الخيال الاجتماعي هو مفهوم في علم الاجتماع يساعد على ربط التجارب الشخصية بالقوى الاجتماعية الأوسع، إنها القدرة على التفكير بشكل منهجي في القضايا الاجتماعية التي يشترك فيها جميع الناس في المجتمع، الجوع والفقر والسُمنة كلها أمثلة على القضايا الاجتماعية المشتركة الموجودة داخل المجتمع، يمكن للشخص الذي يمتلك خيالًا اجتماعيًا أن يفهم المشهد التاريخي الأكبر من حيث معناه للحياة الداخلية، لأن الخيال الاجتماعي يسمح للمرء بفهم كيف تتشكّل التجارب والخيارات الشخصية من خلال قوى اجتماعية أكبر مكيفة تاريخياً،
يساعدنا الخيال الاجتماعي في إقامة روابط مع السياق الاجتماعي الأكبر من أجل دراسة القضايا الاجتماعية، بدلاً من النظر إلى المجتمع كأفراد معزولين، ومن أجل تجنب التجارب الشخصية أو التحيُّز أو المنطق السليم، فإننا ننظر إلى كل قضية على أنها مشروطة تاريخيًا وسياقيًا، يسمح لنا الخيال السوسيولوجي بإصدار تعميمات بناءً على الاتجاهات والأبحاث التاريخية، بدلاً من الاعتماد على الصور النمطية، بشكل عام ظهر علم الاجتماع إلى العالم في أوائل القرن التاسع عشر،فعلم الاجتماع هو دراسة العلاقات والمؤسسات الاجتماعية الإنسانية لكنه يظل موضوعاً متنوعاً، بداية من الجريمة إلى الإيمان، ومن الأسرة إلى الدولة، ومن انقسامات العرق والناس إلى المعتقدات المشتركة للثقافة المشتركة، ومن الاستقرار الاجتماعي إلى التعديل الجذري في المجتمعات بأكملها، ولعلم الاجتماع أغراض متعددة، لكن الهدف الرئيسي منها هو أنه يساعدنا على تحديد العوامل الاجتماعية التي تؤثر على حياتنا اليومية، علي سبيل المثال السمنة هي المعضلة الكبرى التي لا تزال قائمة حيث تؤدي إلى آثار مدمِّرة على الجسم مثل ارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب والسكري ،وعند رؤية السُمنة من منظور خيال غير اجتماعي، قد يعتقد المرء أن زيادة الوزن هي نتيجة لاختيارات شخصية سيئة أو استعداد وراثي أو عادات طعام سيئة، بالنسبة لمن يمتلك خيالًا اجتماعيًا ،فهذه مسألة معقّدة تنتج عن الأنماط التاريخية للحياة الاجتماعية والاقتصادية، فهناك تفاعل بين الحياة الشخصية والقوى الاجتماعية التي تؤدي إلى القرارات الشخصية، قد يتغير النهج الذي يتبعه المرء في شرح الخيال الاجتماعي اعتمادًا على ما إذا كانت تجاربهم تأتي من فروع مختلفة من علم الاجتماع، حيث هناك أربعة فروع لعلم الاجتماع وهي الديموغرافيا، والسلوك التنظيمي، والتاريخ الاجتماعي وعلم النفس الاجتماعي، فالمؤرخ الاجتماعي هو الشخص الذي يدرس الاتجاهات الاجتماعية عبر الزمن ، ومثالاً قد تظهر أسباب السُمنة ضمن اتجاهات نمط حياة الشخص مثل عادات الأكل والنشاط البدني، ولكن من منظور آخر الاتجاهات في تغييرات نمط الحياة حدثت بسبب نمو التكنولوجيا، حيث أدي النمو السريع في التكنولوجيا مع مرور الوقت إلى تغيير أنماط حياتنا بشكل جذري، بداية من جمع الطعام والبحث عنه وحتى توصيله إلى عتبة الباب، حيث أصبح الوصول إلى الأطعمة السريعة أكثر سهولة بسبب نمو التكنولوجيا، وهي وجبات عالية السعرات الحرارية والدهون تعمل على إشباع رغبة الفرد في مكان العمل
أو المنزل، وجعلت غير الصحية أكثر سهولة في الوصول إليها.
NevenAbbass@
المصدر: صحيفة البلاد
إقرأ أيضاً:
الهُلامية المفاهيمية ودورها في إفشال الانتقال الديمقراطي بتونس
تصدير: "سَيّب سَيّب أحمد صواب، شلّكتوه الإرهاب" (أطلقوا سراح أحمد صواب، لقد رذّلتم مفهوم الإرهاب).. أحد شعارات التحرك المطالب بإطلاق سراح القاضي السابق والمحامي اليساري أحمد صوابلعل من أهم سمات "عشرية الانتقال الديمقراطي" أو "العشرية السوداء"، كما يحلو لأنصار الرئيس التونسي وحزامه السياسي تسميتها، هو أنها قد أكدت قيمة "القوة النوعية" لليسار -بشقيه الماركسي والقومي- في مقابل "القوّة الكمية" أو العمق الشعبي المرتبط بأهم فاعلَين سياسيَّين بعد الثورة: حركة النهضة، وورثة الحزب الحاكم المنحلّ، خاصة نداء تونس وشقوقه ومن بعدهم الحزب الدستوري الحر.
