إعلاميون وقانونيون وناشطون سودانيون يجمعون على اصطفاف لمكافحة خطاب الكراهية
تاريخ النشر: 21st, May 2024 GMT
أجمع مشاركون في ورشة الإطار القانوني لخطاب الكراهية، على ضرورة اصطفاف إعلاميين و قانونيين و فاعلين في المجتمع المدني لبناء منظومة لمكافحة خطاب الكراهية.
كمبالا ــ التغيير
وقدمت في الورشة التي نظمتها منظمة “فري دوم هاوس” بالتعاون مع “طيبة برس” بقاعة الراحل محجوب محمد صالح بكمالا، التي استمرت ثلاثة أيام، مجموعة من الأوراق قدمها إعلاميون وقانونيون ودار النقاش حول أهمية محاصرة خطاب الكراهية حتى لا يؤدى إلى إبادة جماعية في السودان.
و ابتدر اليوم الأول مدير مركز طيبة برس محمد لطيف بورقة بعنوان: (خطاب الكراهية في الإعلام التقليدي)، وتحدث عن مميزات الصحافة المكتوبة في مقدمتها الأرشيف الذي يمكن الرجوع له في أي وقت.
كما تطرق إلى دور التلفاز والصورة ودورها في التأثير، واستعرض ميزات المذياع وسهولة اقتنائه والتنقل به وقدرته الكبيرة في التأثير وتحفيزه لخيال المتلقي “.
ونادى لطيف من خلال ورقته بضرورة معرفة الحد الفاصل بين حرية التعبير والترويج لخطاب الكراهية”.
وشدد على احتياج مؤسسات الإعلام التقليدي (راديو/ تلفزيون/ صحف مكتوبة) إلى سياسات تقوم على بسط حرية التعبير، وقال: “شهدنا وجود الرقابة القبلية والبعدية التي حكمت إعلامنا خاصة في سنوات الإنقاذ وأثر هذه الرقابة في تفشي خطاب الكراهية حيث كان يمنع إثارة الكثير من الموضوعات وحجب الكثير من الأخبار”.
وأضاف: “ثقافة الكراهية لا يمارسها المجتمع فقط وإنما حتى السلطة عبر ما تبثه من خطابات تمييزية عبر أجهزتها الإعلامية”.
وأشار إلى وجود استعلاء في المجتمع “عرقى وثقافى ودينى وطبقى ونوعى” و اعتبر أن هذا الواقع محفز لخطاب الكراهية.
وطالب لطيف، بضرورة عمل قانون يحكم الفضاء العام ويجرم خطاب الكراهية، وتصميم خطاب اعلامى ينهض به الاعلاميين والفاعليين في المجتمع فى مواجهة خطاب الكراهية الذى ثبت انه منظم ومقصود ومخطط له”.
وفي السياق تطرقت الورقة الثانية التي قدمها الإعلامي عادل إبراهيم كلر بعنوان: (تحديات ومقترحات:
مواجهة خطاب الكراهية والعنف على منصات التواصل الاجتماعي)، إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي حامل رئيس (لخطابات الكراهية والعنف والعداوة خلال حرب 15 أبريل في السودان والتي تعددت أشكالها وأنماطها المريعة بحيث باتت تمس العوامل المحددة للهوية الحقيقية والمتصورة لفرد أو مجموعة بما في ذلك الدين أو الانتماء الاثني أو الجنسية أو العرق أو اللون أو النسب أو نوع الجنس).
وأوضح كلر أن الكثير من القوانين ذات الصلة المباشرة وغير المباشرة منذ النظام البائد والتعديلات التي تمت لبعضها بعد الثورة كقانون جرائم المعلوماتية لسنة 2020 بجانب المبادرة السودانية لحقوق الإنسان بالخرطوم وإعدادها مشروع قانون يختص بحماية حرية الدين أو المعتقد أو الفكر للأطراف المعنية بحماية الحريات الدينية ووقف خطاب الكراهية.
