جغرافيا التطبيع.. خواطر أولية.. قاموس المقاومة (27)
تاريخ النشر: 22nd, May 2024 GMT
لم أكن أقصد على أهمية ذلك؛ أن أتحدث عن جغرافيا التطبيع التي اتسعت فتوسعت لتشمل دولا عدة وأنظمة رسمية عديدة، واتفاقات تطبيع رسمت خريطة تطبيعية مقيتة؛ تسمم كيان الأمة وتمرر مسيرة الهزيمة والهوان وتصنيع بيئة مواتية من الخذلان؛ تحاصر الفعل المقاوم وثقافة ونفسية الجهاد التي تسكن مفهوم الأمة والدفاع عن القدس والأقصى واحتضان القضية الفلسطينية في مواجهة استراتيجيات ما يسمى زورا بالتسوية؛ والتي لا تعني في حقيقة أمرها التصفية للقضية تحت عناوين كثيرة آخرها صفقة القرن والتي يشكل التطبيع أهم أذرع تنفيذ هذه الصفقة المشبوهة.
كذلك أتوقف عند اتفاقات تطبيع وُقعت مع إسرائيل بعد قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم (242) عام1967 الشهير، الذي يدعو إلى انسحاب الجيش الإسرائيلي من الأراضي التي احتلها في حرب 67، والذي شكل الأساس الذي بُنيت عليه ما تسمى مبادرات "سلام"، وأهمها:
* اتفاق كامب ديفيد عام 1978 بين مصر وإسرائيل، إذ اتفق مناحيم بيجن وأنور السادات على إطار عمل لتحقيق السلام تنسحب بموجبه إسرائيل على مراحل من شبه جزيرة سيناء المصرية، وإقامة حكومة فلسطينية مؤقتة في الضفة الغربية وقطاع غزة.
* معاهدة السلام الإسرائيلية المصرية عام 1979، وكانت أول معاهدة سلام بين إسرائيل ودولة عربية. وقوبلت المعاهدة برفض وغضب عربي وصل إلى حد مقاطعة مصر ونقل مقر الجامعة العربية إلى تونس.
مسألة التطبيع أخطر من ذلك، وأخطر من أن نرصد حجم واتساع جغرافيا التطبيع، وحتى الوقوف على بعض المجالات التي تسللت إليها عمليات التطبيع المستمرة التي تتراكم ولا تفتر عن اكتساب أرض جديدة لمصلحة الكيان الصهيوني؛ ذلك الكيان الذي اعتمد ثلاث استراتيجيات متكاملة
* معاهدة السلام الإسرائيلية الأردنية عام 1994 في وادي عربة.
* اتفاق أوسلو الذي وقّعته منظمة التحرير الفلسطينية مع إسرائيل عام 1993، بعد محادثات سرية في النرويج أسفرت عن اتفاقات سلام تنص على إقامة حكم ذاتي للفلسطينيين وانتخاب مجلس في الضفة الغربية وقطاع غزة لفترة انتقالية.
* قدمت المملكة العربية السعودية عام 2002 خطة سلام أقرتها جامعة الدول العربية؛ تقضي بانسحاب إسرائيل من جميع الأراضي المحتلة وقبولها بإقامة دولة فلسطينية مقابل إقامة علاقات طبيعية مع الدول العربية.
* أعلن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب يوم 13 آب/ أغسطس 2020 التوصل إلى اتفاق مفاجئ لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والإمارات.
* أعلنت البحرين بتاريخ 11 أيلول/ سبتمبر 2020، في بيان مشترك مع إسرائيل والولايات المتحدة، الاتفاق على تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
* أُعلن بتاريخ في العاشر من كانون الأول/ ديسمبر 2020 اتفاق ثلاثي (مغربي أمريكي إسرائيلي) ينص على استئناف الاتصالات الرسمية الثنائية والعلاقات الديبلوماسية بين المغرب وإسرائيل وتسهيل الرحلات الجوية المباشرة بينهما، و"تطوير علاقات مبتكرة" في المجال الاقتصادي والتكنولوجي. وينص الاتفاق كذلك على العمل على إعادة فتح مكاتب للاتصال في البلدين، كما كان عليه الشأن سابقا ولسنوات عديدة، إلى غاية 2002. وينص الاتفاق الثلاثي على اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية "بسيادة المملكة المغربية الكاملة على منطقة الصحراء المغربية كافة"، كما ورد في بيان للديوان الملكي المغربي آنذاك.
