كثيرون منا يعتبرون الكهرباء أمرا مفروغا منه، فما عليك إلا أن تضغط مفتاح الكهرباء فيشتعل الضوء، لكن قدرة ومرونة أنظمة الطاقة -التوليد والنقل والتوزيع- ليست مضمونة، وإذا فشلت هذه الأنظمة، فسوف يتوقف الاقتصاد بالكامل.
شاركت مؤخرا في اجتماع لجمعية الكهرباء والطاقة (PES)، التي تعمل تحت رعاية معهد مهندسي الكهرباء والإلكترونيات.
الآن، تعمل الشركات على ابتكار طرق مبدعة لاستعادة الكهرباء بسرعة أكبر بعد انقطاعها، وتستثمر في البنية الأساسية التي تزيد من القدرة على الصمود في مواجهة الصدمات، ويشمل هذا الجهودَ المبذولة لتقليل الخطر المتمثل في احتمال تسبب النظام ذاته في إحداث صدمة، مثل حرائق الغابات، أو تفاقمها. ويزداد التحدي تعقيدًا لأن قطاع الكهرباء يجب أن يحرز تقدما ملموسا في التحول الأخضر. وهذا يعني خفض انبعاثات الغازات المسببة للانحباس الحراري الكوكبي، مع الحفاظ على إمدادات مستقرة من الطاقة لتشغيل الاقتصاد في الوقت ذاته.
ولأن مصادر الطاقة المتجددة تعمل بشكل مختلف عن الوقود الأحفوري، فإن هذا يعني ضمنا التحول ليس فقط في توليد الكهرباء، بل وأيضا في نقلها وتوزيعها، بما في ذلك تخزينها. من ناحية أخرى، من المتوقع أن يرتفع الطلب على الكهرباء، بسبب عوامل مثل تبني المركبات الكهربائية والنمو السريع الذي تشهده مراكز البيانات وأنظمة الحوسبة السحابية. ومن المتوقع أن تنمو احتياجات أنظمة الذكاء الاصطناعي بشكل خاص من الطاقة بدرجة هائلة في السنوات المقبلة.
وفقًا لأحد التقديرات، سوف يستهلك قطاع الذكاء الاصطناعي ما بين 85 و135 تيراواط ساعة سنويا -أي ما يعادل تقريبًا استهلاك هولندا- بحلول عام 2027. لتلبية هذه التحديات، يجب دمج المكونات الثلاثة لنظام الطاقة الكهربائية فيما يسمى الشبكات الذكية، التي تدار بواسطة أنظمة رقمية، وعلى نحو متزايد، والذكاء الاصطناعي، لكن تطوير الشبكات الذكية ليس بالمهمة السهلة. فهو يتطلب بين أمور أخرى مجموعة من الأجهزة والأنظمة، مثل العدادات الذكية السكنية وأنظمة إدارة موارد الطاقة الموزعة اللازمة لإدارة مصادر الطاقة المرنة المتقلبة والمتعددة ودمجها في شبكات الطاقة الكهربائية. ولأنها مبنية على أسس رقمية، فإن أنظمة الأمن السيبراني الفعالة تشكل ضرورة أساسية لدعم الاستقرار والقدرة على الصمود.
لن يأتي أي من هذا بثمن زهيد. تشير تقديرات وكالة الطاقة الدولية إلى أن وصول الاقتصاد العالمي إلى صافي الانبعاثات صِفر بحلول عام 2050، يتطلب مضاعفة الاستثمار السنوي في الشبكات الذكية- من 300 مليار دولار إلى 600 مليار دولار- على مستوى العالم حتى عام 2030. يمثل هذا حصة كبيرة من التمويل المطلوب لتحقيق التحول الشامل في الطاقة الذي يقدر بنحو 4 إلى 6 تريليونات دولار سنويا، ولكن حتى الآن لم يكن الاستثمار المطلوب مُـتاحا. وحتى في الاقتصادات المتقدمة، تتجاوز فجوة تمويل الشبكات الذكية 100 مليار دولار.
