17 أبريل 2024م.. عُقدت جلسة حوارية في مكتبة قرّاء المعرفة بولاية بوشر، عن كتاب «الرق في الفقه» لخالد الوهيبي، قدّم فيها زكريا المحرمي عرضا عن الكتاب، حضرها مجموعة من المهتمين بالفكر الإسلامي، كان الحوار دافعا لكتابة هذا المقال عن مشروع الوهيبي الفكري. المقال.. لا يعيد ما جرى في الجلسة، فقد تكفّلت «قناة أُنس» بتسجيلها وتمكينها في العالم الرقمي لمن أراد الاستماع إليها، وإنما يتحدث عن الكتاب في ضوء المشروع.

الوهيبي.. بدأ التأليف مطلع هذه الألفية الميلادية، وانصب اهتمامه على محاولة التخفيف من السلفية التي يعاني منها العقل المسلم، وهي سلفية هيمنت على كل المذاهب الإسلامية.

وقد أخذت منحنيين: سلفية مذهبية؛ فكل مذهب اشتغل على إعادة بناء تفكيره باستدعاء مقولات أسلافه.

وسلفية أهل الحديث؛ التي لم يقتصر تأثيرها على المذهب الحنبلي حاضنها التأريخي، وإنما تعداه إلى بقية المذاهب، بداية؛ كان بالرد عليها، ثم تأثرت المذاهب بمنهجها، وأصبحت تصدر أحكامها بناء على ما صح لديها من روايات بحسب منهج أهل الحديث.

من الطبيعي؛ أن تكون محاولة الوهيبي الأولى منطلقة من أصول المذهب الإباضي الذي نشأ عليه، ولم يكن في ذلك وحده.. بل كنا معه، وكان دافعنا «تحصين» المذهب الإباضي من تأثيرات منهج المحدثين، فأصدرنا معًا عام 2007م كتاب «الإيمان بين الغيب والخرافة».

وقد وجدنا أنفسنا نراجع كثيرا من القضايا التي رأينا أنها لا تتفق مع القواعد التي انطلقنا منها، وكان معظم الأمثلة التطبيقية التي نالتها المراجعة من المذهب الإباضي نفسه.

الخطوة التالية.. كانت إصدار كتاب «السنة.. الوحي والحكمة؛ دراسة في نصوص المدرسة الإباضية» عام 2008م، وكان معنا زكريا المحرمي، والكتاب.. مسح شامل لنصوص الإباضية لوضع منهج تأصيلي للحديث لديهم. بيد أن الوهيبي سبق هذين الكتابين بإصدار كتابه «أشراط الساعة» عام 2004م، الذي راجع فيه قضية الفتن والملاحم التي يعتقد معظم المسلمين أنها ستقع آخر الزمان، وفي عام 2006م أصدر «صفة الصلاة.. دراسة لمنهج الإباضية في تأصيل قضايا الصلاة»، والكتاب.. من عنوانه ينهج النهج نفسه.

جلُّ أعمالنا نحن الثلاثة التي صدرت خلال العقد الأول من هذا القرن؛ الحادي والعشرين الميلادي حاوَلتْ الرجوع بالفكر الإباضي إلى أصوله الأولى قبل تأثرها بمنهج أهل الحديث، ومع بداية العقد الثاني منه بدأ كل واحد منا يشق طريقه في مراجعته للفكر الإسلامي. ولأن المقال يتحدث عن تجربة الوهيبي؛ فيضرب صفحا عن تجربتي وتجربة المحرمي.

انتقل خالد الوهيبي إلى مرحلة جديدة، فلم يعد يرى إصلاح التفكير بالعودة إلى الأصول المذهبية، وإنما بالعودة إلى القرآن الذي أنزل رحمة للعالمين وليهدي الناس للتي هي أقوم. وهذا الأمر متفق عليه بيننا، بيد أنه أصبح لكل واحد منا طريقه في المعالجة.

يرى الوهيبي أن المشكلة تكمن في تفسير القرآن، وهذا بسبب جمعَين قام بهما العلماء المسلمون:

- الجمع الروائي.. أي جمع الروايات المنسوبة إلى النبي في الإصحاح والمسانيد، وكان نصيب معالجته في المرحلة الأولى التي تحدثت عنها، إلا أن الوهيبي لم يعد يرى فرقا بين المذاهب في ذلك، فكلها لديها مشكلتها في التعامل مع «الحديث النبوي».

