هنالك شيء غير عادي تماما يحدث في إسرائيل. فقد بدأ كبار المسؤولين العسكريين في انتقاد الطريقة التي يدير بها رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو الحرب في غزة. وظلت وسائل الإعلام الإسرائيلية تنقل أخبار اجتماع أمني نهاية الأسبوع انتقد فيه رئيس إركان قوات «الدفاع» الإسرائيلية الجنرال هرتسي هاليفي افتقار نتانياهو لاستراتيجية واضحة.
بل ذهب وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت إلى أبعد من ذلك. لقد انتقد نتانياهو علنا بإشارته إلى أن مرحلة «ما بعد حماس ستتحقق فقط بواسطة فاعلين يحلون محل حماس» وأيضا بإعلانه أنه لن يسمح لإسرائيل بمحاولة حكم غزة مباشرة.
وأوردت صحيفة نيويورك تايمز أن آخرين داخل الجيش الإسرائيلي وجهوا انتقادات شبيهة، هذه الإيجازات لوسائل الإعلام، كما كتب انشيل فيفر في صحيفة هآرتس، جُعِلت متزامنة «كجزء مما يمكن أن يكون فقط إيجازا (تنويرا) منسقا ضد رئيس الوزراء».
سبب هذه الانشقاقات غير العادية في وقت الحرب يعود إلى أن المسؤولين الإسرائيليين بدأوا يدركون ما ظل المسؤولون في الولايات المتحدة يحذرونهم منه على مدى شهور وهو أنهم بدون استراتيجية لإيجاد حكم مستقر في غزة سيواجهون مقاومة مستمرة، تماما مثلما حدث للولايات المتحدة في أفغانستان والعراق.
هنالك أدلة بأن ذلك يحدث سلفا. فالقوات الإسرائيلية اضطرت إلى العودة لمخيم جباليا مرتين وعادت ثلاث مرات إلى حي الزيتون، والهجوم القريب والإشكالي للقوات الإسرائيلية على مستشفى الشفاء كان الثاني من نوعه مما يظهر أن نجاحه الذي تحقق في البداية لم يستمر، وقال وزير الخارجية الأمريكي يوم الأحد قبل الماضي: «رأينا في المناطق التي طهرتها إسرائيل في الشمال بل حتى في خان يونس أن حماس تعود إليها».
لقد كتب الكثير حول ما إذا كان الجيش الإسرائيلي يتحوط أم أنه لا يبالي بسقوط ضحايا مدنيين عندما ينفذ هجماته في غزة. لكن المسألة الأهم تتعلق باستراتيجية الثورة المضادة التي ينتهجها هناك.
في حملة «الثورة المضادة» الأمريكية الوحيدة الناجحة والتي تعيها الذاكرة (زيادة أعداد القوات في العراق عام 2007) كانت استراتيجيتها مصممة لحماية السكان المدنيين وعزل الثوار ثم سحقهم.
من أجل بلوغ تلك الغاية عمل الجنرال ديفيد بيترايوس بلا كلل ولا ملل لكسب ود جماعة السنة في العراق (وهي الجماعة التي أنجبت الثورة ضد القوات الأمريكية) ومنحها حصة في حكومة العراق وبذلك عزل الثوار والمليشيات. ثم استخدم القوة المميتة ضد تلك المليشيات.
هذا معاكس تقريبًا لاستراتيجية إسرائيل والتي تمثلت أولا وقبل كل شيء آخر في مواجهة حماس بالسلاح وبدون اهتمام يذكر بكسب قلوب وعقول السكان المدنيين في غزة.
حجة نتانياهو ضد خطط وعمليات ما بعد الحرب هي أن الحرب لم تصل إلى نهايتها بعد وأنه ليس هنالك بديل للانتصار العسكري وأية محاولة لتجاهل تحقيقه بهذا الزعم أو ذاك تعني ببساطة انفصالا عن الواقع».