* أعلن يوم 23 تشرين الأول/ أكتوبر 2020 عن اتفاق تطبيع بين السودان وإسرائيل.
* وفي نهاية أيلول/ سبتمبر 2023، أعلن متحدث باسم البيت الأبيض أن هناك مفاوضات ترمي إلى "تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية"، في حين قالت صحيفة الرياض السعودية إن المملكة غير متعجلة لإقامة علاقات مع إسرائيل برعاية أمريكية حتى تحصل على ما تريد. وأكدت الصحيفة أن "التفاوض على إقامة علاقات مع إسرائيل سيمر بمراحل، مع وجود مسار آخر يتمثل في تهيئة الأرضية المناسبة ليكون الاتفاق مبنيا على أسس واضحة، ويعرف كل طرف ما له وما عليه حال إتمامه".
ورغم تصاعد حجم التطبيع واتساع جغرافيته خاصة الرسمية، فإن إسرائيل لا تشعر بالارتياح، إذ صرحت وزارة الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلية، في تشرين الأول/ أكتوبر 2020، بأن 90 في المئة من الخطاب العربي على مواقع التواصل الاجتماعي رافض لاتفاقيات التطبيع. كما تشكلت في عدد من الدول العربية هيئات ومؤسسات وجمعيات مناهضة للتطبيع، وتدعو إلى وقف مسلسله، وتحذر من خطورته على قيم ونسيج المجتمعات العربية والإسلامية.
لكن نتنياهو الذي ترأس حكومات الكيان الصهيوني لا يزال يتباهى ويتبجح بانتصاراته في مجالات ومساحات ونظم شملتها عمليات التطبيع. ومن المهم مع استصحاب خريطة وجغرافيا التطبيع أن نفهم جوهر المسألة التي لا تتعلق المشكلة فيها بالضرورة بشخصيات أو قيادات أو حركات انتهازية بعينها تضحي بالعام من أجل الخاص، على الرغم من أن الأمثلة لا تعد ولا تحصى، بل تتعلق بعقلية انتهازية سياسيا قد تتغير عناوينها وأغلفتها وأسماء مروجيها، لكنّ جوهرها يبقى واحدا: الاستعداد للمساومة على حق الكيان الصهيوني في الوجود، والاستعداد للتعايش مع الصهيونية، إذا تحسنت شروط الصفقة، بل والمساومة على كيان وأفعال وخطاب المقاومة في دحر الاحتلال وخوض معركة التحرير.
إن مسألة التطبيع أخطر من ذلك، وأخطر من أن نرصد حجم واتساع جغرافيا التطبيع، وحتى الوقوف على بعض المجالات التي تسللت إليها عمليات التطبيع المستمرة التي تتراكم ولا تفتر عن اكتساب أرض جديدة لمصلحة الكيان الصهيوني؛ ذلك الكيان الذي اعتمد ثلاث استراتيجيات متكاملة؛ الأولى أن التطبيع مسار استراتيجي في تمكين وجوده بل وقبوله؛ وهو مسار بالنسبة للكيان قليل التكلفة عظيم الفائدة؛ خاصة أنه يخرج عن دائرة الصراعات المستمرة والحروب المتكررة ويكسب منها العدو الصهيوني الكثير؛ ضمن ما لم تأخذه بالحرب تستطيع أن تحصل عليه بمسار التطبيع اللئيم. الثانية تفتح الباب واسعا للكيان الصهيوني بإعلانه المستمر أن قطار التطبيع قد انطلق بأقصى سرعته؛ وأن راكبيه من العرب هرولوا إليه للحاق به، ومن ثم لا يفتأ الكيان عن الإعلان المتكرر عن مسيرات وأشكال تطبيع لا يحتفظ بسريتها طويلا بل يكشف المستور منها ويفضح النظم التي قامت عليه بليل سرا؛ ومن بعد سقوط أقنعة وأغطية صار التطبيع علنيا ضمن أعمال مقاولة وسياسات مساومة. الثالثة تتعلق بفرض الكيان الصهيوني وبدعم أو تصهين دافع للتواطؤ بتمرير حال التصور الصهيوني للسلام في طبعته الإسرائيلية الأمريكية؛ المقترن بصفقات تتوج بصفقة القرن الكبرى.
