الدعاية الرقمية في عصر ما بعد الحقيقة
تاريخ النشر: 21st, May 2024 GMT
في الانتخابات الرئاسية الأمريكية في عام 2016 كشفت وسائل الإعلام عن استخدام شبكات التواصل الاجتماعي من جانب الحكومة الروسية للتأثير على العملية الانتخابية، التي انتهت بوصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض على حساب مرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون. بعدها أصبحت الصراعات في غزة وأوكرانيا ساحات معارك في حروب الدعاية الرقمية التي تتصارع فيها كل الأطراف عبر منشورات وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من صور الدعاية عبر الإنترنت، المصممة بعناية لجعل الناس في جميع أنحاء العالم ينحازون إلى أحد الجانبين، ويتشددون في مواقفهم، بل ويحركون الرأي العام العالمي على نطاق أوسع.
منذ ذلك الوقت حدث تحول ملموس في الخطاب العام والأكاديمي وزاد الاهتمام بدراسة «الجانب المظلم» من الدعاية الرقمية. فقد تلاشى التفاؤل الذي ساد في الأيام الأولى من ثورات «الربيع العربي» حول تمكين المنصات الرقمية للمستضعفين للتعبير عن آرائهم، وتجميع وتنظيم أنفسهم، والانتقال بالحركات الاحتجاجية من الإنترنت إلى الشوارع والميادين، ليحل محله التشاؤم الناتج عن الانتشار الواسع لخطاب الاستعلاء والعنصرية والكراهية، وصعود سياسات «ما بعد الحقيقة»، وهو المصطلح الذي يعني تجاوز الحقيقة، وفقدان الحقيقة الموضوعية القائمة على البراهين والأدلة العقلية. وقد اختار قاموس أكسفورد في عام 2016 مصطلح «ما بعد الحقيقة» ليكون مصطلح العام، ويشير إلى الظروف التي تكون فيها الحقائق الموضوعية ذات تأثير أقل في تشكيل الرأي العام، لذلك من المهم أن نأخذ بعين الاعتبار هذه التطورات ونسأل أنفسنا ما الذي نعرفه بالضبط عن الدعاية الرقمية؟ وما الذي لا نعرفه؟ وما الذي يجب أن نعرفه حتى نتمكن من الاحتواء، إن لم يكن منع، آثارها التخريبية؟ في البداية لا بد أن نؤكد على حقيقة أن لا دولة في العالم في مأمن من حملات الدعاية الرقمية، ما يعني أنه لا أحد في العالم لديه حصانة من هذه الدعاية التي يمكن أن تؤدي إلى إعاقة التقدم وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وتتعدد التأثيرات السلبية لهذه الدعاية وتتفاوت وفقًا لمتانة الهيكل المؤسسي للدولة التي تتعرض لها، ووفقًا لقوة تلك الدعاية وأهدافها وقوة الفاعل أو الفاعلين القائمين بها، ولذلك يجب أن تبادر الدول إلى اتخاذ كل الإجراءات التي تحميها وتحمي مواطنيها من التأثيرات السلبية الهائلة لهذه الدعاية الرقمية التي تقوم على الأكاذيب، أو على الأقل خلط بعض الحقائق بالأكاذيب لتحقيق أهداف صُناعها. ولكي تستطيع الحكومات حماية الأوطان من الدعاية الرقمية التي تختلف عن الدعاية التقليدية في الأساليب والقدرة على الوصول والتأثير، لا بد أن نحدد ما الذي نعرفه عن الدعاية الرقمية؟ وباختصار شديد ودون الدخول في متاهات التعريفات الأكاديمية التي قد لا تهم القارئ، فإن الدعاية الرقمية تعني كل الجهود التي تقوم بها الحكومات والشركات وجماعات المصالح والكيانات المختلفة في إدارة صراعاتها الداخلية والخارجية، من خلال نشر وتضخيم المعلومات المضللة، والتلاعب بالرأي العام، وذلك باستخدام المنصات الإلكترونية المختلفة وعلى رأسها وسائل التواصل الاجتماعي وتقنيات الاتصالات والحسابات الآلية وحسابات الجيوش الإلكترونية البشرية المجهولة الهوية. ما نعرفه حتى الآن هو أن الدعاية المدعومة من الدول قد انفجرت مع صعود وسائل التواصل الاجتماعي. وعلى سبيل المثال، ووفقًا لشهادات قدمها ممثلو فيسبوك وجوجل وتويتر أمام لجان الكونجرس