ورغم وجود عدة قيادات من أصول يسارية في أغلب الأحزاب "التجمعية الجديدة"، فإنها لم تستطع فرض وجودها السياسي إلا بتوظيف السردية البورقيبية لتحشيد الناخبين. أما أولئك اليساريون الذين تحركوا بتوظيف السردية الماركسية "المعدّلة" أو "المُتونسة" (أي المتخفّفة من مفاهيمها الصلبة كالصراع/ الحقد الطبقي والمادية الجدلية والمعاداة الصريحة للدين بما هو أفيون للشعوب والحزب الطليعي والعنف الثوري.. الخ)، فإنهم قد تقاطعوا موضوعيا مع البورقيبية باعتبارها "خطابا كبيرا" أو خطابا مرجعيا لكل الفاعلين -بمن فيهم الإسلاميون- لأنه يُجسّد المشترك الوطني غير القابل للنقد أو المساءلة أو التجاوز ولو من منظور "ثوري".
سواء اعتبرنا اليسار ابنا شرعيا أو طبيعيا لبورقيبة، فإننا لن نجانب الصواب إذا ما قلنا إنّ العودة إلى "البورقيبية" بـ"منطق استمرارية الدولة" لم يكن لينجح لولا تقاطع مصالح اليساريين وورثة المنظومة القديمة في عدم بناء سردية جديدة تصاحب "الثورة" وتستدمج الإسلاميين بالضرورة. ولذلك مثّلت البورقيبية مدخلا ملَكيا لتحقيق جملة من الاستراتيجيات
سواء اعتبرنا اليسار ابنا شرعيا أو طبيعيا لبورقيبة، فإننا لن نجانب الصواب إذا ما قلنا إنّ العودة إلى "البورقيبية" بـ"منطق استمرارية الدولة" لم يكن لينجح لولا تقاطع مصالح اليساريين وورثة المنظومة القديمة في عدم بناء سردية جديدة تصاحب "الثورة" وتستدمج الإسلاميين بالضرورة. ولذلك مثّلت البورقيبية مدخلا ملَكيا لتحقيق جملة من الاستراتيجيات: أولا، تذويب الخلافات التاريخية والأيديولوجية بين مكونات ما يسمى بـ"العائلة الديمقراطية"؛ ثانيا، شرعنة التطبيع مع ورثة المنظومة القديمة باعتبارهم جزءا من تلك العائلة؛ ثالثا، بناء هوية ميتا-أيديولوجية لمواجهة الوافد الجديد على الساحة السياسية القانونية، أي حركة النهضة وما تتمتع به من شرعية مرتبطة بـ"المظلومية" وما تبشر به من تمثيل للمهمّشين جهويا والمقموعين أيديولوجيا من المحافظين والمتدينين؛ رابعا، منع أي مراجعة جماعية أو إعادة تفاوض حول الأساطير المؤسسة للدولة-الأمة و لما يسمى بـ"النمط المجتمعي التونسي"؛ خامسا، جعل البورقيبية -أي أيديولوجيا منظومة الاستعمار الداخلي- مرجعا أعلى لما تشترطه "القوى الحداثية" على حركة النهضة في مطلب "تَونَسة الحركة".
لا شك عندنا في أنه لولا اليسار -بمختلف مكوناته ومجالات فعله- لما استطاعت المنظومة القديمة أن تفرض "البورقيبية" وما يرتبط بها من خيارات كبرى داخليا وخارجيا، أي لما استطاعت النواة الصلبة لتلك المنظومة أن تكون هي المتحكم الحقيقي في مسار الانتقال الديمقراطي ومخرجاته ومآلاته. ولكنّ ذلك لا يعفي حركة النهضة وحلفاءها "العضويين" من المسؤولية السياسية والأخلاقية عن فشل الانتقال الديمقراطي. فالنهضة قد اختارت التطبيع مع المنظومة القديمة بشروط تلك المنظومة، وعجزت عن فرض منطق مختلف لعلاقتها بالدولة العميقة ورعاتها الأجانب. ولذلك لم يكن لتحوّل النهضة من منطق البديل إلى منطق الشريك أي أثر في تعديل سياسات الدولة ولا في خلخلة منظومة الاستعمار الداخلي.
