تونس بعد التصعيد بين السلطة ومعارضيها.. تغيير النظام أم السياسات؟
تاريخ النشر: 21st, May 2024 GMT
شهدت الايام والاسابيع القليلة الماضية تصعيدا غير مسبوق بين السلطات ومعارضيها بمختلف الوانهم ومواقعهم بمن فيهم عدد من السياسيين والنقابيين الذين ساندوا بقوة قرارات 25 يوليو 2021 التي أدت إلى ايقاف العمل بدستور 2014 و حل برلمان 2019 والحكومة المنبثقة عنه وعددا من الهيئات العليا المنتخبة بينها هيئة المجلس الأعلى للقضاء.
وسجل المراقبون خلال الأسبوع المنقضي ترفيع نسق التحركات المساندة للسلطات وتظاهرات المعارضين له.
واحتدت التجاذبات بين جبهتين:
الأولى تعلن دعم رئاسة الجمهورية والحكومة وتدعم تصريحات الرئيس التونسي قيس سعيد التي انتقد فيها بقوة ما وصفه ب"التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية للبلاد" وكلف وزارة الخارجية بابلاغ العواصم الغربية احتجاجا على بلاغات أصدرتها تطالب بالافراج عن الموقوفين في قضايا ذات صبغة سياسية بينهم عدد من المحامين والاعلاميين..
وفي هذا السياق انتظم في الشارع الرئيسي العاصمة تجمع شارك فيه عشرات مساندة للرئيس سعيد ورفعوا شعارات سياسية عديدة ضد المعارضين.
ـ الجبهة الثانية تضم معارضين من كتلتبن:
ـ الكتلة الأولى تضم شخصيات سياسية وأحزابا من المعارضة احيل بعض زعمائها والمقربين منها على المحاكم ضمن قضايا "التآمر على امن الدولة" و"قطب الإرهاب".. ويتصدر هذه الكتلة رئيس البرلمان السابق راشد الغنوشي ورئيس الحكومة الأسبق على العريض وزعماء الأحزاب والمجموعات السياسية المنخرطة في حراك "جبهة الخلاص الوطني" بزعامة المحامي اليساري العروبي أحمد نجيب الشابي ورفاقه المعتقلين مثل الأكاديمي والحقوقي اليساري جوهر بن مبارك َوزعيم الحزب الجمهوري عصام الشابي والوزير السابق في عهد الباجي قائد السبسي رضا بالحاج والقيادي السابق في حزب النهضة عبد الحميد الجلاصي والأمين العام السابق لحزب التيار الديمقراطي غازي الشواشي والخبير الاقتصادي المستقل خيام التركي..
وقد صعدت هذه الكتلة حركاتها في الشوارع وخلال التظاهرات التي نظمت أمام المحاكم أو في مقرات المحامين..
ـ الكتلة الثانية، برزت بمناسبة تظاهرة نظمت لإحياء الذكرى 47 لتأسيس رابطة حقوق الإنسان بمشاركة حقوقيبن وسياسيين مستقلين و قيادات منظمات الصحفيين والمحامين والقضاة وهيئات حقوقية ونقابية بينها الاتحاد العام التونسي للشغل ورابطة الدفاع عن حقوق الإنسان.
وتميزت هذه التظاهرة تصعيد، هو الأول من نوعه منذ اعوام، ضد السلطات وبالاعلان عن "مبادرة سياسية وطنية طموحة لتوحيد المعارضين والحقوقيين "تبدأ بالدعوة إلى تنظيم "مؤتمر وطني للحقوق والحريات".
وتذكر هذه المبادرة بخطوات مماثلة لمحاولة توحيد المعارضين والحقوقيين ومنظمات المجتمع المدني.
ولعل من أبرز العناصر المهمة في المبادرة الجديدة أنها ساندت بقوة التحركات التي قام بها آلاف المحامين والإعلاميين والنشطاء قبل أيام احتجاجا على اعتقال مجموعة جديدة من المحامين والإعلاميين بينهم النجمة التلفزية والمعلقة السياسية سنية الدهماني والمحاميين المهدي زقروبة ونضال الصالحي والإعلاميين مراد الزغيدي وبرهان بسيس ومحمد بوغلاب وشذى الحاج مبارك..
وخلافا لخطاب "الدعوة إلى التهدئة" الذي برز مرارا على لسان نقيب المحامين المحامين حاتم المزيو وأعضاء من مكتب هيئة المحامين، فان قيادات منظمات المحامين الشبان والقضاة والصحفيين و حقوق الإنسان صعدت اللهجة سياسيا و قانونيا.