ذكر رئيس الوزراء الإسرائيلي مرارا وتكرارا أنه سيواصل الحرب حتى يحقق النصر التام والذي يفترض أنه يعني به إما استسلام حماس أو القضاء المبرم عليها.
منذ وقت مبكر في الحرب كانت إدارة بايدن تؤكد أن استراتيجية نتانياهو معيبة إذ ليس هنالك سبيل لهزيمة حماس عسكريا بدون استراتيجية سياسية لعزلها وتقديم بديل له بعض الصدقية والشرعية. ذلك هو السبب في أن البيت الأبيض أراد الشروع في محادثات مع السلطة الفلسطينية ومجموعة من الدول العربية لوضع خطط لإعادة البناء والحكم في غزة بعد حماس. رئيس الوزراء الإسرائيلي لن يلقي بالا لمثل هذه الخطط.
نتانياهو يرفض الحديث عن مرحلة ما بعد الحرب لأنه يعلم أن مستقبله هو نفسه مظلم بعد الحرب. ولا يزال
العديد من الإسرائيليين يحملونه المسؤولية عن السياسات التي قادت إلى هجوم 7 أكتوبر، وإذا أجريت انتخابات جديدة من المرجح أن يخسر منصبه، ثم بعد ذلك سيواجه ملاحقة قضائية مستمرة وأيضا تحريات محتملة حول الإخفاقات التي قادت إلى أحداث 7 أكتوبر.
كل هذا يمكن تأجيله طالما ظل رئيس الوزراء الإسرائيلي مصرَّا على استسلام حماس وهو ما لن يحصل عليه، ولكنه سيجعل الحرب تستمر إلى ما لانهاية، إنها استراتيجية لم تُصمَّم لتأمين مستقبل إسرائيل ولكن لتأمين مستقبله هو نفسه.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: رئیس الوزراء فی غزة
إقرأ أيضاً:
للأسف لن تتوقف حرب غزة
رغم كل ما يقال ويكتب عن أن إسرائيل وحماس تقتربان من التوصل إلى وقف لإطلاق النار لإنهاء الحرب المستمرة منذ 14 شهرا تقريبا فى غزة, ورغم الجهود المقدرة للمصالحة الخاصة, فاستمرار الحرب، يخدم بقاءه السياسى، فهو يريد التهرب من المخاطر الثلاثة التى تهدد حكمه: «الانتخابات المبكرة، وتشكيل لجنة تحقيق بإخفاقات هجوم 7 أكتوبر، ومحاكمته الجنائية», وعليه فمن الصعب أن نصدق أن الحرب ستنتهى ما دام هو من يتخذ القرارات.
الحرب فى غزة تثير الأسئلة المعقدة حول الاحتلال طويل الأمد، فنتنياهو يدير حرباً بلا أهداف واضحة ويريد تمديدها من أجل خلق مناخ شبيه بالحرب والتيار المتطرف داخل الحكومة الإسرائيلية يستغل الوضع لدفع أجندة الاستيطان والسيطرة الكاملة على قطاع غزة, اللواء يعقوب عميدرور، أحد أقرب مستشارى نتنياهو، قال صراحة فى مقابلة مع قناة «كان» الإسرائيلية الرسمية قبل نحو شهر تقريبا، إنه لا يمكن تنفيذ صفقة الأسرى لأنها تسمح لحماس بمواصلة الحكم بغزة، وبالتالى ستحافظ إسرائيل على وجودها فى القطاع حتى بعد انتهاء الحرب.