- الجمع اللغوي.. وهو جمع معاني كلمات اللغة العربية في المعاجم والقواميس، وقد استثمر الوهيبي لمعالجته طرحَه في الجمع الروائي، فأصدر عام 2018م كتابه «الجمع الروائي/ اللغوي بين الكتاب والتاريخ»، ويذهب فيه إلى أن الجمع الذي قام به علماء اللغة قاصر بسبب خضوعه لمحدودية زمانهم، واقتصاره على مَن اتصلوا بهم من الرواة، ولم يستقصوا كل ديار العرب، فضلًا عن عدم استقصائهم جميع الكلمات، ولذلك؛ لم يستوعب الجمع اللغوي دلالات القرآن ومآلاته، فغابت منه السننية الكونية التي أشار إليها القرآن.

الوهيبي.. يرى أن اللغة بأصلها مستوعِبة لهذه السننية، من خلال دلالات الحروف المكونة لجذر الكلمة، فكل حرف يحمل معاني خاصة تضفي سعة وحيوية للكلمة، بتآخيه مع بقية الحروف المكونة لها، ولأن القرآن جاء بـ»لسان عربي» فهو يتمتع باتساع يستوعِب سننية الكون وتحولات الاجتماع الإنساني، فالكلمة القرآنية.. لا تقتصر على المعاني التي حصرها فيها المفسرون، وإنما هي شاملة جميع الدلالات والمآلات التي تجعل القرآن صالحًا لكل زمان ومكان.

وآخر حلقات مشروعه الفكري حتى الآن.. إصداره هذا العام 2024م كتاب «الرق في الفقه.. بين شرعية الإلغاء وأغلال التاريخ»، عن دار الانتشار بالشارقة، يقع في 176 صفحة. الكتاب.. يعالج قضية الرق التي سادت التاريخ البشري منذ عصوره القديمة حتى منعه في العصر الحديث، والذي ابتدأه فلاسفة الغرب، ثم تبناه الساسة الغربيون، ثم فرضوه على العالم بالقوة، وأخيرًا؛ تم تجريمه بالمواثيق الدولية للأمم المتحدة. وقد وقف الفقهاء المسلمون ضد منع الرق، إلا أن ساستهم تبنوه، ومنعوا استرقاق العبيد في بلدانهم. تتبع الكتاب ذلك تأريخيًا في الفصل الأول الذي جاء بعنوان «تاريخ الرق».

خالد الوهيبي.. طرح قضية الرق منطلقًا من خلو القرآن من أية مشروعية لاسترقاق البشر.. بل إن القرآن حرّمه بمبدأ تكريم الإنسان، وعمل على إلغاء مصدره الأساس وهو الأسر في المعارك، وجعل له بديلًا بافتداء الأسرى بمقابل، أو المنّ عليهم بإطلاق سراحهم: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) محمد:4 . وهذا الحكم كفيل بإنهاء الرق في مدة لا تتعدى القرن، غير أن الفقهاء المتقدمين القائلين بـ نظرية النسخ رأوا أن هذا الحكم القرآني منسوخ بأحاديث الرسول. وأخيرًا؛ جاء أصحاب نظرية تاريخية القرآن من المُحْدَثين فرأوا أن القرآن لم يحرم الرق، لكنه حكم كسائر أحكام القرآن يتعلق بزمن النزول، ولا ينبغي استصحابه إلى الآن. عالج الوهيبي هذه الإشكالية في فصلين من كتابه:

- الفصل الثاني «نظريات نسخ وتاريخية القرآن».. بيّن فيه أن «نظرية النسخ» رسخّت الرق و»نظرية تاريخية القرآن» لم تحل مشكلته، فكلاهما اعتبرا الإسلام مقرًا به. فكان على الوهيبي أن يبيّن بأنهما ألغتا أحكامًا قرآنية ، فـ(نظرية النسخ الفقهية تفترض وقوع إلغاء مآلات آيات من القرآن، ونظرية تأريخية القرآن وصلت إلى النتيجة نفسها، الاختلاف فقط في طريقة الوصول).

- الفصل الثالث كلمات (رقبة، ما ملكت أيمانكم، أمة، عبد) في القرآن .. طرح فيه الوهيبي حله لهذه المشكلة العميقة، بالكشف عن دلالات القرآن من خلال الجذر اللغوي، معتبرًا الجمع اللغوي قاصرا، حيث حصر جامعو اللغة دلالة القرآن للكلمات الآنفة في معنى واحد تقريبا هو الاسترقاق، في حين أنها أكثر سعة، وهي تتسع بحكم معاني حروفها في أصول اللغة، وبحكم المآلات التي يبتغيها القرآن، دلالات كثيرة، تعمل على تجفيف نهر الرق منذ تنزّل القرآن، كما أنها قادرة على مد البشرية بديناميكية في معالجة حالات كثيرة تستوعبها الكلمات السابقة.

