نادي علماء اليمين: شاءت الصيرورة، وما شاءت فعلت
تاريخ النشر: 22nd, May 2024 GMT
بمجرد أن رأيت صورة ريتشارد دوكينز Richard Dawkins تملأ التايم-لاين خمنتُ مباشرة، ودون أي شك، أنه كان محط هجوم لا إشادة. ليست هذه أول مرة يخذلنا فيها كُتاب ومثقفون. أعني الذين يعتنقون مبادئ المذهب الطبيعي (المزيد عن هذا لاحقا) - أو جزءًا منها على الأقل، ويؤمنون بقدرة «العلم» على تفسير أي ظاهرة بشرية، والذين تصل بهم الثقة في أفكارهم إلى أن يُبشروا بها في كل مناسبة (أو دون مناسبة)، وعلى نحو يقيني.
لمن لم يتابع مقابلة ريتشارد دوكينز: قال الرجل إنه مذعور (ليس مفاجئا فحسب) من الترويج لرمضان في دولة ذات ثقافة مسيحية (يقصد بريطانيا)، وهو وإن لم يكن مؤمنا، لكن ثقافته مسيحية، وهو يشعر بالارتياح لروح الجماعة المسيحية، ويُروعه أن تُستبدل هذه الثقافة بثقافة أخرى. الأمر الذي شجع محاورته للسؤال العنصري حول ما إذا كان يجد أي إشكالية في زيادة تعمير المساجد في أوربا، بينما تتناقص أعداد المصلين المسيحيين في الكنائس. وهو ما أجاب عنه -بعد أن اختار كلماته بدقة- أن نعم، فالمسيحية -تبدو له- مقبولة على عكس الإسلام، الذي هو غير لائق في صميمه. فالعقيدة الإسلامية -يُبرر دوكينز- عدائية تجاه النساء، والمثليين.
يُقال هذا الكلام من قِبل «نبي الإلحاد»، وفي مرحلة من التاريخ تُستثمر فيها الاختلافات الثقافية والدينية لنزع الإنسانية عن الشعوب. وتُسيس على نحو يُصبح فيه شن الحروب، والإبادات الجماعية أمورا مُبررة.
العلاقة بين الاتجاهات العلمية والسياسية
تزامن هذا اللقاء على نحو مثالي مع قراءتي لحوارات نعوم تشومسكي مع جون بريكمون، التي جمعتها دار التنوير -وترجمها عبدالرحيم حزل- في كتاب «العقل ضد السلطة: رهان باسكال». تطرق المتحاوران إلى نقطة محورية في نقاشنا هذا. وهي العلاقة بين تبني مواقف علمية حول الطبيعة البشرية -من جهة، والمواقف السياسية- من جهة أخرى، ودلالة ذلك كله.
حسنا، دعوني أحاول شرح القصة من البداية. حسب الخبراء، ثمة مقاربتان للكيفية التي ينمو ويتعلم بها الإنسان (لنفكر باللغة مثلا - من هنا نفهم اهتمام تشومسكي بالموضوع). الأولى، التي يُطلق عليها الطبع (أو الأصلانية، أو الفطرانية حسب ترجمة حزل)، التي تعني أن ثمة استعداد فطري لتعلم اللغة (أو حتى العدّ والإحصاء، وبالتالي القدرات الرياضية عامة)، وتؤمن بشكل ما أن ثمة ما يُمكن أن يُطلق عليه الطبيعة البشرية، فيما يتعلق بالأخلاقيات، أو بتنظيم البشر لأنفسهم في مجموعات. ثم، ثمة أخرى، تقول بأن البشر يُولدون بعقول أشبه باللوح الفارغ، وأن التجربة (التطبع) هو ما يُكسب البشر ملكاتهم من اللغات، إلى النظم الأخلاقية.
