كانت رحلتي إلى البندقية مغامرة لم تكن في الحسبان، فقد كنت أحمل في ذهني صورة مغلوطة عن هذه المدينة العائمة، معتقداً أنها لا تتجاوز كونها مجرد مجموعة من القنوات المائية والجسور القديمة التي تظهر في بطاقات المعايدة، ولكن، خلال خمسة أيام قضيتها مع زوجتي بين أحضان هذه المدينة الساحرة، اكتشفت أن البندقية هي فعلياً كتاب تاريخ مفتوح، ومهرجان فني دائم، وقائمة طعام لا تنتهي من المأكولات الإيطالية الشهية.


في اليوم الأول، استوقفني مشهد لم أكن أتخيله، كان هناك سباق للجندولات!، نعم، تلك القوارب الأنيقة التي ظننت أنها لا تُستخدم إلا للتجديف الهادئ، تتسابق في مهرجان مليء بالحيوية والتشجيع، كانت تلك أول لحظة أدركت فيها أن البندقية ليست مجرد بطاقة بريدية قديمة، بل هي قلب ينبض بالحياة والإثارة.
ومع كل يوم يمر، كُنا نكتشف جزيرة جديدة، ومعلماً جديداً، وقصة جديدة، من الجولات الساحرة في قنواتها المتعرجة إلى التجول في ساحة سان ماركو الشهيرة، التي يُخيّل لطيور الحمام فيها بأنها تملك المكان!، ولن أنسى زيارتنا لجزيرة مورانو، حيث يتقن الحرفيون فن صناعة الزجاج، وتحويل الرمال إلى تحف فنية رائعة وساحرة.
أما الطعام، فكان فصلاً آخر من فصول مغامرتنا، من معكرونة السباغيتي بصلصة البحر، إلى البيتزا التي طالما اعتقدت أنني قد تذوقت أفضل أنواعها، حتى جاءت البندقية لتثبت لي خطأي، ولم يكن يومنا يخلو من تجربة «الجيلاتو» الإيطالية، حيث كل لقمة منها كانت تروي حكاية من حكايات البندقية.
لكن، لعل أطرف ما في الأمر كان حين حاولت شراء قبعة من أحد الباعة المتجولين، معتقداً أن ثمنها يساوي بضعة يوروهات فقط، لأجد أنني قد تورطت في مفاوضات بلغة الإشارة حول قبعة يعادل ثمنها قطعة فنية صغيرة في متحف اللوفر!، لكني استسلمت للواقع واشتريت القبعة، كتذكار يحمل في طياته ذكرى من ذكريات البندقية العزيزة.
ومن بين الغرائب التي لفتت انتباهي، كانت زيارتنا لجزيرة بورانو ذات البيوت الملونة، التي تبدو وكأنها قطع من لوحة فنية طُليت بألوان زاهية لتضفي على الجزيرة سحراً خاصاً.
وفي اليوم الأخير، بينما كنا نستعد للمغادرة، وقفت لألقي نظرة أخيرة على المدينة من أعلى جسر ريالتو، وهناك شعرت بالامتنان لهذه المدينة، بجسورها وقنواتها وجزرها، لتذكرني بأن العالم مليء بالعجائب التي تنتظر من يكتشفها.
في النهاية، غادرنا البندقية بقلوب ملؤها الحب والذكريات الجميلة، وبالطبع، بقبعة أصبحت رمزاً لمغامرتنا الفريدة في مدينة أثبتت أنها كل شيء إلا أن تكون وجهة مملة.

أخبار ذات صلة إيزابيل أوبّير رئيسة لجنة تحكيم «البندقية» علي يوسف السعد يكتب: زيارة مختلفة لبرشلونة

المصدر: صحيفة الاتحاد

كلمات دلالية: علي يوسف السعد البندقية

إقرأ أيضاً:

عبد ربه يوسف غيشان / سعيد الصالحي

عبد ربه يوسف غيشان
سعيد الصالحي

في النصف الثاني من شهر آب اللهاب من العام 1996 كنت عائدا من الجامعة بعد أن أعلمني المسجل العام في دائرة القبول والتسجيل بأنني لن أتخرج مع زملائي لأنني قد حملت ساعات حبطرش تتطلب مني أن أخدم عاما آخرا في الجامعة للحصول على شهادة البكالوريس، غادرت الجامعة حزينا ونادما على طيشي وغبائي وخائفا من التقريع الذي سأسمعه بمجرد عودتي إلى المنزل، نزلت من باص الكوستر بعد أن شكرت السائق “عودة” على وصولي بالسلامة إلى حارتنا، لأجد في وجهي صحيفة يعتلي إحدى زوايها رجلا مبتسما ينتعل حذاء كبيرا مكتوب عليه “السعر (٣) برايز” وكان اسم الصحيفة “عبد ربه”، استغربت من اسمها وبعد أن ألقيت التحية على صديقي صاحب السوبر ماركت، أمسكت الصحيفة وبدأت بتقليب صفحاتها وأخذت أضحك ولا كأنني “راسب” ونسيت همي الشخصي وخوفي من بهدلة البيت وبدأت بالضحك على رسوب غيري مطبقا المثل الشعبي “اللي بشوف مصيبة غيره بتهون عليه مصيبته”، وأمسكت خواصري من الضحك عندما شاهدت صحفيا يمسك ميكروفونا ويجري حوارا مع حمار مثقف وحكيم من أصول قبرصية، وعرفت فيما بعد أن الكاتب والصحفي الذي أنفرد بهذا السبق الصحفي النوعي هو الأستاذ يوسف غيشان.

