الصحافة الإريترية.. صعوبات جمة في الوطن والمنافي
تاريخ النشر: 20th, May 2024 GMT
طالما كانت عبارة "الدولة الأكثر رقابة في العالم" مألوفة عند وصف المنظمات المعنية بحرية الصحافة لواقع الحال في إريتريا التي لم تبارح لسنوات طوال الخانات الخمس لأسوأ الدول في التصنيف السنوي الذي يصدر عن منظمة "مراسلون بلا حدود"، ولا يزال ذلك الواقع كما كان بل إنه يسوء وفقا لتلك المنظمات.
وقد وضعت السيطرة الصارمة للسلطات على المجال الإعلامي الصحفيين أمام خيارات صعبة، أسهلها مغادرة البلاد نحو المنافي الاختيارية، حيث تواجههم تحديات من نوع آخر، مجسدين في رحلتهم من الوطن إلى المغترب المقولة الشائعة عن الصحافة بأنها "مهنة المتاعب".
تشهد إريتريا الواقعة شرقي القارة السمراء حالة من الركود الإعلامي المستديم، حيث تئن الصحافة، وفقا لمراسلون بلا حدود، تحت "وطأة التعسف المطلق" من قبل الرئيس أسياس أفورقي الذي يحكم البلاد منذ استقلالها عن إثيوبيا عام 1991.
لكن الحال لم يكن هكذا دائما فمع ولادة الدولة الفتية صدرت العديد من الصحف كـ"إريتريا الحديثة" بنسختيها العربية والتغرينية (لغة محلية)، وصحف فئوية كالنبض الصادرة عن اتحاد الشبيبة، ونشرات أخرى بعضها تختص بالآداب، ومجلات بعضها يتبع الحزب الحاكم.
وشهدت نهاية تسعينيات القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة ربيع الصحافة الإريترية مع ظهور 7 من الصحف المستقلة، أسست لتجربة واعدة في الحياة الصحفية الحرة، لكن السلطات سرعان ما أغلقتها في سبتمبر/أيلول 2001 وغيبت الكثير من الصحفيين والإداريين في معتقلاتها، وتحولت البلاد إلى إعلام مسيطر عليه بشكل كامل من قبل الحكومة في أسمرا، وفق تقارير العديد من المؤسسات المعنية بحرية الصحافة كمراسلون بلا حدود.
في حين تؤكد الرواية الحكومية أن تقارير هذه المؤسسات تندرج ضمن حملة تشويه منظمة ومدفوعة الثمن تستهدف إريتريا، وتربط بين عمل هؤلاء الصحفيين والمؤامرات التي تستهدف الوحدة الوطنية.
أسياس أفورقي يحكم البلاد منذ استقلالها عن إثيوبيا عام 1991(رويترز) شح المصادرأمام الخيارات الصعبة الموضوعة أمامهم في إريتريا توجه الكثير من الصحفيين والإعلاميين الإريتريين إلى الفرار خارج البلاد، حيث يواصل البعض منهم محاولات إيصال صوتهم ورسالتهم إلى جمهورهم في الوطن.
ورغم سقف الحرية المرتفع في المغتربات الأوروبية والأميركية فإن مهمة الصحفيين الإريتريين تكتنفها العديد من المصاعب والتحديات، وفقا لرئيس تحرير موقع "عدوليس" الإخباري الإريتري جمال همد.
ويضيف الصحفي المقيم في أستراليا للجزيرة نت أن أول هذه التحديات تتمثل في صعوبة الحصول على مصادر للأخبار من إريتريا، نتيجة ضعف شبكة الإنترنت وعدم إتاحتها للجميع والرقابة الشديدة عليها، بجانب الخوف المسيطر على الجميع.
ولئن كان الوصول إلى المصدر الموثوق معضلة فإن إرسال للمعلومة إلى الخارج مهمة شاقة، تمر عبر سلسلة من عمليات وإجراءات معقدة، في حين يبدو التحقق من صدقية المعلومة عبر طرف ثان ضربا من المستحيل، يقول همد.
ولا تمنح إريتريا تصريح عمل لوكالات الأنباء أو للمؤسسات الإعلامية الخارجية على اختلاف أنواعها، في حين يندر منح تأشيرة دخول لصحفي أو مؤسسة إعلامية، مما يزيد من الغموض المحيط بكل حدث أو تطور يقع داخل البلاد.
التواصل شبه المفقودومثّل ظهور الإنترنت ثورة تقنية كانت لها آثار كبيرة على قطاع الصحافة، حيث تعد الشبكة العنكبوتية إحدى أهم أدوات تناقل المعلومات والأخبار والمقالات، بما يتيح للعاملين في مجال الإعلام الوصول إلى الجمهور واختراق الكثير من الحواجز الموضوعة في وجوههم.
وهذا السياق الذي تنساب فيه المعلومات دون اعتراف بالحدود لم يكن للصحفيين الإريتريين المقيمين في الخارج القدرة على الاستفادة منه للتخلص من معضلة التباعد الجغرافي الحائل بينهم وبين جمهور القراء داخل إريتريا.