والآن، لنتأمل في العلاقة بين الاتجاهات العلمية والسياسية. يُمكن القول إن من يؤمنون بالفطرانية (الطبع) قد يميلون لليمين المحافظ في قضايا الجنوسة، الحريات، والأقليات. بالتالي، يصبح اليسار مُنكرا للطبيعة البشرية «خارج التاريخ البشري»، ومتبنيا أمينا للتطبع، الذي يعني -بطبيعة الحال- التغيير الاجتماعي المستمر. غير أن تشومسكي نفسه يؤمن أن ثمة استعداد ما (لنا أن نسميه فطرة)، مع ذلك فهو مناصر لقضايا التحرر والمساواة، ومُدافع عن الحقوق، وهو بالطبع آخر من يمكنك أن تتخيله يقول «هذه هي الطبيعة البشرية، وعلينا قبول ذلك». لكن أيضا، يُمكن أن يُنظر إلى اليسار التقدمي باعتباره ناقدا لما هو قائم، وأن يُحاجج أن شيئا مثل اللاسلطوية «مطابق للطبيعة البشرية»، وبهذا تُقلب المواقف. هذا ما يدفع تشومسكي لأن يرى في هذا جدلا عقيما. وأن رِجالا ونساء من الطرفين ممن انتموا إلى اليمين، اعتنقوا أفكارا علمية متضادة، أو العكس.
يبقى أن هذه الفكرة مهمة لأنها تُنبهنا إلى إمكانية الربط. وعليه دعونا نسأل: إذا ما سلمنا بأن اليمين يُمكن أن يعتنق أيا من المقاربتين، فما هي السمات أو الدلائل التي نعرف بها علماء اليمين، كيف لنا أن نستشف من خلال أفكارهم العلمية موقفهم السياسي؟
لنستكشف السمات
إذا كان لي أن أخمن، فهذه هي الأفكار الأساسية، والتي كتبت عنها باقتضاب في سياق العلم الزائف لـ یووال نوا هراري Yuval Noah Harari.
أولا، تبني المذهب الطبيعي في الفلسفة Naturalism الذي يؤكد أن هيكل وسلوك الكون وكائناته محكوم حصرًا بالقوانين والقوى الطبيعية. ولا يعترف المذهب بأي قوى أخرى عاملة في العالم. لكن النزعة الطبيعانية في العلوم مشكلة؛ لأنها تُعطي للعلم حِملا ليس أهلا له، ودورا لا يُمكنه -بحكم التعريف حتى- أن يلعبه. فهل يُساعدنا هذا المذهب في أن نقترب من فهم الحاجات الروحانية، الموسيقى، والرغبة؟ على العكس. ما يفعله هو التسفيه بهذه الظواهر. لا تُقربنا هذه النزعة من الفهم، إلا بقدر ما يقربنا قياس دقات القلب من فهم الحب.
دوكنز يميل إلى هذا المذهب، وهذا ليس اتهاما فهو يقول إنه «لا يوجد في أدمغتنا ما يُعارض القواعد الفيزيائية. نظريا، ليس ثمة ما لا يُمكن إعادة بنائه عبر التكنولوجيا. ونحن وإن لم نصل لهذا بعد، وقد نكون بعيدين عن تحقيقه، لا أرى ما يمنعنا من التوصل إليه في المستقبل».
التأمل في هذا الاقتباس يكشف الاتجاهات الإشكالية التي تقف خلف مقولة كهذه حتى بالمعنى الإبستمولوجي (المعرفي). يُمكنك أن تنظر إلى الظاهرة (س) وتنطلق مما تعرف إلى ما لا تعرف، أو -وهذا هو الخيار المحترم- أن تكون وفيا لما لا تعرف، وتعترف بأن الخرائط التي في يدك لا تُطابق، بل أنها لا تُلائم ما تدرسه. وأن أقصى من سنتوصل إليه عبر عملية الإسقاط الإكراهية هو معرفة مشوهة، سيئات التصديق بها تفوق حسناته. وعليه فثمة أمامك موقفين، إما أن تقول:
(أ) بناء على المعرفة المتوفرة لنا عن الدماغ وعن الحواسيب، يُمكن القول إن الأدمغة من حيث الجوهر شبيهة بوظيفة وآليات عمل الحواسيب، وما دمنا قادرين على صناعة الحواسيب، فلا شك في أننا سنتمكن من بناء دماغ من المادة الأولية للكمبيوتر (السيليكون).
