لبنان24 داخل كفرحمام وكفرشوبا وشبعا.. مسرح آخر لمجازر إسرائيل
تاريخ النشر: 21st, May 2024 GMT
رويدًا رويدًا تختفي الحياة داخل الجنوب كلما اقتربت من الحدود.. دمار، خسائر، نزوح، وقرى باتت تسكنها الأشباح وتعبث بها أصوات طائرات الإستطلاع الإسرائيلية التي تتفقد بين الفينة والأخرى من سيخرج من بين الدمار ويطلق صاروخًا من هنا أو طائرة مسيّرة من هناك.. وحدها الشوارع وآثار العنف والجريمة بقت بارزة بين البيوت المدمرة التي عبثت بها الصواريخ وحوّلتها إلى مناطق منكوبة تفتقد لأهلها الذين نزحوا وابتعدوا عنها، منتظرين أن تهدأ جبهة غزة لتنسحب على جبهتم الجنوبية.
حتى الآن لا تزال الأرقام ترتفع من وقت إلى آخر، مشكّلةً صدمة لناحية حجم الدمار والخسائر من جهة، وحجم النزوح وانعدام الحياة من جهة أخرى داخل البلدات الحدودية الجنوبية. فعلى سبيل المثال، فاقم النزوح الـ75 في المئة في بلدات بنت جبيل، الأمر نفسه بالنسبة إلى مرجعيون، حيث فاقمت النسبة الـ80%، بمعنى أن ما يقارب 28 قرية نزح منها أهلها نحو قرى البقاع، والجبل، كذلك إلى بيروت.
ومن شبعا إلى كفرحمام فكفرشوبا.. الحال واحدة.. دمار، ورعب، ورائحة الحرب في كل مكان.. الحياة تنتعش في حيّ وتنعدم في آخر.. لا أثر لحياة اقتصادية فعّالة، ولا حتى اجتماعية.. المدارس أغلقت بالكامل، المؤسسات الحكومية وغير الحكومية معطّلة.. وحدها أصوات الصواريخ تنشط وتتفاعل بشكل يومي.
كفرشوبا التي ترسم حدودها بالتضحيات، لا تتوانى عن تقديم الشهداء، وسط موجة دمار كبيرة، أدت إلى تدمير غالبية المنازل، وعطّلت كافة البنى التحتية.. المشهد بين الاحياء مرعب، فقط عدد قليل جدًا من العائلات عاد بموجة نزوح عكسية، وبعضهم عاود المغادرة بعد سلسلة من الغارات العنيفة التي هزّت البلدة، لتقاوم البلدة رفقة مثلث الصمود، أي جارتها شبعا، وبلدات العرقوب الهمجية الإسرائيلية.
كلّ هذه البلدات طالها الدمار، الذي لم يقتصر على المنازل فقط، إنّما أعدم المواسم الزراعية، وقضى على الثروة الحرجية والحيوانية، التي تحمّل المتضررون خسائرها بالجملة، خاصة أصحاب المشاريع الزراعية الذين دفعوا الثمن الأكبر بعد تدمير أراضيهم أو خيمهم الزراعية التي كلّفت الآلاف الدولارات.
ومن داخل بلدة شبعا البلدة الأهدأ إلى حدّ الآن بين البلدات المجاورة في الجنوب، جال "لبنان24" على الأحياء والمنازل التي تعرّضت لقصف متواصل من قبل العدو الإسرائيلي، إذ إنّ 5 بيوت منذ بداية الحرب تم استهدافها بشكل مباشر، حيث دُمّرت بالكامل.
هذا العدوان دفع ما يقارب الـ30 في المئة من أهالي شبعا إلى مغادرة البلدة حسب رئيس بلدية شبعا ورئيس اتحاد بلديات العرقوب محمد صعب، الذي قال لـ"لبنان24" أن معظم هؤلاء اتجهوا إما إلى بيروت أو إلى قرى البقاع.