المقصود الأكبر من تلك الاستراتيجيات التي تتكامل في المخطط الإسرائيلي، "إعادة الهيكلة التامة للوعي العربي، بما يضمن أولا وجودها السياسي في منطقة الشرق الأوسط، وثانيا تأثيرها كعنصر يتحكم بقطاعاته المختلفة، من خلال السيطرة بعناصر القوة التي تمتلكها، وتتمثل في التعليم والتقنية والاقتصاد، وتُمكّنها من خلق حال من الهدوء العام فترة طويلة تصل فيما بعد إلى شكل من التفاهمات على مستوى دولي وإقليمي وعربي" تُفرض فيه طبعة السلام الإسرائيلي- الأمريكي.
إن الأمر الخطير والمغفل عند البعض؛ التعامل مع مسألة التطبيع والوقوف عند مظاهرها والوقوف عند شطآنها من دون الغوص في أعماقها التي قد تحيلنا إلى مسألة مهمة تتعلق بجغرافيا التطبيع؛ والتي تكاد تتطابق مع جغرافيا الاستبداد.
الأمر الخطير والمغفل عند البعض؛ التعامل مع مسألة التطبيع والوقوف عند مظاهرها والوقوف عند شطآنها من دون الغوص في أعماقها التي قد تحيلنا إلى مسألة مهمة تتعلق بجغرافيا التطبيع؛ والتي تكاد تتطابق مع جغرافيا الاستبداد
يقول إلياس خوري في مقاله المهم حول مسألة التطبيع "تطبيع الاستبداد وتتبيع المستبدين"، مستصحبا النص الكواكبي حول كلام الاستبداد عن نفسه وصفات أهل نسبه وحسبه: "لو كان الاستبداد رجلا وأراد أن يحتسب بنسبه لقال: أنا الشر وأبي الظلم وأمي الإساءة وأخي الغدر وأختي المسكنة وعمي الضر وخالي الذل وابنتي الحاجة وعشيرتي الجهالة ووطني الخراب. المسألة تكمن هنا في الاستبداد الذي يسعى لتطبيع العرب، أي تدجينهم وتحويلهم إلى عبيد لمجموعة من المستبدين. قراءة ما يسمى تطبيعا لا علاقة لإسرائيل به إلا بصفتها حامية الاستبداد ومحمية منه. مرحلة التطبيع التي نعيشها من المحيط إلى الخليج، هي تطبيع الشعوب العربية أي فرض الانقياد والطاعة عليها؛ أما شعارات الحداثة والتكنولوجيا والرفاهية الآتية فوق الدبابات الإسرائيلية، فليست أكثر من القناع الأخير الذي أسقطه أصحابه بأيديهم بعدما وجدوا أنفسهم بلا حول ولا لغة. الخديعة التي تجري محاولة تسويقها لن تكون سوى الباب الأخير قبل وضع الأمور في نصابها. لو كان الكواكبي بيننا اليوم (حيا) لرفع أصبع الاتهام في وجه الوحش الإسرائيلي الذي يتغطى بالعباءة العربية".
إن الجغرافيا بمعناها "الجيواستراتيجي" ليست بعيدة عن إعادة الهيكلة الاستراتيجية للمنطقة بأسرها، وعلى رأسها تطبيعات متعددة الأشكال والاتجاهات؛ وهو ما تقرره وتحدثت به الباحثة المتخصصة في الشأن الإسرائيلي "هنيدة غانم"، وهي محررة "تقرير مدار" الاستراتيجي 2022- المشهد الإسرائيلي 2021"، أن مجمل ما جرى من أحداث خلال الفترة الماضية من عام 2022 أثرت على تقرير المركز هذا العام، مؤكدة أن إسرائيل عززت إقليميا من مكانتها في منطقة الإقليم العربي الذي تغيرت الخريطة الجيوسياسية له بشكل كبير بفعل تفكيك كل المخاطر التي كان يفترض أن تشكلها الدول العربية نحو إسرائيل. ووصفت التطبيع بـ"سلام دافئ"، حيث يعتبر التطبيع الذي جرى متجاوزا لمفهوم السلام التقليدي مع النموذجين المصر والأردني، وهو أمر من المتوقع أن يتمدد للمستوى الشعبي.