وذهب بعض هذه القيادات حد رفع قضايا عدلية وشكايات رسمية محورها "ملفات شبهات تعذيب للمحامي المهدي زقروبة" واتهامات للسلطات" "بعدم احترام الإجراءات القانونية" في ملفات الموقوفين الجدد والقدامى في قضايا ذات صبغة سياسية، بما في ذلك بالنسبة لعشرات" الاعلاميين" الذين يفترض أن يحاكموا وفق المرسومين 115 و 116 الذين بعاقبان من تثبت ادانته بخطية مالية وليس بالسجن.
ويلتقي قادة النقابات والمعارضة والمنظمات الحقوقية حول المطالبة بعدم اعتماد المرسوم 54 المثير للجدل وخاصة الفصل 24 منه الذي يفرض عقوبات بالسجن وخطايا مالية كبيرة على كل المواطنين والإعلاميين في قضايا "الجرائم الإلكترونية و الاعلامية"... خاصة إذا كانت التهم تشمل "الثلب" و"نشر الاخبار الزائفة" و"هضم حق موظف عمومي" والنيل من رموز الدولة... الخ
لكن السؤال الأهم الذي يفرض نفسه اليوم بعد أن استفحلت الأزمة الاقتصادية وتعمقت الهوة بين السلطة والمعارضة والنقابات والمجتمع المدني والهيئات الحقوقية عشية انطلاق الاستعدادات للانتخابات الرئاسية المقررة للخريف القادم.. إلى أين تسير البلاد؟
هل يكون "التصعيد المتبادل" ورقة تستخدمها عدة اطراف لتنويع "ضغوطاتها" بهدف تحسين "شروط التفاوض"؟ أم هو مجرد "زوبعة في فنجان" سرعان ما تهدأ بسبب الانقسامات الداخلية في صلب أغلب النقابات والأحزاب والأطراف السياسية؟
وهل ستكون التحضيرات للانتخابات الرئاسية القادمة فرصة "للتهدئة "أم للتصعيد وتفجير مزيد من التناقضات"؟ وهل ستستفيد المعارضة وحلفاؤها من الحملات الإعلامية والضغوطات الأجنبية على الحكومة وقصر قرطاج أم يحصل العكس؟
وإذا سلمنا أن السلطات في تونس رفضت منذ "منعرج يوليو 2021" الرضوخ لضغوطات الاتحاد الأوربي وواشنطن و مجموعة السبعة الكبار G7ومؤسسات أممية وحقوقية دولية فهل ستقبلها هذه المرة مع اقتراب أجل تنظيم الانتخابات الرئاسية؟
التقييمات متباين وتقديرات الموقف غير مستقرة ولا توحي بتبلور "توافقات جديدة "..
لكن الملفت للانتباه هو أن الجديد في "الخطاب السياسي والإعلامي"، الذي أفرزته تحركات ممثلي السلطة والمعارضة مؤخرا، هو المناقشة علنا لـ "سيناريوهات التغيير السياسي" في البلاد.. في المقابل برزت تبابنات بين قوتين: الأولى تدعو إلى "تغيير النظام" والثانية إلى" تغيير السياسات" مع "تغيير بعض الوزراء وبعض المسؤولين عن الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الشاملة التي تمر بها البلاد".
هذه التباينات تعيد إلى السطح حوارات وصراعات مماثلة برزت في عهد الرئيسين السابقين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي وبعد ثورة 2011 ثم بعد" القرارات الاستثنائية"في 21 يوليو 2021.
كيف سيتغير المشهد السياسي والاجتماعي في ظل هذه التطورات؟
البعض يراهن مجددا على "تدخل حاسم من قبل القوى الصلبة الاقتصادية والأمنية والعسكرية" الحريصة على "تجنب سيناريوهات تعميق المخاطر والأزمات" و دفع الأوضاع نحو الانهيار والشلل.
في المقابل يراهن آخرون على "الصبغة الاستراتيجية" للتحالف الذي برز مؤخرا بين قيادات النقابات والمعارضات بكل ألوانها داخل البلاد وخارجها، بعد اعترافها ببعض الغلطات التي وقعت فيها قبل انتفاضة 2011 وبعدها.. بما فيها" السقوط في فخ المعارك الهامشية الداخلية" و"الاصطفاف الأيديولوجي والعقائدي"...
