الرق في الفقه.. في ضوء المشروع الفكري لخالد الوهيبي
تاريخ النشر: 20th, May 2024 GMT
17 أبريل 2024م.. عُقدت جلسة حوارية في مكتبة قرّاء المعرفة بولاية بوشر، عن كتاب «الرق في الفقه» لخالد الوهيبي، قدّم فيها زكريا المحرمي عرضا عن الكتاب، حضرها مجموعة من المهتمين بالفكر الإسلامي، كان الحوار دافعا لكتابة هذا المقال عن مشروع الوهيبي الفكري. المقال.. لا يعيد ما جرى في الجلسة، فقد تكفّلت «قناة أُنس» بتسجيلها وتمكينها في العالم الرقمي لمن أراد الاستماع إليها، وإنما يتحدث عن الكتاب في ضوء المشروع.
الوهيبي.. بدأ التأليف مطلع هذه الألفية الميلادية، وانصب اهتمامه على محاولة التخفيف من السلفية التي يعاني منها العقل المسلم، وهي سلفية هيمنت على كل المذاهب الإسلامية.
وقد أخذت منحنيين: سلفية مذهبية؛ فكل مذهب اشتغل على إعادة بناء تفكيره باستدعاء مقولات أسلافه.
وسلفية أهل الحديث؛ التي لم يقتصر تأثيرها على المذهب الحنبلي حاضنها التأريخي، وإنما تعداه إلى بقية المذاهب، بداية؛ كان بالرد عليها، ثم تأثرت المذاهب بمنهجها، وأصبحت تصدر أحكامها بناء على ما صح لديها من روايات بحسب منهج أهل الحديث.
من الطبيعي؛ أن تكون محاولة الوهيبي الأولى منطلقة من أصول المذهب الإباضي الذي نشأ عليه، ولم يكن في ذلك وحده.. بل كنا معه، وكان دافعنا «تحصين» المذهب الإباضي من تأثيرات منهج المحدثين، فأصدرنا معًا عام 2007م كتاب «الإيمان بين الغيب والخرافة».
وقد وجدنا أنفسنا نراجع كثيرا من القضايا التي رأينا أنها لا تتفق مع القواعد التي انطلقنا منها، وكان معظم الأمثلة التطبيقية التي نالتها المراجعة من المذهب الإباضي نفسه.
الخطوة التالية.. كانت إصدار كتاب «السنة.. الوحي والحكمة؛ دراسة في نصوص المدرسة الإباضية» عام 2008م، وكان معنا زكريا المحرمي، والكتاب.. مسح شامل لنصوص الإباضية لوضع منهج تأصيلي للحديث لديهم. بيد أن الوهيبي سبق هذين الكتابين بإصدار كتابه «أشراط الساعة» عام 2004م، الذي راجع فيه قضية الفتن والملاحم التي يعتقد معظم المسلمين أنها ستقع آخر الزمان، وفي عام 2006م أصدر «صفة الصلاة.. دراسة لمنهج الإباضية في تأصيل قضايا الصلاة»، والكتاب.. من عنوانه ينهج النهج نفسه.
جلُّ أعمالنا نحن الثلاثة التي صدرت خلال العقد الأول من هذا القرن؛ الحادي والعشرين الميلادي حاوَلتْ الرجوع بالفكر الإباضي إلى أصوله الأولى قبل تأثرها بمنهج أهل الحديث، ومع بداية العقد الثاني منه بدأ كل واحد منا يشق طريقه في مراجعته للفكر الإسلامي. ولأن المقال يتحدث عن تجربة الوهيبي؛ فيضرب صفحا عن تجربتي وتجربة المحرمي.
انتقل خالد الوهيبي إلى مرحلة جديدة، فلم يعد يرى إصلاح التفكير بالعودة إلى الأصول المذهبية، وإنما بالعودة إلى القرآن الذي أنزل رحمة للعالمين وليهدي الناس للتي هي أقوم. وهذا الأمر متفق عليه بيننا، بيد أنه أصبح لكل واحد منا طريقه في المعالجة.