وأشار إلى أثر انقلاب 25 أكتوبر في زيادة وتيرة العنف” ما أسماء العنف الهيكلي “وتراجع مساحة الحريات ما خلق مناخا لخطاب الكراهية”، وحذر من قدرة خطاب الكراهية في التسرب الناعم في الحياة العامة بحيث إن معظم الناس يمكن أن يقعوا في شباكه.
ودعا عادل، إلى صناعة خطاب مواز ينهض على التحريض على التسامح وقبول الآخر، بديل للخطابات السجالية” الشعبوية “التي تأتي كردود الأفعال”.
وطالب مؤسسات المجتمع المدنى ذات الصلة بالإعلام والقانون كنقابة الصحفيين السودانيين أن تبادر فى فتح بلاغات باسمها ضد مروجى خطاب الكراهية الذين يقيمون خارج السودان و أشار إلى أنهم يمثلون الأغلبية من صناع هذا الخطاب، وقال “لا بد من الحوار مع رموز المجتمع من قيادات أهلية وساسة ومبدعين وإدماجهم في مشروع مناهضة خطاب الكراهية، ولفت إلى هشاشة المنظومة العدلية في السودان”.
و أضاف: “غياب حرية التعبير في الأجهزة الإعلامية السودانية وعدم تمكنها من إنتاج خطاب مضاد لخطاب الكراهية”.
وبدوره، ابتدر بروفسير جمعة كندة الورقة الثالثة: بعنوان: (خطاب الكراهية في السياق الاجتماعي السوداني)، بقوله: “يجب أن نعلم نحن الموجودين في هذه القاعة جميعا وأنا معكم كلنا متورطون في خطاب الكراهية قولا وفعلا بدرجة ما”.
وأضاف: “عن نفسي أرى أن مشروعي الآن هو العمل على إنهاء الحرب لذلك سيكون حديثي منصبا حول خطاب الكراهية الآن وآليات مجابهته أما ترتيبات ما بعد الحرب وملاذي يجب أن يكون وكيف يكون ليست موضوعيا الآن”.
وأوضح كندة أن مصطلح خطاب الكراهية لم يتم توطينه دوليا -بصورة واضحة- حتى الآن إذ إنه في حالة سيرورة وحتى تعريف الأمم المتحدة له لا يزال تحت الاعتماد “.
وأشار إلى أن خطاب الكراهية بما أنه نوع من التواصل فهو إذن يتبدى بأشكال مختلفة منها الكلمة والإيماءة والصورة والدراما ولغة الجسد وغير ذلك”…مؤكدا أن خطاب الكراهية له أضرار مادية (فعل) تصل حد الإبادة الجماعية والإبادة الثقافية كتجريد مجموعة ما من لغتها وثقافتها ومعتقدها وفنونها”.
وحول وجود خطاب الكراهية في السياق السوداني قال سنجد إنه نتيجة وسبب في نفس الوقت… نتيجة لعوامل كثيرة ثقافية وسياسية واقتصادية تقف وراءها الدولة السودانية كدولة لم تستطع حتى الآن إدارة التنوع السودان بصورة عادلة وخلاقة، وسبب لأنه يقف وراء كثير مما نعيشه الآن من صراع ونزاعات صيغتها المثلى حرب 15 أبريل الدائرة الآن “.
وتابع:” أنا لا أفرق بين خطاب الكراهية كسلاح قاتل والأسلحة الأخرى المعروفة بل أراه أكثر فتكا لأن بسببه تدور المدافع والطائرات المقاتلة، ولأنه ينسف “مساحة العيش المشترك”.
وأردف: “أسوأ ما في خطاب الكراهية أنه قد تم تبنيه من قبل مؤسسات الدولة ومن قبل رموز وقيادات مجتمعة مع توفير حصانة له وهو ما يعنى بداية العمل على نزع هذه الحصانات منه”.
واستطرد: “سنحتاج أن نواجه خطاب الكراهية في سياق الحرب والسلام… في سياق الحرب بمقاومته وفي سياق السلام بالعمل على بناء دولة المواطنة الحقة”.