تستلزم مواجهة كل هذه التحديات اتخاذ تدابير منسقة عبر أنظمة شديدة التعقيد في كثير من الأحيان. والولايات المتحدة مثال على ذلك. إذ تعمل مرافق الكهرباء في أمريكا، التي يبلغ عددها نحو 3000 منشأة، في مجموعات مختلفة من التوليد والنقل والتوزيع، فضلًا عن الاضطلاع بدور صناعة السوق باعتبارها الوسيط بين التوليد والتوزيع. وكل ولاية أمريكية لديها هيئات تنظيمية خاصة بها، ويمكن تنظيم التوزيع المحلي على مستوى البلديات. وتُـدار البنية الأساسية النووية في أمريكا على المستوى الفيدرالي، من قِـبَـل وزارة الطاقة، التي تمول أيضًا الأبحاث، وبموجب قانون خفض التضخم الصادر عام 2022، تمول الوزارة الاستثمار في قطاع الطاقة. وتضطلع وكالة حماية البيئة الأمريكية بدور رئيسي في تحديد اتجاه ووتيرة تحول الطاقة. وتشرف كيانات أخرى على مناطق الشبكة الرئيسية الثلاث في أمريك والارتباط فيما بينها. على سبيل المثال، تتولى مؤسسة كفاءة الكهرباء في أمريكا الشمالية غير الهادفة للربح المسؤولية عن ستة كيانات إقليمية تغطي معًا كل أنظمة الطاقة المترابطة في كندا والولايات المتحدة المجاورة، فضلًا عن قسم من المكسيك. يتطلب تحقيق التحول الضروري لأنظمة الطاقة أن نعكف على التوصل إلى كيفية تمويل الاستثمارات ذات الصلة، ومن سيتحمل تكاليفها في نهاية المطاف، وكيف يمكن تنسيق نظام الشبكة الذكية المعقد المتقدم تكنولوجيًا والسريع التطور. من الصعب أن نتصور كيف يمكن حشد الاستثمارات بالحجم اللازم في غياب القدرة التمويلية التي تتمتع بها الحكومات الوطنية. يصدق هذا بشكل خاص في الولايات المتحدة، حيث لا يوجد سعر مشترك للكربون لتحقيق تكافؤ الفرص.
وعلى هذا، فمن الأخبار السارة أن إدارة الرئيس جو بايدن أعلنت في الشهر الماضي عن مجموعة من المبادرات والاستثمارات المصممة لدعم وتسريع التغيير البنيوي في قطاع الطاقة. أما عن من يجب أن يتحمل التكلفة، فإن الجواب معقد. فمن حيث المبدأ، يجب أن تأتي التعريفات معبرة عن الاستثمارات التي تعمل على خفض التكاليف أو زيادة جودة الخدمة واستقرارها. المشكلة هي أن الاستثمارات التي تعمل على تحسين جودة الخدمة يجب أن تنتشر عبر كيانات متعددة تمتلك أصولا مختلفة في الشبكة. ومن شأن الهياكل التنظيمية الشديدة اللامركزية أن تجعل تنسيق كل هذه التغيرات والتحويلات التعريفية ممارسة غير عملية، في أفضل تقدير. عندما يتعلق الأمر بالاستثمارات التي تعمل على تعزيز التحول إلى الطاقة الخضراء -بما في ذلك الصالح العام العالمي المتمثل في خفض الانبعاثات- فإننا نعرف من الذي لا ينبغي له أن يتحمل التكلفة: المجتمعات المحلية.
الواقع أن فرض رسوم على المستوى المحلي لتمويل مثل هذه الاستثمارات من المحتم أن يؤدي إلى نشوء نقاط الضعف والقصور وضعف الاستثمار. وسيكون هذا غير عادل أيضا: فلا يوجد سبب وجيه يدفع المستهلكين في المناطق التي تعاني من أنظمة قديمة غير مستقرة إلى تحمل مزيد من التكاليف. وإذا طُلِب منهم ذلك، فسوف يقاومون في الأرجح.
