لم نره من قبل، ولم نعرفه، ولم نختبره، لذا فهو ممنوع. هذا هو قانون العقل العربى المعاصر، وهو موروث من العصر السابق، والأسبق، والأسبق.
ظلت العقلية الشرقية تعادى كل ما لا تعرفه قروناً وقروناً. الجديد مستحدث، والمستحدث بدعة، والبدعة ضلالة، وكل ضلالة فى النهار. وما الداعى وما المبرر أن نغير ما ألفناه، وما الدافع أن نبدل ما وجدنا عليه آباءنا؟ تلك كانت الفكرة الحاكمة للعقل المسلم فى قرون المد العثمانى الكبير الذى شهد توسعاً عسكرياً للمسلمين، لكنه ظل توسعاً جغرافياً أرضياً لا حضارياً.
من يراجع تاريخ الإمبراطورية العثمانية الكبيرة يندهش من حجم الانتصارات التى حققتها، لكنه سرعان ما يحبط عندما يكتشف أن تمددها فى القوة العسكرية تلازم دائماً مع ضحالة معرفية، وانغلاق فكرى، ومعاداة لكل حديث، وهو ما علق بالعقل العربى والمسلم المعاصر، فصار كل مجهول محض مؤامرة كبرى.
فى سنة 1434م اخترع العالم الألمانى يوهان غوتنبرغ آلة الطباعة، وسارعت دول أوروبا إلى نسخ الكتب وطباعة المعارف ونقلها من بلد لآخر لتتسع العلوم وتنفتح العقول وتتوالد بدايات نهضة علمية واسعة.
وكانت الإمبراطورية العثمانية وقتها فى مرحلة نمو كبير، تحقق انتصارات واسعة على الأرض، وتحشد جيوشاً جرارة للهيمنة على شعوب الشرق والغرب، لكن هاجساً دفع ولاة الأمور فيها إلى استبعاد المطبعة من أى تخطيط نظراً لخطورتها، باعتبارها ناقلة علوم. وظلت السلطة الحاكمة فى أسطنبول ترى المعرفة خطراً، فأخرج رجال الدين المصفقون للسلطة قياساً فاسداً ادعوا فيه أن المطبعة حرام لأن آلة الطبع تضرب آيات القرآن الكريم، وأحاديث النبى «صلى الله عليه وسلم». والغريب أن السلطان بايزيد الثانى أصدر أمراً بتحريم طباعة الكتب، إلا لطائفة اليهود داخل تركيا، لذا كان أول كتاب تمت طباعته هو التوراه فى نهايات القرن الخامس عشر الميلادى. وعندما تولى السلطان سليم الأول الحكم سنة 1515 جدد أمر تحريم الطباعة، ثم غزا سوريا وفلسطين ومصر واستولى عليها فنشر تحريم الطباعة فى كل الأقطار.
وظل الجهل سائداً، وضعف العقول حاكماً رغم اتساع الحدود وتضاعف الجنود، ولم يمر وقت طويل حتى سميت الإمبراطورية الواسعة لآل عثمان فى مصطلحات السياسة الدولية بـ«تركة الرجل المريض»، ثم تحولت لاحقاً إلى لقمة سائغة يلتهمها الاستعمار الأوروبى بسهولة مستلباً خيراتها عدة عقود.
***
فى سنة 1623 تولى سلطان طفل، لم يتجاوز الثانية عشرة حكم المسلمين فى العالم كله، وهو السلطان مراد الرابع، فأصدر فرماناً بتحريم شرب القهوة وقطع رأس من يضبط شارباً. كان الاعتقاد السائد لدى من يجهلون وينتشرون فى ربوع السلطنة أن القهوة مخدر ومسكر، بل هى أشد خطراً من الخمر، وظل الناس يتداولون هذه الفكرة دون اختبار أو تمحيص. وبعد وفاة مراد الثالث، تولى شقيقه الحكم وأحب التخفيف على الناس، فأمر بالاكتفاء بجلد من يشرب القهوة، فكان البعض يجاهر بالشرب محبة واستمتاعاً بمذاق القهوة ثم يتحمل بصبر سياط الجلد.
وفى مصر، وفى زمن مقارب، كان أحد شيوخ الأزهر ويدعى أحمد طنطاوى يفتى بحرمة شارب القهوة، وحرمة شاريها، وبائعها، ليساوى بينها وبين الخمر، حتى ضج منه التجار، وأرسلوا له مراراً ليناقشوه ويجربها لكنه أبى معتصماً بما يعتقد أنه التزام دينى. وظلت القهوة قروناً من الزمن محل شبهة لدى جمهور العامة، حتى قرر أحد القضاة فى القرن التاسع عشر اختبارها بشكل عملى، فدعا بضعة طلاب لديه وسقاهم منها، ثم تناقش معهم فوجدهم أكثر يقظة، وأصفى ذهناً، فحكم بحلها.