وزاد: “خطاب الكراهية الآن جعل الناس يتسآلون. كيف سيعودون إلى عيشهم المشترك وكل منهم بات يحمل صورة سالبة عن للآخر؟
ودعا كندة إلى ضرورة الشروع في تأسيس مرصد دولي لتتبع خطاب الكراهية”.
ونادى بضرورة التفكير في إصلاح قانوني… تربوي… تعليمي لمكافحة خطاب الكراهية وختم حديثه بضرورة العمل على نشر ثقافة مقاومة لخطاب الكراهية “.
وابتدر اليوم الثاني للورشة القانوني حاتم إلياس بورقة بعنوان: (خطاب الكراهية في القانون السوداني مقارنا بالقانون المغربي والعراقي) بقوله: إذا كنا نسعى لوضع قانون يجرم خطاب الكراهية فلا بد من النظر في الكيفية التي تجعله (جريمة)، وذلك في البحث عما يمكن أن يسببه من أذى للمتعرضين له وحيث هنا يجب النظر فيمن قام به هل هو فرد أم جماعة أم جهة رسمية كذلك البحث عن هدف كل من قام به ووضعيته”.
وقال “إن خطاب الكراهية عند النظر إليه من موقع الثقافة وهو موقع مهم سنجده كامنا في ثقافتنا السودانية ”
وأشارت الورقة إلى أن هذه الصور السالبة المتبادلة هي نتاج لعلاقات اقتصادية وسياسية في الأصل غير عادلة تسببت فيها الدولة السودانية وتغذت من مناهج التعليم والإعلام”.
وعن الحرب قال: الحرب الدائرة الآن تكشف لنا أن هذه الصور وغيرها هي النبع الأساس لخطاب الكراهية والذي هو الآن بعض من وقود الحرب”.
و بخصوص القانون السوداني والمغربي والعراقي أشارت الورقة إلى أن خطاب الكراهية غير منصوص فيها إلا -ضمنا- أي عندما يكون سبب لما أسموه الفتنة أو تهديد السلام الاجتماعي كالدعوة للنعرات الطائفية والعرقية بمعنى أنه لا توجد مادة تحت عنوان خطاب الكراهية
وأكدت الورقة على أن صناع المحتوى أفراد أو مسؤلون تقع عليهم مسؤلية جنائية في حال ثبت أن خطابهم هذا أدى إلى فعل ملموس كالقتل مثلا باعتبارهم محرضين وداعين إلى قتل فرد أو مجموعة أو لضرب الأعيان المدنية كالكباري مثلا”.
الورقة في مجملها حاولت أن تبين النواقص القانونية خاصة في القانون السوداني ومن جانب آخر كشفت عن الأبعاد الثقافية وعن دور الإعلام في صناعة خطاب الكراهية”.
وقدم دكتور محمد عبد السلام ورقة من محورين: الأول بعنوان: (مكافحة خطاب الكراهية في الاتفاقيات الدولية)، والثاني بعنوان: (التقدير أو التقويم القانوني لخطاب الكراهية)، واعتبر عبد السلام صناع خطاب الكراهية طرفا أساسيا في الحرب وأنهم لا يقلون عن حملة السلاح مشيرا إلى أن القانون سيطالهم كما يطال حملة السلاح متى ما توافرت البينات الدامغة على تورطهم في الجرائم التي ينظرها القانون
وأوضح أن هناك ثلاثة قوانين معنية بجرائم الحرب والإبادة الجماعية والجرائم الإنسانية هي: “الدولي الإنساني، الجنائي الدولي الدولي لحقوق الإنسان”.
وأشار إلى التضليل الإعلامي كممارسة لا تخلو منها الحروب وذكر أنه لا يعد جريمة في القانون التقليدي رغم آثاره السالبة على المواطن “.
وعن خطاب الكراهية، ذكرت الورقة أنه يساهم بصورة مباشرة وغير مباشرة على المواطن العادي في بث الخوف والشعور بالدونية والعنف خاصة ضد الأقليات والتمييز ويؤثر على العمليات الإنسانية والسيطرة على المعلومات وسحب الثقة من المواطنين”.