ورغم ما نقل عن أن هناك تنازلاً من جانب حماس وأنها مستعدة لإبداء المزيد من المرونة بشأن توقيت انسحاب القوات الإسرائيلية من غزة بما يعزز فرص التوصل إلى اتفاق، لكن هذا مشروط بعدم فرض إسرائيل شروطاً جديدة, وهذا طبعا غير مضمون، ففى كل مرة نقول فيها إننا أقرب من أى وقت مضى لحدوث اتفاق، يعود نتنياهو ليقلب الطاولة ويعيدنا إلى نقطة الصفر، وفى المشهد الحالى، بعد مفاوضات الدوحة بحضور رئيس وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وليام بيرنز لا تزال هناك تفاصيل أساسية بحاجة إلى الحل, لذلك استخدمت الولايات المتحدة على لسان جون كيربى المتحدث باسم البيت الأبيض فى مقابلة مع قناة فوكس نيوز مصطلح «التفاؤال الحذر»، مستندا إلى جملة «كنا فى هذا الموقف من قبل ولم نتمكن من الوصول إلى خط النهاية»!!، وفى رأيى أن السبب فى كل مرة هو نتنياهو.
قال وزير الدفاع الإسرائيلى، يسرائيل كاتس، الثلاثاء الماضى، إن بلاده تعتزم الحفاظ على السيطرة الأمنية فى قطاع غزة حتى بعد وقف إطلاق النار، وتحدث مسئولون إسرائيليون آخرون عن احتفاظ الجيش الإسرائيلى بمنطقة عازلة داخل القطاع ويعنى ذلك أنه بعد تفكيك القدرات العسكرية والإدارية لحركة حماس، سيحتفظ الجيش الإسرائيلى بحرية التصرف الكاملة، على غرار الوضع فى الضفة الغربية، وذلك بحسب ما نشره كاتس على منصة «إكس»، مضيفا: «لن نسمح بالعودة إلى ما قبل السابع من أكتوبر 2023».
يبقى أن نسأل هل يلبى نتنياهو رغبة الرئيس الأمريكى المنتخب دونالد ترامب الذى صرح فى أكثر من مناسبة بأنه يريد من إسرائيل إنهاء الحرب فى غزة بحلول الوقت الذى يعود فيه إلى منصبه؟، لكن وبحسب مصادر أمريكية واستنادا إلى شخصية دونالد ترامب المتقلبة فإن الرئيس الأمريكى المنتخب فى نفس الوقت لم يكن محددا فى مناشدته لنتنياهو وقد يدعم مزيدا من النشاط للجيش الإسرائيلى فى غزة، طالما انتهت الحرب رسميا, ومن ثم ففوز دونالد ترامب يخدم مصالح نتنياهو، ويبدو أنه سيكون من الممكن لنتنياهو المضى قدما فى مخططه نحو أهداف أكثر طموحا مثل احتلال دائم لأجزاء من قطاع غزة، وإعادة بناء المستوطنات بالقطاع، وربما ضم الضفة الغربية، ولمَ لا، فبدعم أمريكى ارتكبت إسرائيل منذ السابع من أكتوبر 2023 إبادة جماعية بغزة، خلفت عشرات الآلاف من القتلى والجرحى من الفلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 10 آلاف مفقود، وسط دمار هائل وكارثة إنسانية غير مسبوقة.
دونالد ترامب نفسه أكد علنا أنه أخبر نتنياهو أنه يريد أن تفوز إسرائيل بالحرب بسرعة، وهذا يدفعنا إلى السؤال ما هو شكل الفوز الذى يتصوره ترامب لإسرائيل فى غزة؟ فإذا كانت إسرائيل قد قتلت أبرز قادة حماس ودمرت البنية التحتية للقطاع وحولته إلى مكان مهجور، ماذا يتبقى للفوز من وجهة نظر ترامب؟, أخشى أن يكون الفوز هنا يعنى عودة احتلال غزة, خاصة أن نتنياهو يردد منذ فترة طويلة أن إسرائيل ستحتفظ بالسيطرة الأمنية الشاملة على غزة فى المستقبل المنظور بعد الحرب، وقال لأعضاء الكنيست من حزب الليكود فى تسجيل تم تسريبه بسرعة من اجتماع للحزب إنه لا يستطيع الموافقة على طلب حماس بإنهاء الحرب مقابل الإفراج عن 101 رهينة لا تزال تحتجزهم.