وفي الآونة الأخيرة وصل التطبيع إلى ما هو أكثر من تحالفات معلنة وغير معلنة؛ وربما هنا يبدو لنا السابع من تشرين الأول/ أكتوبر متمثلا في طوفان الأقصى بأنه كان مواجهة لتيار التطبيع والتحالفات المشبوهة ضمن خطة استراتيجية كبرى تكون فيها جغرافيا المقاومة في تدافع كبير مع جغرافيا التطبيع.. وللحديث بقية.
twitter.com/Saif_abdelfatah
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه التطبيع إسرائيل الاحتلال الاستبداد إسرائيل الاحتلال العالم العربي التطبيع الاستبداد مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الکیان الصهیونی مسألة التطبیع الدول العربیة مع إسرائیل
إقرأ أيضاً:
مسمار في نعش الكيان الصهيوني
حاتم الطائي
◄ القرار التاريخي إدانة دولية غير مسبوقة لمجرمي الحرب الإسرائيليين وداعميهم
◄ 124 دولة مُلزمة بتنفيذ قرار القبض على مجرمي الحرب الإسرائيليين
◄ يقظة الشعوب الحُرّة حول العالم كان لها الفضل الأكبر في استصدار القرار
لم يكن القرارُ التاريخيُّ والشجاعُ من المحكمةِ الجنائيةِ الدوليةِ بإصدار أمر اعتقالٍ بحق رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي المُجرم بنيامين نتنياهو ووزير حربه السفّاح يوآف جالانت، مجرد إدانة غير مسبوقة لمجرمي الحرب الإسرائيليين وحسب؛ بل إدانة عالمية تاريخية للحركة الصهيونية الإجرامية العنصرية، ولكل داعميها من الأمريكيين والأوروبيين، وكل من تواطأ وصَمَتَ عن جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والتجويع، ولكل من خَذَلَ الشعب الفلسطيني ولم يقف بجانبه ولو بكلمة!
صدر القرار بعد أكثر من 414 يومًا من العدوان البربري الدموي ضد شعب فلسطين في قطاع غزة، مع تدمير كامل للبنية التحتية والمنازل فوق رؤوس ساكنيها، واستشهاد أكثر من 44 ألف شهيد وإصابة ما يزيد عن 105 آلاف فلسطيني، كثيرٌ منهم يُعانون من إعاقة دائمة أو بتر في الأطراف أو استئصال لأحد أعضاء الجسد، فضلًا عن عشرات الآلاف من المفقودين تحت الأنقاض، وأمثالهم من الأسرى الذين اُعتقِلوا ظلمًا وعدوانًا على أيدي قوات الاحتلال الإسرائيلية.
صدر القرار رغم المحاولات المُستميتة من الكيان الفاشي الإسرائيلي لإثناء قضاة العدالة عن قرارهم، وإعلان كثير منهم عن تعرضهم لرسائل تهديد بالقتل والتنكيل، علاوة على ابتزاز المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان، من خلال تلفيق قضية أخلاقية بحقه، لا أساس لها من الصحة؛ بل هي محاولة يائسة للانتقام من الرجل الذي قاد جهود استصدار مذكرة الاعتقال الدولية بحق مجرمي الحرب الإسرائيليين.
صدر القرار رغم أنف الولايات المُتحدة المُلطخة يداها بدماء الشعب الفلسطيني، في ظل الدعم العسكري اللامتناهي لإسرائيل، والدعم الاستخباراتي والأمني لهذا الكيان السرطاني البغيض. إذ لم تتوانَ واشنطن منذ اليوم الأول من العدوان عن تقديم كافة أوجه الدعم لدولة الاحتلال؛ عسكريًا من خلال شحنات السلاح والمعدات والطائرات وغيرها، وسياسيًا عبر استخدام حق النقض "فيتو" في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وممارسة الضغوط السياسية وغيرها ضد دول المنطقة من أجل عدم اتخاذ موقف رسمي موحَّد ضد العربدة والإجرام الصهيوني.
صدر القرار ليؤكد للعالم أجمع أنَّ العدالة لا بُد وأن تأخذ مجراها، حتى ولو طال الأمد؛ حيث إننا نعلم أن مثل هذه القضايا ربما تستغرق سنوات طويلة لإصدار حكم فيها، كما إن المحكمة لا تملك أي سلطات تنفيذية لتنفيذ الحكم، باستثناء أن الدول المُوقّعة على "نظام روما الأساسي"، مُلزمةً دون اختيار منها بتنفيذ أي قرار يصدر عن المحكمة الجنائية الدولية، وهذا يعني أن جميع هذه الدول المنضوية تحت "نظام روما" (وعددها 124 دولة) مُلزمة قانونًا بتنفيذ قرار الاعتقال، ولاحقًا قرار الإدانة.