وعلى الرغم من الطيران الحربي الإسرائيلي الذي يخرق أجواء البلدة بشكل متواصل، أكّد صعب بأن المحال التجارية وأصحابها أظهروا مقاومتهم، وإصرارهم على استكمال أعمالهم التجارية في خضم حالة الحرب التي تعيشها البلدة، وهذا ما رصده "لبنان24"، إذ إنّ المحال التجارية وعلى اختلافها فتحت أبوابها أمام من تبقى من الأهالي في البلدة، ورفضوا النزوح منها. أما بالنسبة إلى المدارس فيؤكّد صعب أن هذا العام كان من أصعب الأعوام التربوية، حيث أن عملية التعلم استكملت عبر "الأونلاين."
ومن شبعا إلى كفرحمام الوضع ليس بالافضل أبدًا، نسبة النزوح مؤخرًا سجّلت أرقامًا مخيفة قاربت الـ95 المئة.. فكفرحمام التي كانت تعجّ بالحياة يومًا ما، بات شوارعها اليوم فارغة، وندوب الحرب هي الوحيدة التي بقيت لتؤكّد الإجرام الإسرائيلي، وهذا الأمر نفسه يطبّق على كفرشوبا التي شهدت أعلى معدل من الاستهدافات، حيث دمّر إلى حدّ الآن ما يقارب 18 منزلا بشكل كامل، هذا عدا عن انعدام البنى التحتية، وسط استهداف مباشر وعلني من قبل العدو لإعدام أشكال الحياة في البلدة، خاصة على مستوى الموسم الزراعي، إذ على سبيل المثال فإن 70 في المئة من أرض الهبارية الملاصقة لشبعا، بالاضافة إلى أراضي كفرشوبا وغيرها من المدن القريبة من المثلث الفلسطيني اللبناني السوري هي مزروعة بالزيتون والكرز والتين والصنوبر وغيرها من الزراعات الموسمية؛ كلّها تم القضاء عليها، ولم يستفد أحد من أي من هذه المواسم.
كل ذلك، أجبر السكان على النزوح، باعتبار العدو أن كفرحمام وقرى العرقوب وكفرشوبا تعتبر من أهم البلدات التي تحتضن حركات المقاومة سواء اللبنانية أو الفلسطينية، وتاريخ هذه البلدات يشهد على ذلك. المصدر: خاص "لبنان 24"
المصدر: لبنان ٢٤
إقرأ أيضاً:
أن تكون نازحا!
مما يزيد في صدق كتابة الإنسان وجعل ما يكتبه يلامس قلوب القراء، معايشته تفاصيل القضية التي يكتب عنها، سواء فرحا أو حزنا، وإلا سيقل تأثير الكاتب بالقرّاء، وسيفتقدون دسم الدهشة في كلماته.
حاولتُ مرارا الكتابة عن تجربة النزوح والنازحين، لم يكن الأمر سهلا، ولم تسعفني الكلمات؛ لأني لم أكن أحد أعضائها بالمعنى الدقيق للكلمة بعد، صحيح أنني كنتُ مسئولا عن مخيم أمير للنازحين في محافظة رفح جنوب قطاع غزة، لكن لم أعش بخيمة، على اعتبار أن محافظتي لم يصلها إشعار بالإخلاء بعد، وهنا يمكن الاستعانة بالمثل الشعبي القائل "الشوف مش زي الخراف" يعني "من يرى ليس كمن يسمع".
أما منذ شهر أيار/ مايو 2024 إلى الآن -وإلى أجلٍ غير مسمى- فقد دخلتُ نادي النازحين بما فيه من ألمٍ ومعاناة، فالآن أكتبُ ودمعُ العينِ ينسكبُ عن تجربةِ النزوح.
فالنزوحُ أيها السادة ليست كلمة تُقال، أو فعلا يمارسه الإنسان وهو في كامل الفرح والسرور، بل يمارسه وهو في كامل القهر والحرمان، وهو أن يخرج من بيته بعد وصول إخطار له من طائرات الاحتلال، أو وصول صواريخ الاحتلال لتجبره دونما تفكير على إخلاء بيته أو منطقة سكناه ليصبح هائما على وجهه يبحث عن مأوى له ولعائلته، وهنا يُصاب الإنسان بالخوفِ والقهر حين يشعر بأن عليه إخلاء بيته الذي بناه على مدار سنوات، وله في كل ركنٍ درايةٌ ورواية.
