لجريدة عمان:
2024-10-04@23:56:12 GMT

كتابة الحياة

تاريخ النشر: 21st, May 2024 GMT

كتابة الحياة

ثمة سمة أساسية، لا بدّ أن نجدها في كتابات الكندية أليس مونرو (1931 ـــ 2024)، حائزة نوبل للآداب العام 2013، التي غيّبها الموت، في 13 الحالي): كتابتها عن جرأة نساء يقمن بالخطوة المطلوبة، بالنسبة إليهن، نحو الحرية والمتعة. حتى وإن كانت هذه «اليقظة»، التي تجعلهن يتخطين حالة السُبات (والثبات أيضا)، خطوة مفاجئة، وعنيفة أيضا.

قصص قصيرة و(صغيرة)، لكنها صادرة عن امرأة عظيمة في دنيا الأدب. سرديات بليغة، مبهرة، تلتقط لحظات من هذا الوجود. وكأن لا شيء لتكتبه، سوى عن هذه الحياة التي خبرتها. في أي حال، هذه هي المهمة التي نذرت الكاتبة نفسها لها، وكأننا أمام «حائكة تخاريم دانتيلا ماهرة»، ما جعل اللجنة الملكية السويدية (في بيان نوبل)، تشيد بهذا العمل، معتبرة مونرو «ملكة القصة القصيرة المعاصرة». غالبا ما نرى في القصة القصيرة، شكلًا أدبيًا ثانويًا، وحتى مهملًا، لكن مونرو عرفت كيف تُحوّله إلى نوع أساسي، لدرجة أنه أطلق عليها في العالم الإنجلو ــ ساكسوني، لقب «تشيخوف عصرنا». تقول مونرو في أحد أحاديثها الصحفية: إنها بدأت بكتابة القصة القصيرة؛ لأن حياتها لم تترك لها الوقت الكافي لكتابة رواية، فالوقت الوحيد المتاح أمامها كان في الليل، عندما تنام بناتها. وتضيف: «وبعد ذلك، لم أغيّر أسلوبي مرة أخرى». أسلوب حيوي، يرغب جيدًا في التقاط مصائر أناس، في منتصف الرحلة، عندما تطرحهم رياح معادية على الأرض من دون حراك، لحظة تحطّم أحلامهم. هي لحظات القلق هذه التي تحددها مونرو، من كتاب إلى آخر، في مساحة صفحات قليلة، وكأنها تتوقف على صور ما، على الكتابة أن تلتقط ما هو أساسي فيها.

تعرض غالبية كتب مونرو صورًا عن هذه الكائنات المعذبة التي تراقبها بدقة كبيرة، كعالم في مختبر، أو مثل جرّاح يغرس مشرطه في الجروح الحميمة، ليكشف أسرارها تاركًا لعواطف مرضاه أن تهتز؛ غالبية شخصياتها من النساء اللاتي يتخذن هذه الخطوة لكي يكسرن روتين الحياة اليومية وقيودها -قيودهن- المنزلية أو الزوجية أو المهنية، ليخالفن الأعراف، عبر تحقيق رغباتهن التي كنّ يعتقدن أنها خيالية. وبذلك، يدفعن ثمنا باهظا جدًا لهذه الحريّة التي تعيدهم إلى المربع الأول، إلى خيبة الأمل، بعد تعرضهن للخيانة أو التخلي عنهن من قبل الرجال الذين التقينَ بهم على طول الطريق، طوال مدة هذه المغامرة العابرة. تقول، على سبيل المثال، إحدى نساء كتاب «حياتي العزيزة»: إنها «خبيرة في الهزيمة»، وأخرى «مستهلكة بالنقص»؛ يمكن لجميع بطلات مونرو أن يقلن الشيء عينه. ما القواسم المشتركة بينهن؟ فقدان شيء ما، فقدان طفل أو شخص عزيز، ولكن أيضًا فقدان الذاكرة أو العذرية أو البراءة أو الجمال أو الأوهام أو المعالم، كما في قصة «منظر البحيرة»، حيث ينتهي الأمر بعجوز فاقدة للذاكرة إلى الضياع في المدينة حيث يتعين كان عليها الخضوع لفحص طبي.