ورغم أنَّ الولايات المتحدة ليست عضوًا في "نظام روما" أي أنها غير مُلزمة باعتقال نتنياهو وجالانت، إلّا أنها استشاطت غضبًا من صدور قرار الاعتقال، وأطلقت نيران هجومها على المحكمة، في موقف يعكس مستوى الانحطاط السياسي الذي بات يُهمين على السياسات الأمريكية، الدولة التي يُفترض بها أن تكون نصيرًا للعدالة والمساواة وحقوق الإنسان، والتي لطالما تشدقت بها وابتزت بها جميع دول العالم، وتفاخرت بما يُسمى بـ"العدالة الدولية"، لكن عندما يأتي الأمر إلى إسرائيل تنقلب الموازين، وتتكشف العورات السياسية القبيحة، وتتجلى ازدواجية المعايير في موقف مُخذٍ يؤكد أننا ما زلنا نعيش في عالم يسوده قانون الغاب؛ حيث القوي بإمكانه التهام الضعيف دون مُحاسبة.. لكن هيهات هيهات.. لقد انتهى زمن إفلات إسرائيل من العقاب، وولَّت حقبة الهروب من المساءلة بلا رجعة.
لا شك لديَّ أن المحكمة الجنائية الدولية استندت في قرارها العادل والمُنصف، على حقيقة الوضع الكارثي وغير الإنساني في قطاع غزة، في تأكيد دولي لا مثيل له على الجرائم البشعة التي ارتكبتها دولة الاحتلال المُجرمة في غزة، وهو ما يُفنِّد الأكاذيب الصهيونية التي ظلّت تُشكك في أعداد الشهداء والمصابين وضحايا هذا العدوان طوال فترة الحرب وحتى الآن.
ومن المُؤكد أنَّ يقظة الشعوب الحرة حول العالم كان لها الفضل الأكبر في الضغط على جميع المؤسسات الدولية ودعم قضاة المحكمة في قضيتهم العادلة، فلقد شاهدنا- وما نزال- المظاهرات الحاشدة حول العالم المُندِّدَة بهذا العدوان الدموي الإجرامي على قطاع غزة، واعتصامات الطلبة الأحرار في أكبر جامعات أمريكا وأوروبا، إلى جانب التنديد الشديد بكل ما يمُت لدولة الاحتلال بصلة، حتى لفرق كرة القدم الإسرائيلية التي باتت منبوذة في كل البطولات والمنافسات. أضف إلى ذلك العزلة الدولية لهذا الكيان المُجرم، وفرار مئات الآلاف من الإسرائيليين إلى الخارج، فيما بات يُعرف بـ"الهجرة العسكية"؛ حيث عاد هؤلاء إلى أوطانهم التي قدموا منها للاستيطان في فلسطين المحتلة، بعدما زيّنت لهم حكومة الاحتلال الأوضاع ومنحتهم الأموال والمنازل والأراضي.
لقد قيل على لسان بعض المسؤولين إنهم أنشأوا المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة الديكتاتوريين والمستبدين في العالم الثالث، لذلك يستنكفون أن يمثل مجرمو الحرب الإسرائيليون أمام هذه المحكمة صاغرين، ما يؤكد أنَّ النظام العالمي القائم حاليًا على أحادية القطب بقيادة الولايات المتحدة أثبت فشله، وتأكد الجميع من حجم الظلم الواقع على عاتق الشعوب المُستضعفة.
ويبقى القول.. إنَّ القرار التاريخي للمحكمة الجنائية الدولية باعتقال مجرميْ الحرب نتنياهو وجالانت بمثابة مسمار غليظ في نعش الصهيونية البغيضة، وهو ما يُبشِر بزوال هذا الكيان المُجرم قريبًا، ويُؤكد للعالم أجمع أنَّ دماء الشعب الفلسطيني لن تذهب سُدى، وعلى حُكام وقادة العالم أن يدعموا ويؤيدوا قرار المحكمة الجنائية الدولية، وذلك بالتوازي مع المُحاكمة الجارية في محكمة العدل الدولية؛ إذ لأول مرة في التاريخ تُحاكم إسرائيل على إجرامها أمام أكبر مؤسستين للعدالة الدولية في العالم، وما من ريبٍ أنَّ العدالة ستأخذ مجراها، وإذا ما أخفقت عدالة الأرض، فإنَّ عدالة السماء نافذة ولا رادَّ لها، وهذا يقينُنا في الله عزَّ وجلَّ.
رابط مختصر