ومنذ تلك اللحظة باتت زاوية “شغب” التي يحررها غيشان في صحيفة عبد ربه المربع الأول الذي أبحث عنه وأقرأه ثم بعد ذلك أفلي كل صفحات الصحيفة، ولم يكن مصير “عبد ربه” في بيتنا كغيرها من الصحف فلم نلف بها ضمة ملوخية ولم نلمع بها زجاج الشبابيك ولم نكفن بها الأواني الخزفية التي سنخزنها ولن نستخدمها، فقد إحتفظت بكل الأعداد التي كنت أواظب على شرائها وما زلت محتفظا بها حتى اليوم.

كانت الصدف تحملني دائما نحو الأستاذ غيشان فذات يوم كنا ننتظر صحن الحمص والفول وبعض حبات الفلافل لنتناول وجبة “البرانش” كما يسميها أولاد اليوم؛ وهي تلك الوجبة التي تأتي بين الفطور المتأخر والغداء المبكر، وقام صديقي بفرش الجرايد على طاولة صغيرة في المحل، حتى نزيت كلماتها ونطعمها بعض فتات خبزنا أثناء هجومنا الذي لا يرحم على الطعام، فلمحت اسم يوسف غيشان على عمود فيها فأخذت صفحة الجريدة ولا أعرف إن كنت حميت كاتبنا ذلك اليوم من الزيت واللقم المتساقطة أم حرمته منها؟ ومنذ ذلك اليوم بدأت أتابع عواميده في الصحف العديدة التي كان يكتب فيها كلما وجدت ثمن الجرائد أو إن أستطعت ان اقرأها خلسة ومجانا على باب البقالة التي تبيعها.

مقالات ذات صلة النقد أم النقض.. إشكالية التخوين 2024/06/29

وصدفة أخرى جمعتني به بعد سنوات عندما كنت أسير في وسط البلد بجوار كشك ومكتبة الطليعة لأجد عنوانا لكتاب صغير اسمه “لماذا تركت الحمار وحيدا؟” وكان غيشان هو الكاتب والمتسائل فاشتريت الكتاب وكل ما تيسر من كتبه لدى المكتبة وقفلت عائدا نحو منزلي لأضحك وأبكي وأنا أقلب الكتب.

وعندما ظهرت وسائل الاتصال بالانتشار وتحديدا الفايسبوك بحثت عن حساب الأستاذ يوسف لأطلب صداقته فوجدت أن حسابه أستنفذ عدد الأصدقاء المسموح بهم وكالعادة عندما يتعلق الأمر بغيشان هذا الأمر أفرحني وأحزنني وأكتفيت بمتابعته ووضع علامة “أعجبني” قبل أن أقرأ.

يوسف غيشان كاتب ساخر يحول أي كلمة أو موقف إلى صورة كاريكاتيرية تماما كناجي العلي ولكن غيشان يستخدم قلم حبر بيك وورقة فلسكاب، وأظن اليوم أنه واكب التقنية الحديثة وبات يكتب مقالاته على هاتفه أو جهازه الشخصي دون أن ينسى جذوره البسيطة التي طالما تحدث عنها، فمن خلال غيشان عرفت عزيز نيسين وجلال عامر وغيرهم من الكتاب الساخرين، وهو قامة مثلهم تماما في هذا النوع من الكتابة الساخرة، لكن حظه قليل وعلى الأغلب نحن من لا يعرف قيمة هذا الكاتب وقدره ومستوى جودة أعماله وكتاباته.

فجلال عامر ابن النيل وابن شعب يعتبر تؤام النكتة والقفشة على حد تعبيرهم، فالنكتة في جيناته أما يوسف غيشان فقد وجد نفسه كاتبا ساخرا في بيئة متجهمة، وتعتبر الضحك في بعض الأحيان ينتقص من الرجولة، وعلى الرغم من ذلك استطاع أن يعبر يم الكتابة الساخرة متحديا أمواج المجتمع وأعرافه التي لا تعترف بالضحك إلا في الغرف المغلقة وبعيدا عن أعين الناس.