وعن خطاب الكراهية، ذكرت الورقة أنه يساهم بصورة مباشرة وغير مباشرة على المواطن العادي في بث الخوف والشعور بالدونية والعنف خاصة ضد الأقليات والتمييز ويؤثر على العمليات الإنسانية والسيطرة على المعلومات وسحب الثقة من المواطنين ”
وقال إن نشر المعلومات المضللة والمغلوطة بات يعتبر انتهاكا في التطور الحديث للقانون الدولي في حال أنه قاد إلى ارتكاب الجرائم أو التهديد”.
وأكد على ضرورة حماية المدنيين، وقال إن سقوط هذه الحماية في شروط معينة كأن يتحول أحدهم إلى مقاتل في صفوف أحد الطرفين مثلا “.
وحول خطاب الكراهية وكيف يتحول إلى جريمة ذكر محمد عبد السلام، عند ضلوعه في التحريض على القتل أو الإبادة أو ضرب الأعيان المدنية كالمتاحف مثلا”.
وفي ما يخص المؤسسات الإعلامية والإعلاميين أشار إلى مشروعية ضرب المؤسسات الإعلامية في حالة ثبوت وقوفها مع أحد الأطراف المحاربة وضرب مثلا بما حدث في يوغسلافيا من قبل حلف الناتو.
ويشأن الإعلاميين أكد أن القانون يمكن أن يطال مدير مؤسسة إعلامية حال ثبوت تورطها بالأدلة الدامغة في الترويج لخطاب الكراهية الذي يؤدى إلى القتل والتدمير وضرب مثلا بأحد إعلاميي رواندا”.
وفي ما يخص القوانين السودانية قال عبد السلام “إنه لا يمكن الآن وفي ظل الوضع السياسي الراهن أن نتوقع سن قانون يجرم خطاب الكراهية ”
و فيما يخص منتجي خطاب الكراهية في السودان كالذي يقوم على التحريض المباشر على القتل والتدمير فقد ذكر أن القانون سيطالهم عاجلا أم آجلا”.
وقدم الصحافي خالد أحمد عرضا موجزا لـ “معجم خطاب الكراهية في السودان”، الذي أعدته (مؤسسة أندريا)، أبان فيه أن المعجم والذي جاء نتيجة استبانة مع مجموعة متنوعة من المواطنين والمواطنات حول الكلمات والعبارات السودانية التي يرون أنها محملة بخطاب الكراهية ومن الكلمات التي ذكروها “عبد وجنقاوي وحداديد وغيرها” كما ذكر عددا من العبارات”.
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: خطاب الكراهية مقترحات ورشة وسائل التواصل الإجتماعي
إقرأ أيضاً:
الإسلام السياسي يعيد تسويق مشروعه على جثث الغزيين
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
في خضم التحولات الإقليمية التي أطلقها طوفان الأقصى، برزت أوراق عديدة تحاول قراءة اللحظة التاريخية وإعادة توصيف مواقع الفاعلين فيها، لكن تبقى بعض الأوراق بحاجة لقراءة نقدية تفكّك خلفياتها الأيديولوجية وأهدافها الكامنة. من بين هذه الأوراق، تأتي ورقة مركز "حريات للدراسات السياسية والاستراتيجية"، والتي تقدّم نفسها كتحليل استراتيجي لمرحلة ما بعد العدوان على غزة، لكنها في جوهرها تمثل محاولة لإعادة تدوير خطاب الإسلام السياسي في عباءة المقاومة.
غطاء استراتيجي لمشروع الخلافةتحمل الورقة الصادرة عن مركز "حريات" – الذي يرأسه طارق الزمر، أحد أبرز وجوه الإسلام السياسي المتطرف، والمصنّف على قوائم الإرهاب الدولية – طابعًا يتجاوز مجرد تقديم تحليل سياسي للأحداث. فهي ليست قراءة موضوعية لما بعد طوفان الأقصى، بل وثيقة أيديولوجية موجهة، تسعى لإعادة بثّ مشروع "دولة الخلافة" في جسد المنطقة، مستثمرةً لحظة تعاطف شعبي حقيقي مع المقاومة الفلسطينية، لإعادة إحياء سردية الإسلام السياسي وتثبيتها في المشهد الإقليمي الجديد.