وبصرف النظر عمّا يؤسس الخيار الاستراتيجي لحركة النهضة في الخروج من منطق مواجهة الدولة إلى منطق التطبيع مع نواتها الصلبة، فإن الوقائع قد أثبتت فشل هذا الخيار. وقد يكون من السهل أن نرد هذا الفشل إلى استراتيجيتي الاستئصال الناعم (بقيادة حركة نداء تونس نفسها قبل مرحلة التوافق وخلالها) والاستئصال الصلب (بقيادة مكونات المجتمع المدني، خاصة اتحاد الشغل والنقابات الأمنية)، ولكننا نؤمن أن هذا المنهج التحليلي مجانب للحقيقة لأنه يُبرّر ولا يفسّر إلا قليل، فمنتهى هذا المنهج هو تبييض خيارات حركة النهضة -خاصة تلك الخيارات التي تحركت ضد انتظارات ناخبيها والمتعاطفين معها قبل عموم التونسيين- وجعلها خيارات حتمية تنفي أي مسؤولية سياسية وأخلاقية مرتبطة بهامش الحرية مهما كان محدودا.
إلى جانب النزعة "التبريرية" التي تلازم وعي الكثير من النهضويين -أي القدرة على الدفاع عن الخيار وضده باعتبارهما تجسيدا لحكمة "خفية" واحدة- فإن أغلب النهضويين لا يفكرون إلا كما يفكّر أغلب اليساريين، لكن بصورة معكوسة. فإذا كان اليساريون يديرون صراعهم ضد الإسلاميين باعتبارهم يُجسدون "التناقض الرئيس" ويبررون تحالفهم مع ورثة المنظومة القديمة باعتبارهم يُجسّدون "التناقض الثانوي"، فإن النهضويين يعتبرون أن اليسار هو نقيضهم الرئيس، أما "الدساترة" أو "البورقيبيون" (أي التجمعيون السابقون) فإنهم يجسدون تناقضا ثانويا داخل العائلة "الثعالبية" أو الدستورية الأصلية (نسبةً إلى عبد العزيز الثعالبي مؤسس الحزب الحر الدستوري التونسي).
وفي الظاهر فإن للمنطق النهضوي ما يؤسسه تاريخيا، خاصة اذا ما استحضرنا توظيف المخلوع ونظامه الجهوي-الريعي التابع للعديد من اليساريين في شرعنة "محرقة الإسلاميين" خلال تسعينات القرن الماضي، سواء داخل الحزب الحاكم أو في المجتمع المدني أو في الإعلام أو في المؤسسة الأمنية، وقد جاءت الثورة لترسّخ هذه "الذاكرة الجريحة" بحكم إصرار أغلب مكوّنات اليسار الوظيفي على استصحاب منطق المخلوع ونظامه في التعامل مع الإسلاميين، خاصة بتوظيف مفهوم "الإرهاب" وتهديد النمط المجتمعي التونسي ومكاسبه الحقيقية والمتخيلة، خاصة حقوق المرأة والأقليات.
لترسيخ "غيرية" الإسلاميين وغرابتهم المطلقة عن المجتمع التونسي، كان على اليسار أن يعتمد سردية المخلوع ونظامه، أي سردية ربط الإسلاميين جوهريا بالإرهاب أو على الأقل بالعنف النسقي ضد الدولة ومؤسساتها، بل ضد النخب الحداثية و"التنويرية" كلها. وهي استراتيجية ذات أثرين متعاضدَين: ترسيخ التناقض الجذري مع الإسلاميين بمن فيهم أولئك الذين ارتضوا العمل القانوني تحت ظل الدستور وقانون الأحزاب، والعمل على منع ولوجهم إلى أجهزة الدولة أو حتى التمتع بـ"جبر الضرر" الناتج عن سياسات القمع والاستهداف المُمنهج قبل الثورة. وهو أمر يحتاج إلى سرديتين فرعيتين؛ هما سردية "مقاومة التمكين"( أي اعتبار خيار النهضة التصالح مع الدولة خيارا تكتيكيا يُخفي خيارا استراتيجيا هو "التمكين" أو "أسلمة الدولة" و"أخونتها")، وسردية "ترذيل النضال الإسلامي" باعتباره نضالا غير شعبي، مع الحرص على تصوير مطالب المشمولين بـ"العدالة الانتقالية" أو "العفو التشريعي" وكأنهم "انتهازيين" يبحثون عن "أجر" أو عن مقابل لـ"نضالهم" من أموال دافعي الضرائب، وهو تدليس وافتراء كان له أثر كبير في تشكيل التقبل الشعبي لملف العدالة الانتقالية، بل كان له أثر بالغ في ضرب مفهوم "المظلومية" وتكريس مفهومي "الفساد" و"الانتهازية" باعتبارهما صفتين جوهريتين ملازمتين للنهضوي أساسا.