لعل سئم غيشان من الكتابة النمطية المنتشرة في مجتمعنا وكذلك من المثقفين أو أشباههم الذين يلتقون يوميا في المقاهي أو على صفحات الجرائد ومن آرائهم التي لا تعبر عنه ولا تلامسه، فاختار غيشان السخرية طريقا للخلاص، وعلى الرغم من صعوبتها، كان غيشان وما يزال كالصقر الذي يحلق عاليا للبحث عن فرائس السخرية في كل مكان، وكان يصطاد شخصياته وكائناته بكل مهارة وشطارة ليثري مشروعه الساخر الذي لا يعرف حدودا.

عندما تقرأ في كتب غيشان أو مقالاته تجد إنسانا يجيد السخرية من كل شيء بدء من نفسه وانتهاء بأي شيء، ولكنه يسخر دون أن يسيء أو يقدح، ينتقد دون أن يجرح، وهذا أمر يتطلب قدرا عاليا من الإنسانية، وميزان كميزان الصائغ لوزن الكلمات قبل التفوه بها أو كتابتها، ومع هذا لم ينجو في بعض الأحيان من قضية هنا وشكوى هناك.

عند قراءة مذكرات أو سيرة أو أعمال أي كاتب ساخر ستجد أنه قد نشأ في ظروف اجتماعية أو سياسية صعبة، وأنه يمتلك في داخله حزنا يكفي مدينة بحالها، وعند دراسة شخصيات الكتاب الساخرين عن كثب ستجد أن الحزن والتمرد والرفض قواسم مشتركة وعوارض أساسية في حياتهم ولم ينج غيشان بدوره من بعض هذه العوارض أو كلها.

لم أكتب هذا المقال إلا لأعبر عن إعجابي بهذا الكاتب المبدع، هذا الإعجاب الذي يشاطرني به الكثيرون، ولأوجه رسالة للأستاذ يوسف غيشان بجمع كل أعماله القديمة في الجزء الأول من الأعمال الكاملة له، وأن تتحرك إحدى دور النشر لإنجاز هذا العمل قبل معرض الكتاب القادم في أيلول من هذا العام، فيوسف غيشان يستحق تقديرا أكثر من جائزة نقابة الصحفيين اليتيمة التي حصل عليها في العام 2005، وكتبتها كذلك لطرح بعض الأسئلة وتوجيهها إلى المعنيين في الأدب والثقافة والنشر وعلى رأسها وزارة الثقافة والأستاذ غيشان نفسه، فلماذا لا يتم إطلاق صحيفة “عبد ربه” مرة أخرى بشكل الكتروني وبحلة تتناسب مع زماننا الذي لا يعرف الفرق بين السخرية والاساءة؟ أو لماذا لا تترجم أعمال غيشان إلى لغات أخرى أسوة بكتابات عزيز نيسين التركية التي أضحكت العالم بمعظم اللغات؟

خاتمة القول إننا نستطيع أن نجد في أغلب الأوقات العديد من كتاب الروايات والقصص والشعراء ولكن الكتابة الساخرة عملة نادرة لا تجود الأرض بها دائما وهي هبة من الله لم يمنحها لكل من أمسك قلما، وبالتأكيد لا يمكن صناعتها وتفصيلها في مشاغل كليات الصحافة أو الآداب.
يوسف غيشان علم من أعلام الكتابة الساخرة ليس فقط في الأردن بل على مستوى العالم العربي ويستحق بكل تأكيد تقديرنا ومحبتنا.

وبما أن ما كتبته قصة حقيقية وأراء كلي إيمان بها فانا لن أنهي مقالي على طريقته الشهيرة بأن أكتب “تلولحي يا دالية” بل سأكتب له تعويذتي ” على حسب وداد قلبي”.

مقالات مشابهة

  • منير أديب يكتب: 30 يونيو.. والحفاظ على الهوية المصرية من التآكل
  • مركز شباب الاستاد ينظم مسابقة فنية احتفالاََ بذكرى 30 يونيو
  • اكتشافات جديدة حول كائن فضائي.. صاحب الأصابع الثلاثة
  • الكاثوليكية تحيي ذكرى الطوباوي أندريا جياسينتو لونجين الأسقف
  • باحث في شؤون الجماعات الإسلامية: ثورة 30 يونيو كانت حلما لكل المصريين
  • قصور الثقافة تحتفل بذكرى 30 يونيو وتكتشف المواهب.. فعاليات متنوعة ومعرض للكتاب
  • صاحبة فيديو رقصة التخرج باكية: ملابسي كانت محتشمة ولم تكن خارجة عن المألوف
  • من كومبارس مع المشاهير لكاتب ومنتج محترف.. محمد يوسف: «لازم أحقق حلمي»
  • عبد ربه يوسف غيشان / سعيد الصالحي
  • عروض فنية ولقاءات ضمن أنشطة ثقافة الفيوم.. إحتفالا بثورة يونيو