من شخصيات مونرو التي تبقى عالقة في الذاكرة، هناك غريتا مثلا، الشاعرة، التي تكتب «أشياء ليست سعيدة جدًا»، وعندما تستمتع أخيرًا بلحظة من المتعة مع شخص غريب في مقطورة سيارة، تتغلب عليها شياطين رهيبة شياطين الذنب؛ لأنها لا تجد ابنتها الصغيرة في المقصورة التي تركتها فيها. أو أيضا فيفيان، المعلمة في إحدى المصحّات، ففي هذا المكان تخوض أول تجربة جنسية لها مع طبيب يعدها بالزواج، ويتظاهر بتحضير حفل زفافهما ليتخلى عنها في اللحظة الأخيرة من دون تقديم أدنى تفسير «لا شيء يتغير أبدًا في الحب»، تقول مونرو هازئة، وهي الكاتبة التي تعود دوما إلى كتابة الفشل الذي يشكل نوعًا من حتمية وجودية. هناك أيضًا ليا، المرشدة السينمائية، لكنّ دينها يمنعها من مشاهدة الأفلام المعروضة على الشاشة، وكأن باب الأحلام مغلق في وجهها إلى الأبد. تعود الراوية القديمة لـ«دوللي» إلى التواصل مع غرائزها الهاربة بعد اكتشاف علاقة غرامية سابقة لزوجها، لكن العودة إلى المنزل ستعيدها إلى حزنها غير القابل للشفاء، ورغبتها في وضع حدّ لحياتها. أما المرأة التي تعترف في «مناجم الحصى»، فهي تحمل عبئًا يثقل كاهلها، إذ تشعر بالذنب؛ لأنها لم تتمكن من منع غرق أختها الصغيرة أثناء طفولتهما.

ثمة ملاحظة أخرى في قصص مونرو: تدور أحداث غالبية قصصها بين ثلاثينيات وثمانينيات القرن العشرين، لتصور لنا حياة تسقط في هاوية لا يمكن فهمها عندما «يظهر ما لا يمكن إصلاحه». إذ ثمة شعور ملازم بأننا لا نستطيع تصحيح القدر، ولا طرد الأشباح «الكامنة في زاوية الغابة». هناك أيضًا ثقل الذاكرة، وعذابات الماضي وشروره، التي ننغمس فيها أحيانًا بجبن. تقول مونرو، وهي تتحدث أيضًا عن إغراء إخفاء الواقع من خلال إخفاء حقائقنا الحميمة، كي لا نواجهها: «مهما كانت الحفرة التي بدأت بعض الكائنات في حفرها عندما كانت صغيرة، فإنها تستمر في الحفر بلا هوادة، وتحفر بحماسة». تقول إحدى شخصيات كتاب «المنظر من صخرة القلعة»: «ما من كذبة، أقوى من تلك التي نقولها لأنفسنا لاحتواء الغثيان الذي يحرك بطوننا ويلتهمنا أحياء».

وفي ذلك كله، تستحضر أليس مونرو أيضا في قصصها، طفولتها، عبر لمسات خفيفة ــ لتشكل صفحات ثمينة، فكما نعرف عن الكاتبة كانت دائمًا مترددة في وضع نفسها فوق خشبة المسرح، فوق الصفحة البيضاء. تحذرنا بالقول: «هذه هي الأشياء الأولى والأخيرة التي يجب أن أقولها في حياتي»، قبل أن تستعيد كرة الذكريات. قراءاتها الأولى لأليس في بلاد العجائب. مشهد مروع لجثة في تابوت. الغرفة التي تقاسمتها مع أختها الصغيرة. رهابها الليلي ورغبتها في القتل الذي لم تستطع التخلص منه. إفلاس الشركة العائلية المتواضعة المخصصة لتربية الثعالب (مهنة والدها). وقبل كل شيء، علاقاته البعيدة والمتضاربة مع أمها «التي يتعذر الوصول إليها إلى الأبد»، ضحية مرض باركنسون في سن الخامسة والأربعين.

من اعتراف إلى آخر، ومن قصة إلى أخرى، تثبت مونرو أن لا شيء يفلت من هذه «الكوميديا الإنسانية»، لا أدنى تشويق، ولا أدنى فارق بسيط، ولا أدنى همهمة ولا أدنى تأثير على الأحاسيس والعاطفة التي قامت بفك شفرتها منذ كتبها الأولى. وإذا كانت، في سياق قصة ما، تهتم كثيرًا بتحديد أن مدينة كندية معينة يبلغ عدد سكانها 1553 نسمة، تقريبا، فذلك لأن «كل روح لها أهمية»... نعم، كل روح لها أهمية وما هذا الاهتمام بنماذج شخصياتها إلا معنى ذلك.

جميع كتب أليس مونرو مترجمة إلى العربية، ومنشورة «إلكترونيا» على موقع هنداوي.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: لا أدنى

إقرأ أيضاً:

