شعبان ناجى يكتب: عثرات «الحكيم» و«أنيس» ومصطفى محمود.. فى الأرشيف السرى لغالى شكرى
تاريخ النشر: 2nd, August 2023 GMT
غالى شكرى (1935- 1998م) واحد من أهم النقاد والمثقفين المصريين الذين برزوا فى النصف الثانى من القرن العشرين، فهو عضو فاعل فى حركة الثقافة المعاصرة الداعية إلى إحياء مشروع النهضة، ورغم ذلك لم يأخذ حقه من الانتشار وذيوع الصيت بالشكل اللائق به وبمكانته العلمية والثقافية، ذلك لأنه كان صوتًا معارضًا يحمل فى الوقت عينه موضوعية ونزاهة فكرية متحررة، قلما وجدناها بين أبناء جيله من الأدباء والمفكرين، لذا كان إبعاده القسرى والمتعمد من قبل المؤسسات والتجمعات الثقافية المختلفة، فضلا عن رفضه الواضح من قبل مؤسسة الرئاسة فى ذلك الوقت.
أخبار متعلقة
زي النهارده.. وفاة الكاتب أنيس منصور في 21 أكتوبر 2011
حرم أنيس منصور!
شعبان ناجى
لكنّ غالى شكرى لم يداهن ولم يهادن، ولم يتراجع، وإنما راح- على الدرب- يواصل ضرباته بقوة وسكينة، وذلك من خلال كتبه الكثيرة المثيرة والمستفزة والمشجعة على الالتحام مع أفكارها وأطروحاتها المتشابكة الشائكة، فنحن عندما نتابع بعضًا من كتبه مثل «النهضة والسقوط» و«تكفير العقل وعقل التفكير» و«الماركسية والأدب» و«مذكرات ثقافة تحتضر»، و«العلمانية الملعونة»، وغيرها.. سوف ندرك على الفور مدى اهتمامه الطاغى بالمشروع التنويرى، وحرصه الكامل على أن يأخذ مساره حتى وإن أغضب ذلك السلطة القائمة (وكثيرا ما غضبت عليه السلطة القائمة) أو أغضب أقرب المقربين إليه (وكثيرا ما غضب عليه المقربون أيضا)، ولكن رغم هذا كله، ظل الجميع يحترمونه، ويقدرون فكره ونواياه، ويتابعون- فى شغف- كل ما يكتبه، ويقرأونه بحب وإعجاب شديدين.
غلاف الكتاب
وكتابه الذى طاب لنا أن نلتحم معه فى هذه المساحة، والذى يحمل عنوان «من الأرشيف السرى للثقافة المصرية»، الصادر فى طبعته الأولى عام 1974م، ثم أعيد فى طبعات جديدة عن مكتبة الأسرة فى الأعوام القريبة الماضية، يؤكد على النهج الثابت الذى ينتهجه شكرى فى مواجهة ما يراه ضارا بالعقل الثقافى بصفة خاصة، وبالعقل الجمعى المصرى والعربى بصفة عامة، لذا نراه يهرول نحو هذا الضرر فى محاولة منه لأن يجتثه من جذوره أحيانا، أو- على أقل تقدير- فضح سياساته الخبيثة الخسيسة، وفضح من يسعى فى تمريرها وترويجها، وهذا ما طالعناه بالفعل فى هذا الكتاب الصغير الخطير.
ونحن نجد غالى شكرى على سجيته تمامًا وهو يسرد وقائع الفساد فى أوساطنا الثقافية وعلاقتها بالأوساط السياسية، كما نجده يخرج ما فى الأرشيف من دون تدخل منه على الإطلاق، ولكننا فى حقيقة الأمر لم نره يخرج كل ما فى الأرشيف، أو ربما شعرنا نحن بهذا الشعور، فعنوان كتابه يدل على ذلك، فقد قال لنا «من الأرشيف».. ولم يقل «الأرشيف»، وهو ما يشير إلى أن ثمة وقائع كثيرة فاحصة فاضحة لم يتح لغالى شكرى أن يخرجها إلى جموع القراء والمثقفين، ربما لظروف خاصة به هو أو لظروف أخرى قاهرة لا نعلم عنها شيئا. ولكننا نرى أن ما قدمه شكرى فى هذا الكتاب يكفى تمامًا، فهو الذى جرؤ على السؤال كما جرؤ سقراط، وهو الذى ضرب الجرس المربوط فى رقبة الأسد كما فعل جاليلى، وما علينا نحن إلا أن نكمل الطريق التى فتحها أمامنا واسعة معبدة، وأن نخمن المعنى الذى كان من المفترض أن يوضع فوق النقاط الخالية، ونحن نعترف أن ما ذكره غالى من وقائع خراب الوسط الثقافى لهو نقطة فى محيط الفساد العميق، كما نعترف فى الوقت نفسه أن الفساد فى مؤسساتنا الثقافية لا يزال حاضرا بعنف، وأن المثقفين الفاسدين لا يزالون قابضين على مقاليد الأمور داخل هذه المؤسسات التى تحتضر الآن.