يرى الوهيبي أن المشكلة تكمن في تفسير القرآن، وهذا بسبب جمعَين قام بهما العلماء المسلمون:
- الجمع الروائي.. أي جمع الروايات المنسوبة إلى النبي في الإصحاح والمسانيد، وكان نصيب معالجته في المرحلة الأولى التي تحدثت عنها، إلا أن الوهيبي لم يعد يرى فرقا بين المذاهب في ذلك، فكلها لديها مشكلتها في التعامل مع «الحديث النبوي».
- الجمع اللغوي.. وهو جمع معاني كلمات اللغة العربية في المعاجم والقواميس، وقد استثمر الوهيبي لمعالجته طرحَه في الجمع الروائي، فأصدر عام 2018م كتابه «الجمع الروائي/ اللغوي بين الكتاب والتاريخ»، ويذهب فيه إلى أن الجمع الذي قام به علماء اللغة قاصر بسبب خضوعه لمحدودية زمانهم، واقتصاره على مَن اتصلوا بهم من الرواة، ولم يستقصوا كل ديار العرب، فضلًا عن عدم استقصائهم جميع الكلمات، ولذلك؛ لم يستوعب الجمع اللغوي دلالات القرآن ومآلاته، فغابت منه السننية الكونية التي أشار إليها القرآن.
الوهيبي.. يرى أن اللغة بأصلها مستوعِبة لهذه السننية، من خلال دلالات الحروف المكونة لجذر الكلمة، فكل حرف يحمل معاني خاصة تضفي سعة وحيوية للكلمة، بتآخيه مع بقية الحروف المكونة لها، ولأن القرآن جاء بـ»لسان عربي» فهو يتمتع باتساع يستوعِب سننية الكون وتحولات الاجتماع الإنساني، فالكلمة القرآنية.. لا تقتصر على المعاني التي حصرها فيها المفسرون، وإنما هي شاملة جميع الدلالات والمآلات التي تجعل القرآن صالحًا لكل زمان ومكان.
وآخر حلقات مشروعه الفكري حتى الآن.. إصداره هذا العام 2024م كتاب «الرق في الفقه.. بين شرعية الإلغاء وأغلال التاريخ»، عن دار الانتشار بالشارقة، يقع في 176 صفحة. الكتاب.. يعالج قضية الرق التي سادت التاريخ البشري منذ عصوره القديمة حتى منعه في العصر الحديث، والذي ابتدأه فلاسفة الغرب، ثم تبناه الساسة الغربيون، ثم فرضوه على العالم بالقوة، وأخيرًا؛ تم تجريمه بالمواثيق الدولية للأمم المتحدة. وقد وقف الفقهاء المسلمون ضد منع الرق، إلا أن ساستهم تبنوه، ومنعوا استرقاق العبيد في بلدانهم. تتبع الكتاب ذلك تأريخيًا في الفصل الأول الذي جاء بعنوان «تاريخ الرق».
خالد الوهيبي.. طرح قضية الرق منطلقًا من خلو القرآن من أية مشروعية لاسترقاق البشر.. بل إن القرآن حرّمه بمبدأ تكريم الإنسان، وعمل على إلغاء مصدره الأساس وهو الأسر في المعارك، وجعل له بديلًا بافتداء الأسرى بمقابل، أو المنّ عليهم بإطلاق سراحهم: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) محمد:4 . وهذا الحكم كفيل بإنهاء الرق في مدة لا تتعدى القرن، غير أن الفقهاء المتقدمين القائلين بـ نظرية النسخ رأوا أن هذا الحكم القرآني منسوخ بأحاديث الرسول. وأخيرًا؛ جاء أصحاب نظرية تاريخية القرآن من المُحْدَثين فرأوا أن القرآن لم يحرم الرق، لكنه حكم كسائر أحكام القرآن يتعلق بزمن النزول، ولا ينبغي استصحابه إلى الآن. عالج الوهيبي هذه الإشكالية في فصلين من كتابه:
- الفصل الثاني «نظريات نسخ وتاريخية القرآن».. بيّن فيه أن «نظرية النسخ» رسخّت الرق و»نظرية تاريخية القرآن» لم تحل مشكلته، فكلاهما اعتبرا الإسلام مقرًا به. فكان على الوهيبي أن يبيّن بأنهما ألغتا أحكامًا قرآنية ، فـ(نظرية النسخ الفقهية تفترض وقوع إلغاء مآلات آيات من القرآن، ونظرية تأريخية القرآن وصلت إلى النتيجة نفسها، الاختلاف فقط في طريقة الوصول).
