوجده شيء، ومع أن هذه الفكرة مناقشة فلسفيا إلا أن علماء الطبيعة كانوا يعتقدون أن القول بأزلية الكون وثباته تغنينا عن البحث عمن أوجد هذه النظم والقوانين في هذا الكون.
لكن نظرية الانفجار العظيم ووجود لحظة معينة ولد فيها الكون الذي نعيشه أدخلت العلماء في حيرة من أمرهم وهذا ما حدا ببعضهم أن يعبر عن ذلك بقوله: «إليكم المعضلة التي يواجهها الفيزيائيون: التمدد السريع يقدم قصة الأصل الكوني بأكملها في حزمة واحدة لا تقاوم، لكنه يفعل ذلك على حساب فرض واحد: بداية مضبوطة بدقة للكون!» (١٦)
فكيف واجه علماء الطبيعة ذلك؟ وما هي الحلول التي طرحوها للتغلب على هذا التحدي؟
طرح عدد من العلماء فرضية مفادها أن هناك ملايين الأكوان وأن كوننا هو أحد هذه الأكوان، وكل كون من الأكوان لديه نظمه وقوانينه الخاصة به، وبذلك فلا داعي للبحث عن مقنن ومنظم للكون الذي نعيش فيه، فهو ليس الكون الوحيد، بل هناك الملايين من هذه الأكوان وكل له نظمه وقوانينه.
إلا أن هذه الفكرة كما نلاحظ من الصعب عدها نظرية علمية بل ربما مع تساهل يمكن اعتبارها فرضية، وذلك لأن هذه الفرضية تفترض أساسا عدم إمكانية إجراء تجربة أو ملاحظة لهذه الأكوان والتحقق من وجودها. فما هي الوسائل المتاحة للتحقق من هذه الأكوان؟
والجواب أنه لا توجد وسائل للتواصل مع تلك الأكوان لأنها أكوان منفصلة عن كوننا وهذا يعني أن التحقق من هذه الفرضية غير ممكن تجريبيا وبذلك تخرج من كونها فرضية علمية لأنها غير قابلة للتجريب، وأما إذا تمكنا من التواصل مع تلك الأكوان في المستقبل كما يأمل البعض، فهذا سيثبت خطأ النظرية لأن تلك الأكوان لم تعد أكوانا بل غدت جزءا من كوننا.
كما نجد أيضا أن نظرية الانفجار العظيم طرحت إشكالا فلسفيا عميقا مفاده من أين جاءت هذه الذرة الكونية؟ وفي محاولة للتصدي لهذا السؤال هناك من طرح إجابة مفادها بأن الذرة الكونية تولدت من الفراغ، لكنه طرح مفهوما معينا علميا للفراغ، فالفراغ الفيزيائي كما تم طرحه ليس فراغا بمعنى العدم، إذ لا يمكن لعلوم الطبيعة أن تتعامل مع «العدم»!، فعلوم الطبيعة تتعامل فقط مع الأمور التي تتواجد في الزمان والمكان ولها طبيعة مادية، ولا يمكن لها أن تتعامل مع أمور خارجة عن هذه القيود، ولذا فالسؤال ما زال باقيا من أين جاء هذا الفراغ الفيزيائي؟!
ومن هذا المنطلق أيضا فإن علوم الطبيعة تعجز تماما في التعامل مع اللانهائيات، فعندما تصل المعادلة الرياضية إلى اللانهاية تتوقف علوم الطبيعة، وذلك لأنها تتعامل مع أمور مقيدة ومحددة وتعجز عن التعامل مع الأمور التي ليس لها حد ولا نهائية، ولذا فهناك محاولات علمية تسعى للتخلص من هذه اللانهائيات وذلك لكي تستطيع علوم الطبيعة التعامل مع الذرة الكونية. فهل سيكشف لنا ذلك مصدر هذه الذرة الكونية؟
والجواب ربما سيسمح لنا ذلك بمعرفة التفاصيل بصورة أدق ولكن علوم الطبيعة لن تصل إلى مصدر تلك الذرة الكونية، لأن المصدر إذا كان ماديا فسيبقى السؤال قائما وأما إذا لم يكن ماديا فكيف لعلوم الطبيعة الكشف عنه!