لكن كل هذه التطورات قد تبقى ظرفية، إذا لم تحسم القضية الخلافية الأبرز بين كبار "صناع القرار" داخل مؤسسات الدولة والمعارضة، وبينها حول "الهدف المشترك" هل هو تغيير السياسات وبعض المسؤولين أم تغيير النظام؟
ثم لابد من إجابة واضحة عن سؤال آخر يفرض نفسه اليوم: هل يكون دعم جهود "التغيير السياسي" عبر الانخراط في العملية الانتخابية الجديدة أم عبر مقاطعتها ومحاولة "تحريك الشارع" والنقابات والمنظمات والأحزاب و"الورقة الدولية"؟
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة مقابلات سياسة دولية التونسي المعارضة تونس معارضة تحديات سياسة المزيد في سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
حين يتكلم الأسد عن المقاومة
الشيزوفرانيا أو الانفصال عن الواقع، ظاهرة منتشرة بين زعماء الدول الاستبدادية بشكل ملحوظ، حيث ينشأ لدى الزعيم إعلاء وهمي للذات، يتخيل من خلاله أنه ما يشبه المسيا / المُخلص في التراث الديني اليهودي، وهو بذلك يرى في أقواله وسلوكياته عبارة عن مثال أو قدوة، وفيهما مناط الحقيقة والخير العام.
في عالمنا العربي اليوم ثلاثة شواهد فجة على ذلك، أولا من الرئيس التونسي قيس سعيد حين يتحدث كثيرا عن الديمقراطية ودور المؤسسات في الدولة، ثن نراه يُجهض الديمقراطية ويخنق الحريات وعمل المؤسسات.
ونشاهد الحالة الثانية مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في حالة الحرب الإسرائيلية على غزة، فيتحدث عن الدفاع عن الفلسطينيين وحقوقهم ودعمهم، في وقت يتواطأ مع الإسرائيليين علنا دون أدنى اعتبار لقضية العرب الأولى.
أما الحالة الثالثة، فهي حالة رئيس النظام السوري بشار الأسد الذي لا يفتأ دائما في التفلسف السياسي، حتى على الزعماء العرب، واستخدام مفردات وتوصيفات لا تتطابق إطلاقا مع سلوكيات النظام.
النظام السوري وقف منذ السابع من أكتوبر العام الماضي موقف المتفرج السلبي، وكأن القضية ليست قضيته ولا معني بها، وبقي هذا الحياد السلبي مستمرا حتى في عز المقتلة الإسرائيلية لقادة وجمهور "حزب الله" اللبناني.ليست حالة الشيزوفرانيا السياسية حالة ملازمة دائما للمستبدين، فقد مر معنا مستبدون واقعيون جدا، يدركون حقيقة الواقع وموازين القوى، بما ينعكس على خطابهم وسلوكهم المُعبر عن هذا الواقع.
في حالتنا السورية، أُذكر بالرئيس الراحل حافظ الأسد الذي كان يتمتع بواقعية سياسية شديدة، انعكست في أقواله وسلوكياته، فلم نجد في خطاباته كلها أي نوع من الميتافيزيقا السياسية، حتى مع إسرائيل كان يستخدم عبارات سياسية بامتياز خالية من أي شحنات أيديولوجية، باستثناء التذكير بالقومية العربية وقضية العرب الأولى، وهذا تذكير سياسي وليس أيديولوجي.
أما حالات الشيزوفرانيا عند الأسد الأب، فكانت تظهر فقط في المجال الاجتماعي حصرا، وليس في المجال السياسي، لأن الهدف دغدغة مشاعر الناس البسطاء، في نوع من الشعبوية التي تلامس أحاسيس الناس.
الأسد.. أمثلة تاريخية
مع بشار الأسد اختلف الأمر، حيث إننا هنا أمام حالة انفصال شديدة جدا عن الواقع، ظهرت منذ تسلمه السلطة في سوريا، حين قال في إحدى خطاباته أنه سيحول سوريا إلى يابان المنطقة، ثم ظهر هذا الانفصال الحاد في أول خطاب له بعد الثورة السورية بأسبوعين، حين ذكر كلمة المؤامرة 13 مرة، ثم أخذ هذا الانفصال يزداد قوة وحدة خلال الثورة ـ لا يتسع المجال لذكرها ـ.
لكن لا مانع من ذكر أمثلة سريعة: تحدث أكثر من مرة عن الديمقراطية السورية وظاهرة التعددية السياسية والحزبية في سوريا، وتحدث مرة أن سوريا لا توجد فيها معتقلات، ثم بلغت انفصاله عن الواقع إلى درجة قال في مقابلة مع قناة "سكاي نيوز" العربية في أغسطس العام الماضي، أن والده الرئيس حافظ الأسد لم يكن له أي دور في وصوله إلى منصب الرئاسة.