(ب) بناء على المعرفة المتوفرة لنا عن الدماغ وعن الحواسيب، يُمكن القول إننا بعيدون كل البعد عن فهم الدماغ، وقد لا يكون إعادة إنتاجه ممكنا. استعارة «الأدمغة حواسيب» وإن كانت ضيقة ومحدودة، فيُمكن أن تضيء شيئا في تفكيرنا حول الدماغ، وهذا أقصى ما يُمكن قوله.
العلماء الذين يؤمنون بالمقولة الأولى، غالبا ما ينتمون لفئة العلماء الشعبويين، والتي لا يعول إليها.
ثانيا، الشكوكية المزيفة. تُعرف لغة العلم بأنها أبعد ما تكون عن القطعية. أنت تقول مثلا: الدليل (س)، يُعاضد المقولة (ص)، ويؤكد احتمالية صدقها. يُمكن لأي حمار أن يقفز لأسخف الاستنتاجات ويقدمه في قالب شكوكي يوحي بالنزاهة العلمية، فيما يخرق -فعليا- مبادئها.
ثالثا، السلطوية: فكرة أن منتجات التكنولوجيا ستُهيمن على شتى شؤون حياتنا، وقد يكون بيدها الحكم في النهاية. بينما يقع على المستخدم مسؤولية الانفتاح، التكيف، والتسليم بالواقع الجديد وإن لم يفهمه تماما. لا يكتفي هذا الخطاب بالتأكيد على أهمية قبول المحتوم، بل يُصرّ -كما يُجادل دوكنز- أن عالما تحكمه الآلات، سيكون على الأغلب أفضل، وأكثر عدالة من عالم اليوم. مع تأكيدها في الوقت نفسه، على الواقع الديستوبي الذي سنؤول إليه بمجرد أن تتجاوز كائنات السيليكون ذكاءنا، وتفطن إلى طريقة تُمكنها من التكاثر.
رابعا، الحتمية: قضية أن الآلة ستحكم بل وتتفوق على البشر ليست قضية احتمالية بل هي مسألة وقت. ومتى ما أصبحت البيانات مفتوحة، والقوى الحاسوبية قادرة على معالجة تلك البيانات فإنها ستكون قادرة على التنبؤ بكل شيء، والتحكم في شؤون حياتنا.
خامسا، التعقيد وعدم إمكانية التفسير: إن أنظمة الذكاء الاصطناعي المعتمدة على تعلم الآلة أعقد مما يمكن شرحها، وبالتالي من غير الممكن المجادلة بشأن صحة قراراتها.
سادسا، العداء مع المشاعر. لا ينظر المنتمون إلى هذا النادي إلى العاطفة إلا باعتبارها عيبا بشريا، ويؤكدون في كل محاججاتهم على اختيارهم المنطق على العاطفة. يعني هذا ضمنيا، أن من يعارضهم لا بد إما خاضع لعاطفته، أو لنوع من الإيمان الذي لا أساس له. وبالعموم، يقدم أعضاء هذا النادي مواضيعهم باعتبارها حقائق باردة، لا قدرة لمعظم الناس على قبولها.
سابعا، النظر إلى التطور (evolution) على أنه تقدم (progression)، يؤكد على هذا عدم ممانعتهم بانقراض البشرية، وانتهاء الحضارة، إذا ما أثبتت الآلات أنها ستحكم العالم على نحو أفضل. النسخة الأكثر تطرفا من هذه السمة -دوكينز ليس واحدا منهم- تكمن في الدعوة لأن تأخذ الطبيعة مجراها، دون تدخل الثقافة لنصل في النهاية للنسخة الأفضل منّا.
في النهاية، أشعر أنني لا بد أن أجيب على سؤال مهم: لماذا أُصر على نشر مقال كهذا (والذي يتقاطع فيه العلم مع الفلسفة) في ملحق علمي، وقد كان بالإمكان نشره في ملحق أو منصة ثقافية؟ الحكمة من نشره هنا هو التأكيد أن مثل هذه النقاشات تنتمي للفضاء العلمي، وأن تقاطعية المساقات طريقتنا لتهذيب العلم، والتعامل مع الجوانب الأخلاقية والسلبية للتكنولوجيا.