الأمريكي في أكثر من مناسبة، فإن «أكثر من 150 مليون شخص تعرضوا على الأرجح لحملة التضليل الروسية قبل الانتخابات الرئاسية لعام 2016 في مقابل 20.7 مليون شخص فقط شاهدوا النشرات الإخبارية المسائية للشبكات التلفزيونية القومية الأربع «آيه بي سي، وسي بي إس، وإن بي سي، وفوكس». ولعل ما يضاعف من أهمية هذا التحول في أساليب ووسائل الدعاية هو تغير الطريقة التي يحدث بها التلاعب في المحتوى، حيث يتميز الوسيط الرقمي بخصائص لم تكن تتوافر في وسائل الإعلام التقليدية، مثل الانتشار الواسع المدى للمحتوى، وقدرته على تجاوز مرشحات الإعلام التقليدية وحراس البوابات، وهو ما يجعل التضليل ينتشر بشكل أسرع ويصل إلى مناطق أوسع من العالم. وبهذا أصبحت الدعاية الرقمية ظاهرة عالمية، ووسيلة غير عسكرية فعالة لتحقيق الأهداف السياسية والاستراتيجية، بطريقة تتجاوز قوة الأسلحة، بعبارة أخرى، أصبح تسليح المعلومات عبر الدعاية الرقمية يُنظر إليه من قبل بعض الدول كأداة مثلى لتصحيح موازين القوى مع الدول الأخرى. لقد كانت الدعاية دائمًا سلاحًا من أسلحة الحرب، لكن الثورة الرقمية زادت من مدى وصولها وفعاليتها، وهذا ما يجعل من الصعب على الشخص العادي، وكذلك المهنيين ذوي الخبرة، معرفة الصحيح فيها وغير الصحيح.ومن المثير للاهتمام، أنه على الرغم من الانفجار في القنوات والشبكات والمحتوى القائم على التضليل الرقمي، فإننا لا نعرف بشكل قاطع ما إذا كانت الدعاية الرقمية ناجحة بالفعل. صحيح أن الترويج لخطاب الكراهية والتصعيد عبر الإنترنت لإحداث الاستقطاب السياسي، هما من الآثار الملموسة للدعاية الرقمية التي لا يمكن تجاهلها، غير أنه من الصعب تقييم طبيعة التأثير الذي تحدثه هذه الدعاية الرقمية على رأي وسلوك الأشخاص الذين يتعرضون لها. وعلى سبيل المثال فإن حرب الدعاية الرقمية في الحرب الإسرائيلية على غزة هي حرب معلومات مضللة، تحاول من خلالها إسرائيل تشكيل وجهة نظر العالم، ولها تأثير واضح ومتناقض إلى حد ما على كل من الشعوب والحكومات، وكذلك على ساحة المعارك. ولذلك ومع أن قياس تأثير الدعاية الرقمية يبدو صعبا، فإنه تبقى هناك حاجة لكل الدول لتطوير برامجها الاستراتيجية لمعرفة كيفية توليد المعلومات المضللة عبر الإنترنت بهدف التأثير في اتجاهات وقيم وآراء وسلوكيات مواطنيها.
ونظرًا للتأثيرات المدمرة التي قد تحدثها الدعاية الرقمية في الدول والمجتمعات، فإنه من المهم معرفة كيفية التعاطي مع الحملات الدعائية المنهجية، وتتبع كل المنصات والحسابات التي تسعى للترويج للمعلومات المضللة. وبشكل أكثر تحديدًا، يجب تحديد ما إذا كانت التدابير الدفاعية التي تستخدمها الدولة كافية لكشف هذه الحملات والتصدي لها، وما إذا كانت هناك حاجة إلى تدابير هجومية يجب اتخاذها.
لقد حان الوقت لوضع استراتيجيات وطنية دفاعية لمكافحة الدعاية الرقمية تستطيع من خلالها الدولة كشف أنماط الدعاية الرقمية، وتحديد قوتها أو ضعفها، وتحسين المعرفة الإعلامية حول كيفية عمل الدعاية، وكيفية تجنب الوقوع في فخها، في الوقت نفسه يجب أن تتضمن تلك الاستراتيجية آليات للهجوم تساعد في استعادة بعض السيطرة على أجندة المعلومات المضللة، وتقليل التأثير الضار على الدولة والمجتمع، وجعل الانخراط في المعلومات المضللة أكثر كلفة للطرف الآخر. ويمكن في هذا الجانب استخدام خوارزميات مصممة خصيصًا لرسم خريطة لشبكات المعلومات المضللة التي تستهدف الدولة، والتأكد من تعطيلها، بالإضافة إلى ذلك، يجب تبني رؤية استراتيجية قوية لطرح الجوانب الإيجابية للسياسة الخارجية للدولة، وهو ما يجعل من الصعب على القائمين بالدعاية الرقمية الرد.