فـ»تحرير أو فك رقبة».. (يُوَصِّف الحالة الإنسانية عند وقوعها تحت الهيمنة والسيطرة، مع وجود توجه للانفكاك من أسرها، فالقرآن.. باستعماله هذه الكلمة يعطيها مآلات إلغاء هذه الأوضاع المهينة لكرامة الإنسان). ومن معاني «الرق».. (تجنيد الأطفال في النزاعات المسلحة، وتزويج القاصرات، والمستخدمون في المنازل). و»ملك يمين».. يستوعب الواقعين تحت وطأة الحرمان والجهل والتخلف الاجتماعي. و»العبد».. هو كل مَن انطلق دون معايير أخلاقية. و»الأَمَة».. (تعني الأنثى الناضجة التي تتحكم بغرائزها... فالمعنى مرتبط بالعفة والطهارة النفسية، لا بأعراف الرق).

عرضت هنا بتلخيص مكثَّف مشروع خالد الوهيبي، فوجدته متسقًا مع تطوره الفكري، دون أن يعاني من قفزات تعاني منها عادة المشاريع الفكرية.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الرق فی

إقرأ أيضاً:

إطلاق «السياسة الوطنية للحفاظ على التراث المعماري الحديث»

أبوظبي (وام)
أطلقت وزارة الثقافة «السياسة الوطنية للحفاظ على التراث المعماري الحديث»، خلال حفل أُقيم بالمسرح الوطني التابع للوزارة في أبوظبي، بمشاركة عدد من المسؤولين والخبراء والمهتمين بالشأن الثقافي والتراثي بدولة الإمارات.  
وتهدف هذه السياسة إلى وضع رؤية وتوجهات وطنية شاملة تُعنى بالتراث المعماري الحديث، تحقيقاً لاستراتيجية الوزارة نحو تعزيز الهوية الوطنية وترويج التراث الثقافي، وترسيخ القيم التاريخية والثقافية لهذا التراث، ودعم الابتكار والإبداع في هذا المجال، حيث تُشكل المعالم المعمارية جزءاً أساسياً من الهوية الوطنية وعناصر التراث الثقافي المادي للدولة، كما تعكس قيماً ثقافية متعددة تُسهم في تعزيز التلاحم الوطني والتكاتف المجتمعي.
وتضمنت فعالية إطلاق السياسة الوطنية، الاجتماع الاستثنائي الأول مع الجهات الاتحادية والمحلية المعنية، لاستعراض جهودها في مجال التراث المعماري الحديث، ومناقشة سبل التعاون على تنفيذ السياسة، إضافةً إلى تحديد الأولويات للمبادرات المزمع تنفيذها خلال السنوات القادمة.

  أخبار ذات صلة «الحلم».. عرض سينمائي يضيء على تجربة الفنان محمد الأستاد برنامج الشراكات الاقتصادية الشاملة للإمارات يصل إلى محطته الـ20

وأكد مبارك الناخي، وكيل وزارة الثقافة، في كلمته، أن السياسة تأتي في إطار الجهود المستمرة للوزارة للحفاظ على المعالم الحضارية والتاريخية التي تعكس عراقة الهوية الوطنية لدولة الإمارات.
وقال إن العمارة الحديثة ليست مجرد مبانٍ، بل هي جزء لا يتجزأ من سردية المكان وهوية الفرد، تعكس قصة تطور دولتنا ونهضتها، مؤكداً أن حماية التراث المعماري الحديث مسؤولية جماعية تتطلب تنسيق الجهود بين مختلف الجهات المعنية، للحفاظ على هذا الإرث الحيوي وضمان استمراريته للأجيال القادمة.