لقد اخترنا أن نصدّر هذا المقال بشعار يساري لأنه يعكس تناقضات الوعي اليساري والمآلات الكارثية لهُلامية المفاهيم وتوظيفاتها الاعتباطية. فالشعار ينطلق من مسلّمة مغالطية هي أن النظام الحالي قد "رذّل" مفهوم الإرهاب عندما وظفه ضد ناشط "يساري". فالإرهاب في هذا المنطق لا يمكن أن يرتبط إلا "بالإسلاميين" أو بالذين "طبّعوا" معهم واعترفوا بحقهم في الوجود بصورة مبدئية. وينسى من يرفع هذا الشعار أن "ترذيل" مفهوم الإرهاب لم يبدأ مع التصويت على قانون الإرهاب دون وجود تعريف واضح وغير قابل للتلاعب السلطوي به، كما ينسون أن اليسار كان أول من رذّل هذا المفهوم عندما تبنى سردية المنظومة القديمة فيما يخص حركة النهضة، وعندما وضع نفسه خصما وحكما في ملف الاغتيالات السياسية، بل عندما همّش مفهوم "إرهاب الدولة" الذي مارسته المنظومة القديمة -في لحظتيها الدستورية والتجمعية- ضد ضحاياها من الإسلاميين وغيرهم من القوميين واليساريين.
اليسار كان أكبر داعم لمنظومة الحكم الحالية منذ الإعلان عن إجراءات 25 تموز/ يوليو 2021. وهو دعم لم يتأسس على إيمان بمشروع الرئيس وبالديمقراطية القاعدية التي تُنهي الحاجة إلى الأحزاب، بقدر ما تأسس على الكفر بأي ديمقراطية تمثيلية تضع الإسلاميين في مركز الحقل السياسي
ولعلّ أهم ما يتناساه من يرفع ذلك الشعار هو أن اليسار كان أكبر داعم لمنظومة الحكم الحالية منذ الإعلان عن إجراءات 25 تموز/ يوليو 2021. وهو دعم لم يتأسس على إيمان بمشروع الرئيس وبالديمقراطية القاعدية التي تُنهي الحاجة إلى الأحزاب، بقدر ما تأسس على الكفر بأي ديمقراطية تمثيلية تضع الإسلاميين في مركز الحقل السياسي.
رغم أن النهضويين لا يُصرّحون باعتماد منطق التناقض الرئيس والتناقض الثانوي، فإن "أسلمة" هذا المنطق لم تنفع إلا النواة الصلبة لمنظومة الاستعمار الداخلي. فعوض البحث عن "مصالحة تاريخية" مع اليسار ومع الانتظارات الاقتصادية والاجتماعية والقيمية المشروعة لعموم الشعب، عمدت حركة النهضة إلى مصالحة "براغماتية" وغير مؤسسة نظريا مع ورثة المنظومة القديمة (خلال مرحلة التوافق)، ومع بعض الأحزاب الطارئة على المشهد السياسي مثل حزب المؤتمر وحزب التكتل(خلال حكم "الترويكا"). وهو ما جعلها تتحول إلى "وتد" من أوتاد المنظومة، ولا تختلف في شيء عن "الوطد" الذي كرّس نفسه قبل الثورة وبعدها لخدمة منظومة الاستعمار الداخلي في مختلف القطاعات التي يهيمن عليها. أما أغلب القوى اليسارية المرتدة عن مفهوم "الصراع الطبقي" وعن أغلب المفاهيم الصلبة في الماركسية، فإنها هي الأخرى لم تتجاوز منطق "المناولة" أو "النقل لحساب الغير" في صراعها ضد النهضة.
إننا أمام سرديتين تحرفان الصراع عن مداره الحقيقي (أي الصراع ضد منظومة الاستعمار الداخلي) إلى مدارات هوياتية تجعلهما معا مجرد أداتين في خدمة تلك المنظومة ونواتها الصلبة. وهو واقع لا يبدو أن هناك ما يُبشر بتجاوزه نحو بناء "كتلة تاريخية" توحّد بين ضحايا منظومة الاستعمار الداخلي، وتتجاوز هلامية المفاهيم التي أفشلت الانتقال الديمقراطي (مثل مفهوم استمرارية الدولة، مفهوم الإرهاب، مفهوم المشترك الوطني، مفهوم التوافق، مفهوم العدالة الانتقالية، مفهوم "العائلة الديمقراطية"، مفهوم الدولة-الأمة.. الخ). ولذلك فإن "الكتلة التاريخية" هي الآن-وهنا ضربٌ من اليوتوبيا التي لا يمكن أن تتنزل في الواقع وأن تكون محرّكا لمشروع مواطني تحرري جامع؛ إلا بعد نضج شروطها الفكرية والموضوعية الضرورية.
x.com/adel_arabi21