***
فى نهايات القرن الخامس عشر، كما يعتقد كثير من محللى أسباب النهضة فى العالم، كانت أوروبا منشغلة تماماً بحركة الكشوف الجغرافية، وكان الرحالة الأوروبيون يجوبون العالم شرقاً وغرباً، متحملين الصعاب، ومتعايشين مع الخطر، بحثاً عن الجديد، غير المعلوم.
كانت فكرة اكتشاف ما هو غير مكتشف بمثابة غاية الغايات فى أوروبا المتأججة الساعية للتقدم، والمتطلعة بقوة نحو المستقبل. وهكذا رصدت الكنوز وخصصت الميزانيات الملكية الضخمة، وبادر المغامرون والطامحون إلى التقدم لكشف العالم الغائب، ولديهم قناعة شديدة بأن المجهول دوماً نافع.
وبالفعل اكتشفت طرق ومسارات وبلدان كانت غائمة وبعيدة وبدأت خرائط الاقتصاد والتجارة فى التبدل، وانتشرت المعارف، ووضعت الخطط للمستقبل، وغرست النهضة أقدامها فى خرائط الغرب.
***
أسهل شىء أن نعادى ما نجهله، فنقطع بحرمته، بينما يعصر الآخرون أذهانهم عصراً ليعرفوا الناس ما هو مجهول.
لا تسر خلف القطيع، وغامر وخاطر واقتحم، واعرف، وجرب، واختبر، ولا تصدق تجار الدين وخدم السياسة فى كل مكان وزمان.
والله أعلم
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: مصطفى عبيد
إقرأ أيضاً:
تفاصيل صادمة.. قاتل صامت يختبئ في مشروب يومي يشربه الجميع
وقال مدير التصوير الطبي في جامعة سيميلويس في بودابست (عاصمة المجر)، بال موروفيتش هورفات، إن الإفراط في شرب القهوة سريعة الذوبان، قد يزيد من خطر الإصابة ببعض أنواع السرطان.
وأوضح في تصريحات لوسائل إعلام غربية، أمس الخميس، أن ذلك المشروب الشعبي الذي يحتوي على الكافيين، يحتوي على ضعف كمية "الأكريلاميد" الموجودة في القهوة المطحونة، وهي مادة كيميائية تنتج عندما يتم طهي الطعام، بما في ذلك حبوب البن، في درجات حرارة عالية.
وتم الإعلان عن "الأكريلاميد" على أنها "مادة مسرطنة للإنسان" من قبل الوكالة الدولية لأبحاث السرطان، مما يعني أن هناك أدلة على أن المادة الكيميائية يمكن أن تسبب السرطان لدى البشر.
وكشفت الاختبارات المعملية، أن "الأكريلاميد" في النظام الغذائي يسبب سرطان الرئة والجهاز التناسلي لدى الحيوانات، ويتفق العلماء على أنه يحتمل أن يسبب السرطان لدى البشر أيضا، وفقا لوكالة معايير الغذاء البريطانية.
وكشفت دراسة بولندية أجريت في عام 2013، حللت 42 عينة من القهوة، بما في ذلك 10 أنواع من القهوة سريعة الذوبان، أن القهوة سريعة الذوبان تحتوي على ضعف كمية "الأكريلاميد" الموجودة في القهوة المطحونة حديثا.
ووفقا للباحثين في جامعة ماكغيل بكندا، فإن تناول "الأكريلاميد" يصبح أمرا مثيرا للقلق، عند تناول نحو 10 أكواب من القهوة سريعة التحضير يوميا. وبينما تحتوي القهوة سريعة التحضير على "الأكريلاميد"، إلا أنها تحتوي أيضا على مضادات أكسدة أكثر من القهوة المطحونة، مما يحمي من تلف الخلايا.
وأكد الدكتور هورفات أن القهوة سريعة التجهيز تحتوي على "الميلانويدات"، وهو مضاد للأكسدة يزيد من تنوع البكتيريا في الأمعاء، والذي يمكن أن يساعد أيضا في الحماية من الأمراض.
ومع ذلك، فإنه يُعتقد أن القهوة المفلترة و"الإسبريسو"، من أكثر أشكال مشروبات الصباح صحية؛ إذ وجد أن القهوة سريعة التجهيز - التي يتم تصنيعها عن طريق تمرير حبوب البن المطحونة والماء الساخن من خلال مرشح ورقي أو شبكي معدني - تسهم في خفض معدلات الإصابة بأمراض الشرايين، وهو السبب الأكثر شيوعا للنوبات القلبية.
ووفقا للباحثين في النرويج، الذين درسوا عادات القهوة لدى نصف مليون شخص على مدى عقدين من الزمن، فقد اكتشفوا في دراستهم أن تناول 4 أكواب من القهوة المفلترة يوميا يساعد على جني فوائد صحة القلب هذه. كما يُعتقد أن القهوة التي تعتمد على "الإسبريسو"، والتي تشمل الكابتشينو، واللاتيه، والقهوة البيضاء المسطحة، مفيدة للأدمغة، وترتبط بانخفاض خطر الإصابة بمرض "ألزهايمر