بدلًا من أن تتوقف الورقة عند حدود قراءة التحول في الرأي العام العربي والدولي، وتقديم حلول ملموسة تخدم القضية الفلسطينية، تذهب إلى محاولة تذويب هذا الزخم الشعبي في مشروع أوسع، يقوم على ربط المقاومة المسلحة بالمشروع الإسلاموي، الذي لطالما سعى إلى السيطرة على المجتمعات من داخلها. بهذا الشكل، يتحوّل "التحرر" في الخطاب إلى وسيلة لا غاية، غايته الحقيقية هي فرض نموذج ديني شمولي، يوظف مشاعر الغضب الشعبي لتمرير أجندته العقائدية والتنظيمية.
تُقدّم الورقة مفاهيم مثل الكرامة والحرية والعدالة بوصفها قيمًا كونية، لكنها تُعيد تأطيرها ضمن المنظور الإسلاموي القديم، الذي يختزل هذه المفاهيم في مشروع "الحكم الإسلامي" بصيغته التنظيمية والسلطوية. فليست الحرية المقصودة هي حرية التفكير أو التنوع السياسي، بل هي "حرية الأمة" من الهيمنة الغربية – كما تراها الورقة – بينما تبقى الهيمنة الداخلية عبر التنظيمات فوق المجتمعية مشروعة ومطلوبة. هكذا، تتحوّل القيم الإنسانية العامة إلى أدوات دعاية لمشروع الخلافة، لا أُسسًا لدولة مدنية حقيقية.
تبدو دعوة الورقة إلى "إعادة التموضع" للحركات الإسلامية وكأنها لحظة مراجعة ذاتية، لكنها في الواقع إعادة تدوير للخطاب والأدوات دون مساس بجوهر المشروع التنظيمي. فهي لا تتحدث عن مراجعة نقدية لتجربة الإسلاميين في الحكم أو عن فشل مشروع التمكين، بل تدعو إلى دمج المقاومة في الخطاب الإسلاموي كمحرّك تعبوي جديد، يُمكّن التنظيمات من العودة إلى الواجهة من بوابة "تحرير فلسطين"، بينما تظل أسس السيطرة على المجتمعات كما هي: تنظيم محكم، قيادة فوقية، مشروع شمولي مغلّف بقيم فضفاضة.
تجاوز الدولة.. لا الأنظمةتُعدّ دعوة الورقة إلى "الاندماج المجتمعي الكامل" و"التحالفات العابرة للحدود" تعبيرًا واضحًا عن نزعة عابرة للدولة، تتجاهل مفهوم الدولة الوطنية الحديثة بوصفها الإطار السياسي والقانوني الجامع للمجتمع. هذه الدعوات لا تتأسس على مراجعة نقدية لتجربة الدولة العربية، أو طرح مشروع إصلاحي جاد، بل تأتي في سياق ترويج مشروع بديل يتجاوز السيادة الوطنية، ويفتح الباب نحو مشروع أممي فضفاض لا يستند إلى شرعية دستورية أو مؤسساتية، بل إلى شرعية أيديولوجية يحددها التنظيم وحده.
لا تقدم الورقة أي تصور لبناء الدول أو إصلاحها من الداخل، بل تسعى إلى تجاوزها بالكامل لصالح ما تسميه "مشروعًا حضاريًا تحرريًا". غير أن هذا المشروع، كما تقدمه الورقة، يفتقر لأي معالم واضحة أو محددة، ويبدو أقرب إلى خطاب تعبوي حالم يروّج ليوتوبيا الخلافة، دون الاعتراف بتعقيدات الواقع السياسي، أو الحاجة إلى العمل من داخل النظام السياسي القائم لإحداث التغيير. في جوهره، هو خطاب ينسف مبدأ الدولة الحديثة، لا لأنه يعارض الأنظمة، بل لأنه يرفض أصل الفكرة.