لقد كنت مسئولا عن مخيم أمير للنازحين في محافظة رفح جنوب قطاع غزة، والذي يحتوي على 100 خيمة بعدد أفراد يصل إلى 800 شخص، ولكل فرد احتياجات حسب سنه وجنسه.
كنت أتابع أمورهم باهتمام وتلبية ما يمكن من احتياجاتهم من خلال التواصل مع المؤسسات المانحة والداعمة، كما كنا ننفذ أنشطة ترفيهية خاصة بالأطفال وندوات توعوية للنساء، وفتحنا مركزا لتحفيظ القرآن كان مقره في الطابق الثاني من بيتي حتى نشعرهم بالأمان.
كنت أرى في أعينهم الأسى وأستمع لقصصهم فلكل إنسان قصة، منهم من كان يتجهز للسكن في شقته الجديدة الجاهزة لكن الحرب لم تمهله، ومنهم من لم يمر على سكنه في شقته سوى أيام أو أشهر قليلة، ومنهم من لم ينته من تجهيز بيته، ومنهم من لم يسدد أقساط بيته الجديد بعد، ولكل نازح رواية لا تكفي لسردها ألف ليلة وليلة.
وبالعودة لعنوان المقال، فـ"أن تكون نازحا!"، يعني:
- أن تبدأ رحلة البحث عن مقومات الحياة من مأكل ومشرب وملبس منذ طلوع الشمس حتى بعد غروبها، وأبسط مثال قد تمشي مسافة نصف كيلومتر حتى توفر عبوة ماء.
- أن تقضي وقتا طويلا في البحث عن الحطب والكرتون لمعاونة زوجتك في صناعة الخبز لأطفالك في ظل انعدام الغاز.
- أن تبقى لمدة أسبوعين وأكثر دون استحمام، وملابسك دون تبديل؛ لأنك لم تتمكن من إحضار ملابسك كاملة حين غادرت منزلك..
- أن قضاء حاجتك يسبب لك حرجا، فكل مخيم فيه حمام عام، ودخولك أنت أو أحد أفراد أسرتك للحمام يشعركم بالحرج خاصة النساء، وحتى الحمامات التي تكون داخل الخيمة تخضع لقانون الدور والترتيب.
- إن معاناتك تتفاقم بوجود أطفال ومرضى وكبار السن، فجميعهم يحتاجون لطعام خاص ورعاية خاصة وهدوء وراحة، وهذه الأمور يتعذر توفرها دوما.
- ألا تشعر بالأيام وهي تمر سريعا، فما أن يبدأ الأسبوع حتى ينتهي، وربما هي نعمة.
- أن تهتم بمتابعة الأخبار لتعرف أين وصلت الأمور، ثم تصاب بخيبة أمل حين لا تأتي الأخبار بما يسر القلب.
- أن تصبح خبيرا بكل أنواع الطقوس المجتمعية التي كانت في بلدك وأنت لا تعرفها.
- أن تفرق بين المهم والأهم، والضروري العاجل والضروري غير العاجل.
- أن تدرك أن قيمة المرء فيما يحسنه.
- أن تتأكد بأنك قد تصبح الشهيد التالي.
لكن رغم المصائب في غزة، وخاصة في مخيمات النزوح، رأينا الأمل والعزة والفخر في نفوس الناس فمنهم من تزوج في الخيمة، ومن ناقش رسالة الماجستير في الخيمة، ومن وضعت مولودها في الخيمة، وحفظ القرآن في الخيمة، ومنهن من تَكوّن في رحمها جنينٌ وهي في الخيمة، ومنهم من أكمل فصله الأخير في الجامعة للحصول على بكالوريوس تربية إسلامية وهو في خيمة مثل كاتب هذا المقال.
إجمالا، ما سبق هو غيض من فيض مما نعانيه في مخيمات النزوح، لكن يبقى أملنا بالله قويا ليرزقنا نصرا مؤزرا قريبا عاجلا إن شاء الله، رغم عواصف الشتاء.
وللحديث بقية مع الجرح الثالث من جروح النزوح.