ومن الأمثلة الأخرى والتي يمكن استخدامها لتوضيح دور علوم الطبيعة في تسليط الضوء على بعض المواضيع والتي لا تعد من علوم الطبيعة، ولكن يمكن الاستفادة مما توصلت إليه هذه العلوم هو مسألة الشرور في العالم.
فمن التحديات التي واجهت البشرية هو وجود الشر في العالم، فالحضارات البشرية التي آمنت بوجود خالق لهذا الكون يجمع كل صفات الخير واجهت تحديا كبيرا في محاولة فهمها للشرور المنتشر في العالم، فكيف يمكن لإله محض خير أن ينشر الشرور في العالم، ومن هنا ذهبت بعض الديانات إلى ضرورة وجود إله آخر يقوم بنشر الشر في العالم.
هذه الفكرة أو المعتقد القائم على وجود الهين في الكون، يمكن للعلم أن يثير في وجهها أسئلة عميقة، فعلوم الطبيعة من خلال بحثها في الكون المرأى بكامله لم تعثر على نوعين من القوانين بل هي قوانين واحدة تنظم الكون كله، وعند تطبيق هذا القانون فإن الظاهرة الناتجة منها واحدة، وأن وصف الظاهرة بأنها خير أو شر إنما بسبب أثرها على الإنسان، فكل حدث يحدث في الكون تكون له آثار إيجابية ومن ناحية أخرى قد تكون سلبية على المدى المنظور على الإنسان، ولهذا لا يمكن أن نحكم على أي حدث يحدث في هذا الكون بأنه شر مطلق، بل لابد أن نضع إطارا محددا نرجع له في التقييم، عندها يظهر الخير والشر، ولذا فلا يوجد شر مطلق في الطبيعة، بل أن علوم الطبيعة استطاعت أن تثبت أن القوانين الطبيعية لم تتغير منذ أن وجد الكون وأنها واحدة ومتناسقة مع بعضها، وبالتالي فإن علوم الطبيعة أثارت تساؤلات عميقة في فكرة فلسفية لا علاقة لها مباشرة بعلوم الطبيعة لكنها حتما تشكل أحد المواضيع المهمة التي تشكل إطارا عاما لرؤية الإنسان الكونية.
إن تحديد نطاق علوم الطبيعة وتوضيح ما يمكن أن تقدمه والأسئلة التي يمكن أن تجيب عليها أو تساعد في توضيح الإجابة عليها أمر في غاية الأهمية، وسيحل الكثير من التحديات التي قد تواجه البعض في محاولته لتكوين رؤيته الكونية.
أ. د. حيدر أحمد اللواتي كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: المعرفة العلمیة التی یمکن هذا الکون فی العالم لا یمکن أن هذه من هذه فی هذا من أین
إقرأ أيضاً:
أستاذ علوم سياسية: إقالة جالانت كان معدا لها مسبقا
قال الدكتور جهاد الحرازين، أستاذ العلوم السياسية، إن هناك بعض الإجراءات التي كان معدا لها مسبقا من رئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، تجاه ضرورة إقالة وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف جالانت.
وأضاف «الحرازين» خلال مداخلة هاتفية عبر قناة «إكسترا نيوز»، أن جالانت كان له رؤية متعلقة بعملية وصفقة تبادل الأسرى، إلى جانب أنه في أكثر المناسبات كان يدعي أنه صاحب الفضل في العمليات العسكرية التي تنفذها إسرائيل في قطاع غزة ولبنان.
وتابع: «نتنياهو يرغب في أن يكون هو الشخص الوحيد في هذا السياق، لأنه يريد أن يكون كل ما في الحكومة تابعين له، وهي الرغبة التي تدفعه للعمل، إذ أنه منذ فترة لم تكن طويلة كان يريد إقالة جالانت، ولكن لم يتمكن، وفي هذه الفترة استغل نتنياهو الأمور التي تجري في الإدارة الأمريكية، وانشغالها بالانتخابات، وعدم قدرتها على التدخل في هذا الأمر، كون أنه الأمر دفعه إلى استغلال الفرصة وإقالة جالانت».