نوف السعيدي كاتبة وباحثة عمانية في مجال فلسفة العلوم
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ی مکن أن على نحو على أن
إقرأ أيضاً:
قضية بوب فيلان وفرقة نيكاب تظهر نفاق اليمين بشأن حرية التعبير
أوردت كاتبة العمود البريطانية هندية الأصل ياسمين علي بهاي براون أن إسرائيل وأنصارها مذهولون ويشعرون بالإهانة من موجة الاستنكار الشديد التي اجتاحت البلاد، مع أن إسرائيل لم تستهدَف وحدها بالإدانة، بل دان الموسيقيون والمتحدثون دولا أخرى.
وأوضحت بهاي في موقع آي بيبر (I paper) التابع لمجموعة ديلي ميل الصحفية البريطانية أن أحد ثنائي فرقة الراب (بوب فيلان) هتف خلال حفلهم في غلاستونبري، "فلسطين حرة" و"الموت لجيش الدفاع الإسرائيلي"، وانضم الكثير من الحضور إلى هتافه، مشيرة إلى أنه من الخطأ الواضح اتهام هذا الرجل بالرغبة في قتل دولة إسرائيل أو بمعاداة السامية.
وذكّرت الكاتبة بأن السفارة الإسرائيلية في المملكة المتحدة قالت إنها "تشعر بقلق بالغ بسبب الخطاب التحريضي والبغيض"، ودعت المنظمين والفنانين والقادة العامين إلى "إدانة ورفض جميع أشكال الكراهية".
ومن جهتها، دعت الكاتبة، هي الأخرى، السفارة الإسرائيلية الآن إلى إدانة الخطاب التحريضي والبغيض الصادر عن دولتهم وسفارتهم، مثل قول سفيرتهم تسيبي هوتوفلي في سبتمبر/أيلول الماضي إن "كل مدرسة وكل مسجد وكل منزل في غزة لديه منفذ إلى نفق، وبالطبع ذخائر"، في تبرير واضح لتدميرها.
وسارع رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر إلى إدانة بوب فيلان، وفي المقابل تطالب صحيفة ديلي تلغراف بمعاقبة مغنية الراب لوسي كونولي، التي حرضت على العنف ضد طالبي اللجوء والمهاجرين خلال أعمال الشغب العام الماضي.
وتساءلت الكاتبة: هل أصبح الجنود الإسرائيليون في خطر حقيقي بعد غلاستونبري؟ مؤكدة أنها لا تستطيع الجزم بذلك، إلا أن المهرجانات الموسيقية تعد أهدافا سهلة بالنسبة لليمين، لأن حشودها في الغالب من دعاة حماية البيئة والمساواة، ومناهضي المؤسسات والشواذ جنسيا.
ومع أن بعض اليمينيين يدافعون بجنون عن حرية التعبير -كما تقول الكاتبة- فإنهم لا يدينون إلا "حركة الوعي" واليسار، أما إذا تحدثت حركة الوعي واليسار، بحرية وواجهوا اليمين، فإن أتباعه ينعتونهم بالعدوان "غير الوطني" في الداخل.
إعلانوأشارت الكاتبة إلى أن الشرطة تفحص الآن تسجيل فرقة بوب فيلان، وذكَرت بأنها احتجت على حرب فيتنام، وقاومت التاتشرية وعنف الشرطة والعنصرية، وتظاهرت مع رفاقها وتجمعوا وهتفوا، وأنشدوا أغاني التحدي، وكانت الشرطة قاسية، وصرخت ضدهم الصحف المحافظة، ولكنهم واصلوا، لأن أي سلطة لم تتمكن قط من منع الشباب من قول ما يفكرون فيه والتعبير عن مشاعرهم.
وختمت الكاتبة بأنه لا يمكن فصل السياسة عن الثقافة، وذكّرت بدعوة المؤتمر الوطني الأفريقي بقيادة نيلسون مانديلا للمقاطعة الثقافية في جنوب أفريقيا، وقالت إن ستيفي وندر أصدر أغنية "إنه خطأ (الفصل العنصري)"، واعتُقل خلال احتجاج مناهض للفصل العنصري في الولايات المتحدة.