الورقة لا تتحدث عن تحالفات وطنية مبنية على برامج سياسية واضحة أو رؤى ديمقراطية، بل عن "قوى تغيير حقيقية" – مصطلح مطاطي يُستدعى غالبًا لتبرير تحالفات أيديولوجية مع قوى الإسلام السياسي العابرة للحدود، وعلى رأسها التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين. هذه "القوى" لا تمثل حراكًا وطنيًا حقيقيًا، بقدر ما تعيد تدوير الحرس القديم للتنظيم، وواجهاته الإعلامية والفكرية، التي لا تزال عالقة في زمن السبعينيات، وتعيد إنتاج نفس الشعارات رغم تغير السياقات.
في الوقت الذي تتقدم فيه شعوب المنطقة بنقاشات معقدة حول إصلاح الدولة، وتحديث النظام السياسي، وبناء عقد اجتماعي جديد، تقف هذه الورقة عند حدود خطاب قديم بثوب جديد. فهي ترفض الواقع دون أن تقدم بديلاً واقعيًا، وتستدعي مشروعات كبرى بحمولة رمزية – كـ"الخلافة" و"التحرر الحضاري" – لكنها تخلو من أي خطة عملية. بهذا المعنى، فإن الطرح الذي تقدمه الورقة ليس مشروعًا سياسيًا، بل خطابًا هروبيًا من الواقع، يروّج لنموذج شمولي ماضوي، لا مكان له في العالم المعاصر.
خطاب يتجنب المراجعة وينكر الفشلمن أبرز ما يثير الانتباه في ورقة مركز "حريات" هو غياب أي إشارة صريحة أو ضمنية إلى إخفاقات الحركات الإسلامية خلال العقدين الماضيين. لا تجد فيها مراجعة نقدية لفشل هذه الحركات في إدارة السلطة حين وصلتها، أو لعجزها عن تقديم نماذج حكم فعالة ومتوازنة. بل يتم تجاوز تلك المرحلة كما لو كانت تفصيلًا عابرًا في مسيرة نضالية طويلة، في حين أنها كانت – في نظر كثير من المراقبين – لحظة كاشفة عن هشاشة البناء السياسي والفكري لهذه الحركات، وتناقضاتها بين الشعار والممارسة.
الورقة تتجاهل أيضًا ما اتسمت به مواقف العديد من الحركات الإسلامية من تذبذب في أزمات وصراعات مفصلية على مستوى الإقليم. ففي الوقت الذي كانت فيه الشعوب تبحث عن مواقف أخلاقية ومبدئية، اتخذت هذه الحركات مواقف رمادية، تارة بحجة "الوساطة"، وتارة أخرى باسم "عدم الانحياز"، بينما كانت في الواقع تحاول موازنة علاقاتها مع أطراف متناقضة حفاظًا على مصالحها الضيقة. هذا التواطؤ أو الصمت المريب حيال الاستبداد والقمع الذي مارسته بعض الأنظمة أو الميليشيات المدعومة إقليميًا، لا يجد له أي ذكر أو تفسير في الورقة.
الأدهى من ذلك أن بعض فصائل الحركات الإسلامية انخرطت في تحالفات مشبوهة مع أنظمة أو أطراف غير ديمقراطية، بل وقمعية، لمجرد أنها تقف على خصومة مع أنظمتهم أو خصومهم التقليديين. هذا التوظيف الانتهازي للتحالفات يُظهر تلوّنًا سياسيًا وغيابًا لأي رؤية مبدئية تُقدّم مصلحة الشعوب على مصلحة التنظيم. ومع ذلك، لا تتطرق الورقة إلى هذه الانزلاقات، ولا تُقدّم أي تعهد واضح بالقطع مع هذه الممارسات، بل تتعامل مع الماضي كمنطقة معفاة من المحاسبة.
في نهاية الورقة، يُطرح "الخطاب الجامع" كحل سحري قادر على استعادة الثقة، دون تحديد من سيقود هذا الخطاب، أو ما المرجعية التي يستند إليها، أو كيف يمكن أن يجمع فعلًا بين تجارب متناقضة وتنظيمات تحمل رؤى متصارعة. الدعوة إلى "بدائل واقعية" لا ترافقها خطة انتقالية أو خارطة طريق، بل تأتي كجزء من خطاب تعبوي يتجنب الأسئلة الصعبة: من يتحمّل المسؤولية؟ ومن يُراجع من؟ وتحت أي مظلة تُصاغ هذه البدائل؟ هذه الثغرات تُشير إلى رغبة في القفز على المحاسبة باسم الوحدة، وهو ما يُفرغ الخطاب من مضمونه، ويُعيد إنتاج نفس الإشكالات.