وقد تعمد غالى شكرى أن تبدأ الوقائع من عند نقطة النهاية، أى فى العام 1972م، لأن هذه السنة أو حقبة السبعينيات عمومًا هى التى انتهى عندها الكتاب، فقد بدأ بكاتبنا الكبير توفيق الحكيم وانتهى به. وما بين البداية والنهاية طفحت على السطح أحداث ووقائع وفضائح متشابكة ليس لها بداية وليس لها نهاية، لكن لها عقدة ولها ذروة. وربما تكون البدايات والنهايات افتراضية فى مجملها العام، لكنّ كتاب غالى بدأ بداية افتراضية تقول إن فتاة مصرية صغيرة مغمورة تدعى «سناء حسن» تعيش فى إسرائيل قدمت إلى مصر لتحضير رسالة دكتوراه عن الثقافة المصرية. ومن الطبيعى جدا أن تتوجه إلى المثقفين الموجودين بالمؤسسات الثقافية والصحفية، لهذا فقد كانت على تواصل مع توفيق الحكيم، ويرجح أن ثمة تعارفا كان بينهما وكان هذا ظاهرا من التوصيات التى كان يلقيها الحكيم على غالى شكرى إزاء هذه الفتاة الصغيرة الحلوة المجهولة.
وبعد حديث طويل دار بين شكرى وهذه الشابة تأكد لدى شكرى أنها تدعو المثقفين إلى أن يدعموا الصلح مع الكيان الإسرائيلى، على اعتبار أنه الحل الأمثل فى هذه المرحلة المضطربة. لكن بعد أيام انكشفت المصيدة وانفضحت الأسماك التى تحاول أن تدفن رأسها فى الطين، فقد فوجئ المثقفون بمقال منشور لسناء حسن، مشفوع بصورتها على صفحة كاملة بالنيويورك تايمز، تتكلم فيه عن حتمية الصلح مع دولة إسرائيل الصديقة. وكان توفيق الحكيم ورفيق دربه حسين فوزى (صاحب السندباديات)، ومعهما ربما صالح جودت، من أشد المتحمسين لهذا الصلح، والداعين إليه والساعين له.
وربما أيضا كان إحسان عبد القدوس من المثقفين الذين استقبلوا سناء حسن فى أواخر عام 1973م، ومن المؤكد- وكما يشير شكرى- أن هناك تطابقًا بين مقالات إحسان التى نشرها فى أهرام الجمعة عام 1974م وبين معظم الأفكار التى وردت فى بيان «المقاومة من أجل الاعتراف بدولة إسرائيل».
لكنّ شخصية توفيق الحكيم كان بجوارها شخصية أدبية مناقضة لها تمامًا، وهى شخصية الشاعر صالح جودت، فالحكيم كان يؤيد سياسات جمال عبد الناصر، ورغم ذلك فقد كتب كتابا بعد موته يهاجمه فيه هجومًا ضاريًا، بينما كان صالح جودت يكره عبد الناصر ويرفض نظامه الحاكم، ورغم ذلك ألف أيضا كتابًا وسجله بصوته يعدد فيه بطولات ناصر، وقد حصل بمقتضاه على مبلغ 12 ألف جنيه، وبحسب وصف غالى فهو كتاب توثيقى لا أكثر، يستطيع أى فرد يمشى فى الشارع أن يكتبه، وقد صدر هذا الكتاب عن شركة كويتية لها توجهات مريبة، وكانت تتعاون معها الفنانة مديحة يسرى، التى كانت تمارس مثل هذه المشاريع التجارية بعد وفاة زوجها الفنان العبقرى محمد فوزى.