عرض تفصيلي
وقدمت شذى الملا، القائم بأعمال وكيل الوزارة المساعد لقطاع الهوية الوطنية والفنون، عرضاً تفصيلياً تناول أهداف «السياسة الوطنية للحفاظ على التراث المعماري الحديث»، مؤكدة أن هذه السياسة تهدف إلى الحماية والحفاظ على التراث المعماري الحديث، وتعزيز التعاون بين الجهات الحكومية، المؤسسات الأكاديمية، جمعيات النفع العام، والقطاع الخاص، ورفع مستوى الوعي المجتمعي، تعزيز الفخر بالهوية الوطنية، دعم جهود التعليم والبحث العلمي، وتعزيز المكانة العالمية لدولة الإمارات في مجال الحفاظ على التراث المعماري.
وأشارت إلى أن السياسة تسهم في تعزيز السياحة الثقافية من خلال إبراز القيمة المعمارية لهذه المباني وجذب الزوار والمهتمين بتاريخ العمارة، ودعم أجندة التنمية المستدامة على المستويات الاقتصادية، البيئية، والاجتماعية، محلياً وعالمياً، كما تركز السياسة على دعم الابتكار عبر تشجيع الفنانين والمهندسين المعماريين الشباب على استلهام التراث المعماري في تصاميمهم المستقبلية، بما يضمن استدامة هذا الإرث الثقافي.
وأدارت الملا جلسة نقاشية بعنوان «الذاكرة المعمارية.. الحفاظ على التراث الحديث في الإمارات»، بمشاركة نخبة من الخبراء والمتخصصين الذين ناقشوا مفهوم التراث المعماري الحديث في سياق دولة الإمارات، والتطرق للتحديات والفرص الموجودة في هذا المجال، كما استعرضوا الجهود الحكومية المبذولة للحفاظ على هذا التراث، وناقشوا آليات تعزيز مساهمة المجتمع في هذه الجهود.

اتفاقيات ومذكرات تفاهم 
وشهد الحفل توقيع عدد من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم، منها توقيع ميثاق الحفاظ على التراث الحديث بين الجهات المعنية في الدولة، الذي يؤكد التزامها بالحفاظ على المعالم المعمارية ذات القيمة الثقافية، كذلك توقيع مذكرة تفاهم مع جامعة زايد لإطلاق برنامج تمويلي لدعم الأبحاث والدراسات في مجال التراث المعماري الحديث، الذي سيوفر فرصاً للطلاب والباحثين والأكاديميين المعماريين والفنانين والمهتمين بهذا المجال، وكذلك مع «مجرى» - الصندوق الوطني للمسؤولية المجتمعية، بالإضافة إلى دعم مشروع البرنامج الوطني لمنح الثقافة والفنون، ومشروع دعم وتمكين الحرفيين الذي يهدف إلى ربط الحرفيين الإماراتيين ودمجهم مع أصحاب المصلحة والمعنيين في القطاعات الصناعية لخلق فرص استثمارية، إضافة إلى توقيع مذكرة تفاهم مع جمعية التراث المعماري، لتوثيق المباني ذات القيمة الوطنية في مختلف إمارات الدولة، مما سيسهم في إنشاء قاعدة بيانات شاملة تسلط الضوء على المباني ذات الأهمية التاريخية والثقافية.

ريادة عالمية في صون التراث
يأتي إطلاق السياسة في وقت تشهد فيه دولة الإمارات تطوراً متسارعاً في مختلف المجالات، حيث تعكس الجهود المبذولة في أبوظبي، ودبي، والشارقة لحماية التراث المعماري الحديث، والتي تعد نموذجاً يُحتذى به على المستوى الوطني.
ومن خلال هذه السياسة، تعزز الدولة التزامها بحماية هويتها الثقافية وتراثها الحضاري، انسجاماً مع رؤيتها الوطنية الطموحة و«مئوية الإمارات2071»، التي تهدف إلى ترسيخ مكانة الإمارات كدولة رائدة عالمياً في صون التراث وإثرائه للأجيال القادمة.

مقالات مشابهة

  • جاء العقل الرعوي شخصياً وبطل التيمم الفكري (1-2)
  • كبار مفتي الأمة وعلمائها يتبنَّون “موسوعة المؤتلف الفكري الإسلامي”
  • حسن جلبي.. تألق فن الخط العربي في العصر الحديث
  • ما حقيقة الحديث عن وجود ماهر الأسد في العراق؟
  • ما حقيقة الحديث عن وجود ماهر الأسد في العراق؟ - عاجل
  • بمناسبة يوم العلم.. “قيصرية الكتاب” تستضيف أمسية قصائد وطنية
  • إطلاق «السياسة الوطنية للحفاظ على التراث المعماري الحديث»
  • عظة اجتماع درس الكتاب لالأنبا غبريال أسقف بني سويف
  • أبو جابر محمد بن جعفر الأزكوي
  • طقس بارد مع احتمالية لصقيع وجليد في بعض المناطق اليوم الجمع