العمل الدولية: معدل بطالة الشباب عالميا في أدنى مستوى منذ 15 عاما بنسبة 13%

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

ذكرت منظمة العمل الدولية أن معدل البطالة بين الشباب العالمي في عام 2023 بلغ نحو 13% وهو أدنى مستوى له منذ 15 عامًا، فيما بلغ العدد الإجمالي للشباب العاطلين عن العمل في جميع أنحاء العالم 64.9 مليون شاب، وهو المعدل الأدنى منذ بداية الألفية، كما شهد عام 2023 انتعاشًا في نسبة تشغيل الشباب إلى عدد السكان حيث بلغت نسبتهم 35%؛ بعد عودة العديد من هؤلاء الشباب واستئنافهم العمل مرة أخرى بعد الجائحة.
جاء ذلك خلال تسليط مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء، الضوء على التقرير الصادر عن منظمة العمل الدولية، بعنوان "الاتجاهات العالمية لتشغيل الشباب 2024: العمل اللائق ومستقبل أكثر إشراقًا".
وركز التقرير على سوق العمل خلال فترة التعافي التي أعقبت جائحة "كوفيد-19"؛ حيث أوضح أنه بعد أكثر من أربع سنوات من بدء الجائحة، تحسَّنت آفاق سوق العمل بشكل كبير بالنسبة للشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عامًا؛ إذ استفاد الشباب الذين دخلوا سوق العمل في مرحلة ما بعد الجائحة من معدلات النمو الاقتصادي المرنة والطلب المتزايد على العمالة.
أشار التقرير إلى أن التعافي لم يكن شاملًا، سواء على المستوى الجغرافي أو الجنس؛ فعادت معدلات البطالة بين الشباب في عام 2023 إلى معدلاتها قبل الجائحة أو انخفضت عن معدلاتها قبل الجائحة في معظم المناطق الفرعية ولكن ليس كلها.
واستفاد الشباب الذكور من التعافي في سوق العمل أكثر من الإناث؛ ففي العقد الذي سبق الجائحة (2009- 2019)، كان معدل البطالة بين الشباب على المستوى العالمي أعلى من معدل البطالة بين الشابات بمعدل 0.7 نقطة مئوية، ولكن منذ ذروة الجائحة وحتى عام 2023، تقاربت معدلات البطالة بين الشباب والفتيات، حيث استقرت عند 12.9% بين الشابات و13% بين الشباب في عام 2023.
كما أشار التقرير إلى أنه من المتوقع أن ينخفض معدل البطالة بين الشباب على مستوى العالم بشكل أكبر على مدى العامين المقبلين ليصل إلى 12.8% في عامي 2024 و2025.
وعلى صعيد آخر، أوضح التقرير أنه على الرغم من الإشارات الإيجابية في المؤشرات الاقتصادية العالمية وسوق العمل، فإن الشباب اليوم يظهرون علامات على مستويات متزايدة من القلق بشأن مستقبلهم؛ حيث تشير الدراسات الاستقصائية التي سلط التقرير الضوء عليها إلى أن العديد من الشباب اليوم يشعرون بالتوتر إزاء فقدان الوظائف أو استقرار الوظائف، وحالة الاقتصاد، ونقص الحراك الاجتماعي عبر الأجيال، فضلًا عن آفاقهم في الاستقلال المالي في نهاية المطاف.
وأشار التقرير، في هذا الصدد، إلى أنه سواء كانت هذه التصورات مؤكدة بالواقع أم لا، فإن تصورات الشباب للمستقبل تؤدي دورًا مهمًا في رفاهتهم الشخصية وفي تشكيل قراراتهم بشأن التعليم في المستقبل وسوق العمل والمشاركة المدنية.
ونوه بأنه من أجل تخفيف مخاوف الشباب، ستحتاج المؤسسات إلى توجيههم عبر المراحل المختلفة من المدرسة إلى العمل ومن الشباب إلى مرحلة البلوغ.
وسلَّط التقرير الضوء على تغير الهيكل القطاعي لوظائف الشباب، والتحولات في التحصيل التعليمي والعائدات من التعليم؛ حيث أشار إلى أنه في البلدان المنخفضة الدخل، يتمكن واحد فقط من كل خمسة من الشباب البالغين الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و29 عامًا من العثور على وظيفة مدفوعة الأجر وآمنة. وفي المقابل من ذلك، فإن حصة الشباب البالغين العاملين في وظائف مدفوعة الأجر آمنة أعلى بكثير في البلدان ذات الدخل المرتفع، حيث بلغت نحو 76% في عام 2023.
وأشار التقرير في ختامه إلى أن تحقيق الأهداف النهائية المتمثلة في العمل اللائق ومستقبل أكثر إشراقًا للشباب يحتاج إلى المزيد من الجهد العمل، وخاصة في بعض المجالات.
 

مقالات مشابهة

  • هذه حقيقة السيدة اليزيدية التي كانت في قطاع غزة / فيديو
  • المعهد الديمقراطي: ندوب الحرب التي دامت عقد من الزمان لا تزال تلازم كل جوانب الحياة في اليمن
  • الحوثيون تقول إنها هاجمت تل أبيب بطائرات مسيّرة
  • بزشكيان: إذا ارتكبت إسرائيل أدنى خطأ ستتقلى ردًا أكثر قسوة
  • الفائز في مناظرة والز وفانس.. ماذا تقول استطلاعات الرأي؟
  • خبير: أمريكا تدعم إسرائيل عسكريا رغم ادعاءات توتر علاقتها بـ«نتنياهو»
  • الحوثي تقول إنها هاجمت عمق إسرائيل
  • العمل الدولية: معدل بطالة الشباب عالميا في أدنى مستوى منذ 15 عاما بنسبة 13%
  • معلومات الوزراء: معدل البطالة بين الشباب العالمي يسجل أدنى مستوياته
  • “أمهات الأشجار”.. جديد “مجموعة كلمات” ودعوة لتأمل جمال وتعقيد الطبيعة