بعد التطبيع العربي مع النظام السوري، وبدء الأسد حضور القمم العربية، وبدأ يقدم نظريات فلسفية للقادة الحاضرين عن العروبة، ففي القمة العربية في جدة العام الماضي، قال الأسد "أما سوريا فماضيها وحاضرها ومستقبلها هو العروبة.. لكنها عروبة الانتماء لا عروبة الأحضان.. فالأحضان عابرة أما الانتماء فدائم.. وربما ينتقل الإنسان من حضن لآخر لسبب ما.. لكنه لا يغير انتماءه أما من يغيره فهو من دون انتماء من الأساس ومن يقع في القلب لا يقبع في حضن وسوريا قلب العروبة وفي قلبها".
ومنذ هذه القمة، خلا خطاب الأسد من الحديث عن المؤامرة الكونية التي استهدفت سوريا، وركز على أهمية التوحد العربي ـ العربي، وهذا أمر مفهوم لنظام يسعى إلى العودة للحاضنة العربية.
قمة الرياض
في القمة العربية الأخيرة بالرياض، بلغ الانفصام لدى الأسد مبلغا كبيرا، ففي ظل المقتلة الإسرائيلية لسكان غزة وأهل الجنوب اللبناني، وفي ظل صمت سوري على المستوى السياسي والعسكري، لم يتوان الأسد في استعادة سردية "المقاومة والممانعة" والعمل العربي المشترك لمواجهة إسرائيل، فقال إن "الأولوية حاليا هي لإيقاف المجازر والإبادة وإيقاف التطهير العرقي الذي تقوم به إسرائيل.".
في ظل القوة والتفوق الإسرائيلي العسكري، والضعف العسكري الشديد للنظام السوري، يرى الأسد ويؤمن أن ما يقوم به النظام في هذا الظرف التاريخي هو عمل مقاوم فعلا، بل قد يكون أكثر تقدما من باقي الدول العربية، فمن خلال أرضه تحاول إيران تمرير السلاح إلى "حزب الله" في لبنان، وأن بلده يتلقى الهجمات الإسرائيلية بشكل متكرر ودائم.وعلى ما في هذا الكلام من دعوة فضفاضة لا تحمل أية قيمة أخلاقية وسياسية، إلا أنها تٌعبر عن واقع العجز السوري دون أن يقولها الأسد جهارة، فبخلاف خطاباته قبل الثورة التي كان يتحدث فيها عن الدور السوري في دعم القضية الفلسطينية، تحدث هذه المرة عن عمل عربي مشترك، لأنه لا يستطيع الحديث عن دور سوري، هو غائب تماما منذ أربعة عشر عاما.
بل الأدهى، أن النظام السوري وقف منذ السابع من أكتوبر العام الماضي موقف المتفرج السلبي، وكأن القضية ليست قضيته ولا معني بها، وبقي هذا الحياد السلبي مستمرا حتى في عز المقتلة الإسرائيلية لقادة وجمهور "حزب الله" اللبناني.
ومن شدة سوريالية خطاب الأسد، أنه لم يكتف بكل ذلك، بل انتقد غياب خطة تنفيذية للدول العربية من أجل وقف الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان.
ليس الفصام السياسي إلا عملية جعل الإمكان الواقعي حالة مطلقة ومثالية، بمعنى أنه في ظل القوة والتفوق الإسرائيلي العسكري، والضعف العسكري الشديد للنظام السوري، يرى الأسد ويؤمن أن ما يقوم به النظام في هذا الظرف التاريخي هو عمل مقاوم فعلا، بل قد يكون أكثر تقدما من باقي الدول العربية، فمن خلال أرضه تحاول إيران تمرير السلاح إلى "حزب الله" في لبنان، وأن بلده يتلقى الهجمات الإسرائيلية بشكل متكرر ودائم.
أما مسألة الرد العسكري على إسرائيل، أو دعم المقاومتين الفلسطينية واللبنانية بالسلاح، أو السماح للشعب السوري بالتظاهر دعما لغزة ولبنان، أو تقديم موقف سياسي حاد، فكل ذلك بالنسبة لدمشق غير مهم، لا لأنه لن يغير من الواقع شيئا فحسب، بل لأن مثل هذه الخطوة إذا ما تمت فإنها قد تكلفه نظامه بالكامل.. مع رداءة الواقع تتعاظم الأيديولوجية وتتفاقم الأوهام.