يتلخص نهج أفضل في استخدام سياسة صناعية فيدرالية موسعة ليس فقط للمساعدة في التمويل، وخاصة لتنسيق الاستثمارات الطويلة الأجل في قطاع الطاقة، بل وأيضًا لتوجيه عملية تطوير نظام الشبكة الذكية المعقد والمترابط. الواقع أن هذا النظام يحتاج إلى مصرفي ومعماري يعملان مع الشركات والهيئات التنظيمية والمستثمرين والباحثين ومنظمات الصناعة مثل جمعية الكهرباء والطاقة لتنفيذ تحول بنيوي معقد وعادل وفَـعّـال. ويجب أن تشارك الحكومات الوطنية في الاضطلاع بهذين الدورين.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الشبکات الذکیة قطاع الطاقة التی تعمل یجب أن
إقرأ أيضاً:
رغم الضغط الأمريكي: إيران تعرض مقايضة الكهرباء بالاستثمارات في العراق
13 مارس، 2025
بغداد/المسلة: يؤكد يحيى آل إسحاق، رئيس غرفة التجارة المشتركة بين إيران والعراق، أن العراق ليس لديه حالياً القدرة على توفير بديل للكهرباء الإيرانية إذا ما تم إلغاء الإعفاءات الأمريكية، مشيراً إلى أن الضغوط على العراق ستكون أشد من الضغوط على إيران نفسها. ويضيف أن القطاع الخاص الإيراني يمتلك الخبرات الفنية والهندسية التي تتيح له لعب دور أساسي في تطوير البنية التحتية الكهربائية للعراق، في حال توافرت الظروف المناسبة لذلك.
واشنطن تضيق الخناق على صادرات الطاقة الإيرانية
ومنذ إعادة فرض سياسة “الضغط الأقصى” من قبل الولايات المتحدة، تسعى واشنطن إلى تشديد العقوبات الاقتصادية على إيران، وخصوصاً في قطاع الطاقة، الذي يمثل أحد مصادر التمويل الأساسية لطهران. وقد دفع هذا التوجه الإدارة الأمريكية إلى منع أي تخفيف للعقوبات، بما في ذلك عدم تجديد الإعفاءات التي تتيح للعراق استيراد الكهرباء من إيران، وهو ما يضع الحكومة العراقية أمام تحديات خطيرة في ظل عدم اكتمال مشاريع تطوير بنيتها التحتية في قطاع الطاقة.
العراق بين الحاجة الملحة والمنافسة الإقليمية
وتشير التقديرات إلى أن العراق يعتمد على إيران في تزويده بنحو 40% من احتياجاته الكهربائية، ومع استمرار أزمات الشبكة المحلية، يصبح من الصعب إيجاد بدائل فورية. لكن في المقابل، تتزايد المنافسة الإقليمية على سوق الطاقة العراقي، حيث تسعى الصين إلى الدخول بقوة من خلال عقود مقايضة تعتمد على تبادل البنية التحتية مقابل النفط، في حين تعمل السعودية وتركيا على إيجاد موطئ قدم لهما في هذا السوق الاستراتيجي.
خيارات إيران للتعامل مع التحديات
وفي ظل هذه التطورات، تحاول إيران البحث عن طرق بديلة للبقاء في سوق الطاقة العراقي. ويقترح المسؤولون الإيرانيون أن يقوم القطاع الخاص الإيراني بتنفيذ مشاريع استثمارية داخل العراق، مقابل مستحقاته المتراكمة لدى بغداد. كما أن الشركات الإيرانية، التي أنجزت سابقاً مشاريع كبرى في العراق، تسعى للحصول على عقود جديدة في مجالات إنتاج الكهرباء وصيانة المحطات ونقل الطاقة، مستفيدة من خبراتها الفنية الطويلة.
مستقبل الكهرباء في العراق.. إلى أين؟
ومع استمرار الضغوط الأمريكية والتنافس الإقليمي المتزايد، يبقى السؤال المطروح هو: كيف سيتعامل العراق مع أزمة الكهرباء في المرحلة المقبلة؟ وهل سيتمكن من تحقيق التوازن بين تأمين احتياجاته الطاقوية والضغوط السياسية المفروضة عليه؟ في ظل هذه المعادلة الصعبة، يبدو أن بغداد ستظل بحاجة إلى الكهرباء الإيرانية، ولو لفترة أطول مما تتوقعه واشنطن.
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
About Post Author زينSee author's posts