- الفصل الثالث كلمات (رقبة، ما ملكت أيمانكم، أمة، عبد) في القرآن .. طرح فيه الوهيبي حله لهذه المشكلة العميقة، بالكشف عن دلالات القرآن من خلال الجذر اللغوي، معتبرًا الجمع اللغوي قاصرا، حيث حصر جامعو اللغة دلالة القرآن للكلمات الآنفة في معنى واحد تقريبا هو الاسترقاق، في حين أنها أكثر سعة، وهي تتسع بحكم معاني حروفها في أصول اللغة، وبحكم المآلات التي يبتغيها القرآن، دلالات كثيرة، تعمل على تجفيف نهر الرق منذ تنزّل القرآن، كما أنها قادرة على مد البشرية بديناميكية في معالجة حالات كثيرة تستوعبها الكلمات السابقة.
فـ»تحرير أو فك رقبة».. (يُوَصِّف الحالة الإنسانية عند وقوعها تحت الهيمنة والسيطرة، مع وجود توجه للانفكاك من أسرها، فالقرآن.. باستعماله هذه الكلمة يعطيها مآلات إلغاء هذه الأوضاع المهينة لكرامة الإنسان). ومن معاني «الرق».. (تجنيد الأطفال في النزاعات المسلحة، وتزويج القاصرات، والمستخدمون في المنازل). و»ملك يمين».. يستوعب الواقعين تحت وطأة الحرمان والجهل والتخلف الاجتماعي. و»العبد».. هو كل مَن انطلق دون معايير أخلاقية. و»الأَمَة».. (تعني الأنثى الناضجة التي تتحكم بغرائزها... فالمعنى مرتبط بالعفة والطهارة النفسية، لا بأعراف الرق).
عرضت هنا بتلخيص مكثَّف مشروع خالد الوهيبي، فوجدته متسقًا مع تطوره الفكري، دون أن يعاني من قفزات تعاني منها عادة المشاريع الفكرية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الرق فی
إقرأ أيضاً:
مصر وفرنسا بين شامبليون وماكرون.. طلاسم الهيروغليفية رموز الخلود والتواصل الحديث بشيفرات المستقبل
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
حين وقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في جامعة القاهرة، وألقى بجملته اللافتة: "مصر أقدم حضارات العالم وأكثر البلاد شبابًا وهذا هو التناقض الذي نراه اليوم في مصر فلديكم حضارة تحدث عنها شامبليون، وهناك مصري من كل اثنين يقل سنه عن ٢٥ عاما"، لم يكن يصف مفارقة عابرة، بل كان يلتقط جوهر الجاذبية الفرنسية تجاه مصر: بلدٌ تضرب جذوره في أعماق التاريخ، وينبض حاضره بطاقة شابة تتطلع إلى المستقبل.
فبينما يواصل العلماء الفرنسيون فَكّ أسرار المقابر الفرعونية، ينشغل شباب مصر بفك شيفرات الذكاء الاصطناعي وريادة الأعمال. ومهما اختلفت الشيفرات، يبقى الحوار قائمًا بين حضارتين، بين بلد يرى في مصر مرآة ماضيه وصورة لمستقبله.