بعد ذلك عرّج بنا شكرى إلى المدرسة الصحفية التى أنشأها الشقيقان: على أمين ومصطفى أمين، والتى كان يطلق عليها «دار أخبار اليوم الأمريكية»، وذلك لأن الأخوين أمين كانا يستخدمان دارهما الصحفية فى كتابة التقارير السياسية ورفعها للحكومة الأمريكية، وكانا يغطيان على هذا النشاط المشبوه باختراعات كثيرة، كان من بينها ما يسمى «ليلة القدر» يوزعان فيها «الفتات» على فرد واحد تصيبه نفحة من نفحات هذه الليلة المباركة. ولكن عندما فاحت الرائحة هربا بالخارج فترة ليست بالقليلة، ثم عادا وكأن شيئا لم يحدث قط، كما أنهما- بعد ذلك- زيفا كتابا لسلامة موسى عن حرفة الصحافة كان قد قدمه للنشر فى سلسلة كتاب اليوم، لكن لم يسعفه القدر لكى يرى كتابه الشهيد ومات، بعدها صدر الكتاب ليفاجئ الناس بأن الكتاب مكتوب فى مدح على ومصطفى أمين، وهو التوجه المشابه لكل من «الشيخين» مصطفى محمود وأنيس منصور، فقد انبرى الأول فى مهاجمة ديانة اليهود من خلال كتابه «التوراة»، وذلك عقب الهزيمة من إسرائيل، ليلهى الناس عن الخيبة الثقيلة التى أوقعتهم فيها حكومة عبد الناصر، وليقدم فى الوقت نفسه عزاء له صبغة دينية يرضخ لها الناس الذين هم مؤمنون بفطرتهم، بينما راح الثانى يكتب عن كيفية تحضير الأرواح فى السلة الذى صار ساعتها وباءً يهدد عقول المصريين، ثم راح بعدها يؤلف القصص الخرافية، ومنها تلك القصة التى قال فيها إن هناك عفريتة تظهر فى شارع صلاح سالم، لدرجة أنه أقنع الناس من خلال ميكروفون الإذاعة أنها قصة حقيقية لا ريب فيها، لكنّ أحد الأفراد الشجعان اقتحم دار الإذاعة ذات يوم وفى يده مجلة قديمة، ثم دخل على القائمين على البرنامج وفتح أمامهم المجلة على قصة لكاتب لبنانى، هى نفسها القصة التى أذاعها أنيس منصور على الناس، وكانت فضيحة مدوية.
إذن، هذا هو الأرشيف السرى الذى قدمه لنا المثقف المستنير غالى شكرى، وكما قلنا إن هذا لم يكن كل الأرشيف، وإنما هو مجرد أوراق قليلة متناثرة من هذا الأرشيف المخيف، ولكن رغم قلة هذه الأوراق فقد فتحت أعيننا على الكثير والكثير من الحقائق التى لم نكن نتوقعها قط. ومن هنا فإن هذه الأوراق تستفزنا، وفى الوقت نفسه تمنحنا فرصة لأن نعيد صياغة أفكارنا ونرتب عقولنا من جديد، بل تستنفرنا لكى نعيد مسارات ذهنياتنا من البداية، كما أنها تقدم لنا النصح فى ألا نأمن كثيرا لفئة المثقفين.
شعبان ناجى ثقافةالمصدر: المصري اليوم
كلمات دلالية: زي النهاردة شكاوى المواطنين ثقافة زي النهاردة فى الوقت
إقرأ أيضاً:
محمود الهلالى يكتب: «صوت الناس» لسان حال البسطاء
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
منذ عام 2014، كانت تجربتي في جريدة البوابة بمثابة رحلة مهنية غنية بالإنجازات والتحديات، حيث تمكنت من تحقيق أهدافي المهنية والوصول إلى حلم عضوية نقابة الصحفيين بفضل الاجتهاد والعمل المستمر حيث إنى عملت فى العديد من الأقسام المختلفة والتى تتمثل فى التحقيقات والحوادث والمنوعات وغيرها .
«صوت الناس» أحد أبواب قسم المنوعات بالجريدة والأقرب إلى قلبى، حيث يحتوي على عدد من رسائل الجمهور والقراء،الذين يريدون إرسال صوتهم وشكاواهم للمسئولين بحثا عن فحواها، ومن هنا استمرت رحلتى فى هذا القسم الخدمى الذى كان سببا فى طرح وحل مشاكل البسطاء ومساعدتهم على البقاء من خلال الرسالة الصحفية التى تعمل على إنقاذ ما تبقى من الأمل واستعادة الحياة لهم من جديد لقلوب كادت تفارق الحياة بعدما خضعت للعديد من المشاكل، لكن الله اختص فى الأرض عبادا لقضاء حوائج الناس من خلال العلم والمعرفة وهي إحدي مهام وظيفتي .
لقد منحني هذا المكان الفرصة للتطور المهني والنمو الشخصي، حيث كنت دائمًا محاطًا بزملاء وأصدقاء يحملون طموحات عالية ويحققون نجاحات متميزة في عمر صغير، وهذا يساهم فى خلق روح التفوق والإبداع في المؤسسة.
ولا يمكنني أن أغفل دور الدكتور عبد الرحيم علي والدكتورة داليا عبد الرحيم وكل قادة المؤسسة الذين كانوا دائمًا جزءا في هذا الدعم الذى ترك أثرا في الحافز على التفوق في أداء مهمتنا وكانت هذه التجربة الغنية ولا تزال تشكل جزءًا من أجمل ذكرياتي في مهنة الصحافة.