بين غزّة والتنظيم… من يحرّر من؟غزة، بما تحمله من صلابة في المواجهة وعمق في المأساة، أصبحت – دون إرادتها – مادة خام للتوظيف السياسي والأيديولوجي. فبينما يخوض أبناؤها معركة وجودية تحت القصف والدمار، يلتقط منظّرو الإسلام السياسي هذه اللحظة لصياغة أوراق استراتيجية ناعمة، تُعيد تموضعهم في المشهد من بوابة المقاومة. هنا، تتحوّل غزة من قضية شعب يناضل من أجل البقاء والحرية، إلى أداة رمزية تُستخدم في تلميع مشاريع سياسية وتنظيمية فقدت بريقها منذ زمن.
اللافت أن الخطاب الذي تقدّمه مراكز كـ"حريات" لا يكتفي بالتضامن مع غزة، بل يتجاوز ذلك إلى استثمار الحدث لصالح إحياء مشروع الخلافة بصيغته المحدثة. فيُعاد تغليف الطموح الإسلاموي بخطاب عن التحرر والعدالة والكرامة، وكأن غزة ليست كيانًا سياسيًا واجتماعيًا قائمًا بذاته، بل بوابة عبور لمشروع تنظيمي عالمي أوسع. هكذا تتحوّل دماء الغزيين إلى رأس مال رمزي يُصرف في بورصة الشرعية الأيديولوجية للتنظيمات.
ما تحققه غزة من تعاطف جماهيري عربي وإسلامي هائل لا يعني تلقائيًا منح تفويض سياسي لحركات وتنظيمات تتحدث باسمها. ثمة فارق بين دعم نضال الشعب الفلسطيني من موقع إنساني ووطني، وبين اختطاف معاناته لتمرير مشروع سياسي يتجاوز حدود الدولة الوطنية، ويستدعي تاريخًا مؤدلجًا من الانقلابات والتغوّل التنظيمي. ومع ذلك، تحاول بعض مراكز الإسلام السياسي تجاوز هذا الفارق، واختزال المشهد في سردية "نحن وهم"، حيث تقف المقاومة مع التنظيم، ويُختزل الشعب في فصيل.
السؤال الذي يطرحه هذا التوظيف المنهجي للمأساة هو: من يحرر من؟ هل التنظيم هو من يحمل غزة على كتفيه، أم أن غزة هي من تعيد إليه الحياة بعد موت سريري؟ في هذا المشهد المقلوب، تتحوّل غزة من رمز مقاومة حقيقي إلى جسد يُستعمل مرة أخرى لإعادة بعث سرديات فكرية وتنظيمية قديمة، لا تجد لنفسها مكانًا إلا في لحظات الدم والدمار. وهنا يكمن الخطر: حين تصبح المقاومة منصة عرض لأجندات أيديولوجية تتجاوز حدودها وسياقاتها الوطنية.
خلاصة.. لحظة كاشفة لا لحظة توظيفورقة مركز "حريات" ليست ورقة استراتيجية بريئة، بل هي وثيقة أيديولوجية تسعى إلى تمرير مشروع سياسي تحت غطاء دعم المقاومة. إنها لا تقرأ التحولات بعيون الشعوب، بل تحاول توظيف دماء الشعوب لاستعادة شرعية تيار انتهت صلاحيته في أكثر من ساحة. إن لحظة طوفان الأقصى هي لحظة كشف – كما قالت الورقة – لكن ما كُشف هنا هو محاولة اختطاف هذا الزخم الشعبي لمصلحة مشروع قديم بثياب جديدة… مشروع لا يريد تحرير فلسطين بقدر ما يريد ركوب الموجة لبناء الخلافة.