ومنذ أن فك الفرنسي جان فرانسوا شامبليون طلاسم حجر رشيد، لم تهدأ جذوة الشغف الفرنسي بالحضارة المصرية. لكن هذا الشغف لم يبقَ حبيس المتاحف والمعابد، بل تحوّل إلى علاقة متجددة، تبحث في مصر القديمة عن رموز الخلود، وفي مصر الحديثة عن نبض المستقبل.
وتعود العلاقة العميقة بين فرنسا ومصر إلى حملة نابليون بونابرت عام 1798، والتي وإن كانت عسكرية في ظاهرها، إلا أنها وضعت بذورًا علمية وثقافية لا تزال آثارها قائمة حتى اليوم.. فقد رافق الحملة علماء وفنانون، ألفوا موسوعة "وصف مصر"، ثم جاء الاكتشاف الحاسم: حجر رشيد، الذي مهد الطريق أمام شامبليون لفك رموز الكتابة الهيروغليفية عام 1822، ليولد ما يُعرف اليوم بـ "علم المصريات".
منذ ذلك الحين، أصبحت مصر القديمة عنصرًا دائم الحضور في المخيلة الفرنسية، ليس فقط في قاعات متحف اللوفر، بل في كتب الأطفال، وأعمال المسرح، وعروض الأزياء، والأفلام.
وفي هذا السياق، يقول عالم الآثار الفرنسي جان كلود جولفان: "لا يمكن لدارس أي حضارة ألا يتوقف أمام الحضارة المصرية القديمة".
وبالنسبة لفرنسا، تمثل مصر مزيجًا نادرًا من الغموض والخلود، أرضًا يعلو فيها الصمت المقدس فوق رمال الأهرامات، لكن ينبض فيها أيضًا شغف البحث والاكتشاف.
وقد دعمت فرنسا بعثات أثرية في الأقصر وسقارة وأسوان، وساهمت في ترميم معابد ومقابر، وأرسلت خبراءها لدعم ملفات تسجيل التراث المصري في اليونسكو.
ولكن، بينما تبحر فرنسا في دهشة الماضي، فإنها تلتفت أيضًا إلى واقع مصر اليوم.
فتصريح ماكرون بجامعة القاهرة لم يكن مجرد مجاملة، بل هو توصيف دقيق لمفارقة حضارية: كيف لبلد هو من أقدم كيانات التاريخ أن يكون شابًا بهذا الشكل؟ أكثر من 60% من سكان مصر تحت سن الخامسة والعشرين.
تلك الطاقة الشبابية الهائلة تطرح على العالم- وعلى فرنسا تحديدًا- أسئلة حول المستقبل، والتعليم، والثقافة، والهوية، بل وتحفز الشراكات بين الجامعات، والتبادل الثقافي، والمبادرات الرقمية بين البلدين.
وبين ماضي عتيق يتحدث الهيروغليفية ومستقبل يتحدث بلغة "أكواد البرمجة" فإن فرنسا لا ترى مصر فقط كحضارة منقوشة على جدران المعابد، بل كدولة تواجه تحديات معاصرة في الاقتصاد، البيئة، التكنولوجيا، والتعليم.
وكثفت باريس خلال العقد الأخير من مبادراتها الثقافية والتعليمية في مصر، مثل دعم المعهد الفرنسي، وتوسيع برامج المنح الدراسية، والمشاريع التنموية المشتركة في صعيد مصر وسيناء.
وفي هذا الصدد، يقول الكاتب الفرنسي روبير سوليه: "الحضارة المصرية غنية لا يضاهيها شيء".
ويبقى سؤال بسيط في كلماته عميق في إجاباته.. لماذا لا تزال مصر تثير فضول فرنسا بهذا الشكل؟. ربما لأن مصر ليست مجرد ماضٍ عظيم، بل حاضر غني بالتناقضات، ومستقبل لا يمكن التنبؤ بآفاقه.