إن المشهد التكنولوجي الحالي يؤكد أن الدعاية الرقمية ستظل موجودة، وقد لا تتمكن الدول أو وزارات الخارجية من القضاء عليها تمامًا، ولكن يجب أن تكون قادرة على تقليل عواقبها الضارة، من خلال فهم أفضل لكيفية عملها، ونوع التأثير الذي تولده، وكيفية الجمع بين استراتيجيات المكافحة الدفاعية والهجومية لدعم الدولة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: المعلومات المضللة التواصل الاجتماعی الرقمیة التی هذه الدعایة ما الذی یجب أن
إقرأ أيضاً:
أساتذة علم اجتماع: نشر الشائعات والأكاذيب المضللة حيلة «الإخوان» على مدار السنوات
خطط ممنهجة تسعى جماعات الإخوان الإرهابية لتحقيقها دائمًا، من خلال إطلاق الشائعات المثيرة للجدل لخلق حالات من الفوضى في جميع أنحاء البلاد، رغبة في تدمير الدولة المصرية بجميع مؤسساتها، وتحقيق الأهداف السامة المطلوبة، حيث تؤثر تلك الوسائل المدسوسة على فئات كبيرة وهي التي لا تمتلك الوعي الكافي لمواجهة هذه الأكاذيب.
التاريخ يعيد نفسهما تفعله تلك جماعات الإخوان الإرهابية في البلاد من نشر شائعات وأكاذيب مضللة بمرور كل يوم، ما هو إلا بمثابة منهج مدروس وتاريخ معروف يكرر نفسه، إذ تعتبر تلك هي الأساليب الأساسية لدى جماعة الإخوان ويجري العمل بها سعيًا لتخريب البلاد، وهي خطة واضحة ومعروفة لدى الدولة المصرية بل وجميع شعوب العالم تجاه تلك السياسات الكاذبة، بحسب حديث الدكتورة إنشاد علم الدين، أستاذ علم الاجتماع، لـ«الوطن».
وتشير أستاذ علم الاجتماع إلى أن التاريخ يعيد نفسه أمام سياسات جماعات الإخوان الإرهابية، فهم يسعون دائمًا لتحقيق أهدافهم والتركيز على الشائعات كوسيلة أساسية، لوجود مشاكل لديهم مع الدولة على مدار عقود طويلة.
وتعتبر نشر الشائعات حيلة أساسية وواضحة لدى الإخوان لتحقيق مسعاهم، «ماعندهومش حيلة تانية غيرها»، لكن الدولة المصرية دائمًا ما تُحبط مخططاتهم وتمنع تحقيق أي فرص لديهم.
وحتى تتمكن الجماعات الإرهابية من تحقيق ونشر شائعاتها، دائمًا ما تستغل بعض المشكلات الاجتماعية كفرصة لنشر الفتن بين المواطنين.
التصدي للشائعات الكاذبةوبحسب أستاذ علم الاجتماع، فإن التصدي وردع الشائعات الكاذبة بشكل مستمر لجماعة الإخوان الإرهابية، يتطلب العمل على زيادة الوعي بين المواطنين، واتجاه المسؤولين بالدولة دائمًا لتوضيح كافة المهام والوقوف عليها بشكل رسمي وواضح أمام المصريين، فالشفافية والوضوح يعملان معًا على وقف تلك الظاهرة السياسية بمرور الوقت.
فيما يشدد الدكتور رشاد عبد اللطيف، أستاذ علم الاجتماع، خلال تصريحاته لـ«الوطن»، على ضرورة تشكيل الوعي الكافي لمواجهة هذه الشائعات وقت التعرض لها بأي وسيلة، وعدم الانخراط وراءها لإحباط تحقيق متطلباتها الخفية والمدمرة للدولة، والاكتفاء فقط بالحصول على جميع الحقائق من مصادرها الرسمية والمعترف بها، مشيرًا إلى أن جماعة الإخوان الإرهابية تستهدف الوعي أولًا وتلعب على العاطفة بقوة خاصة بعض الفئات المستهدفة كالشباب والمراهقين.