ويصف الإعلامي الإريتري محجوب حامد التواصل بين الصحفيين الإرتريين بالخارج والمتلقي بالداخل بأنه "شبه مفقود". ويضيف معد البرامج والمذيع السابق في التلفزيون الإريتري أن حالة بلاده تعد استثناء بارزا ضمن المشهد العالمي المتفجر بأدوات التواصل المختلفة، والمعتمد على التقنيات المتاحة والمسخرة للحصول على المعلومة ونشرها، مردفا أن الكثير من الأدوات الحديثة المعتمدة على العمل عبر الإنترنت مفتقدة في إريتريا.
ويمضي حامد موضحا أن خدمة الإنترنت في بلاده ضعيفة جدا ومحصورة في مدن معينة، وقائمة على ما يعرف بمقاهي الإنترنت، وهي وسيلة غير مشجعة وغير كافية لبناء الجسور بين الصحفيين الإريتريين بالخارج وجمهور القراء والمتابعين بالداخل.
وفي محاولة لتجاوز هذا العائق التقني عمد بعض الإعلاميين إلى إطلاق قنوات فضائية تقدم برامج تستهدف من خلالها المتابعين في إريتريا، لكنها تعاني من شح التمويل ونقصان الكوادر الخبيرة، مما ينعكس سلبا على المواد والبرامج المبثوثة عبرها، وفق العديد من المراقبين.
وتظهر أرقام نشرها موقع داتابورتال أنه مع بداية عام 2023 بلغت نسبة الأشخاص غير المتصلين بالإنترنت في إريتريا 78.3% من مجموع السكان، في حين تظهر إحصائيات وسائل التواصل الاجتماعي أن عدد مستخدمي فيسبوك من داخل إريتريا لم يتجاوز في التاريخ نفسه 8150 مستخدما، كما كانت الأرقام المتعلقة بإنستغرام وتويتر أقل بكثير حيث بلغت 2750 و700 على التوالي، وفقا للموقع ذاته.
ضرائب الغربة
وفي حديث للجزيرة نت يرى جمال همد أن المزيد من الصعوبات تحيط بالصحفيين الإريتريين في مهجرهم، حيث يعانون من غياب أي إطار نقابي يمثلهم ويحمي المهنة والعاملين فيها، مما يفتح الباب للمتغولين على الصحافة، مع دخول من لا يملكون أدوات العمل والتدريب المناسب، فيسهمون في الترويج لمعلومات خاطئة وأخبار غير صحيحة وتكريس صور مضرة لموضوعات كالتغيير والديمقراطية والحريات العامة.
ووفقا للعديد من العاملين في المجال الإعلامي، فإن هناك تحديا لا يقل أهمية آخر يواجهه هؤلاء الصحفيون، ولا سيما من يكتبون بالعربية، حيث يجدون أنفسهم في منافسة مع منصات إعلامية ضخمة وذات موثوقية ومتابعة عالية.
ورغم العديد من المزايا التي يقدمه المهجر للعاملين في مجالات إبداعية كالكتابة الصحفية، فإن ضريبته تتمثل في أن هموم الحياة المعيشية تستهلك وقت الكاتب وجهده، وتَحُول دون تفرُّغه الكامل للمتابعة والكتابة، حيث يضطر إلى العمل في مهن بعيدة عن مجاله الرئيسي الذي يتحول إلى نشاط شبه هامشي، مما يؤثر سلبا على منتوجه ككل.
"إرينا" وبناء النموذج المختلفورغم هذه العوائق فثمة تجارب محدودة استطاعت النجاح في النفاذ إلى الجمهور داخل إريتريا ووضع بصمتها الخاصة على مشهد يبدو شديد الإعتام.
وتأتي إذاعة "إرينا" التي تبث من فرنسا إحدى أهم هذه التجارب التي نالت اعترافا دوليا تمثل في حصولها على مجموعة من الجوائز، حيث نالت عام 2017 الجائزة الخاصة الممنوحة من منظمة "ون وورلد ميديا"، كما حصل راديو "إرينا" على جائزة "المؤسسة الأفريقية لتطوير الإعلام" للشجاعة في الصحافة لعام 2020 "تقديرا لشجاعة راديو إرينا ومثابرته في مجال الصحافة للإريتريين".
هذا النجاح يعزوه الرئيس السابق للقسم العربي في الإذاعة فتحي عثمان إلى مجموعة من العوامل، يأتي على رأسها الاعتماد على صحفيين محترفين ومتفانين في عملهم.
ويضيف عثمان للجزيرة نت أن "إرينا" استطاعت بناء مصداقيتها عبر التدقيق في نشر الأخبار وعدم السعي وراء السبق الصحفي بقدر التأكد من الأنباء عبر مصادرها الخاصة قبل النشر، بجانب اعتمادها على التمويل الذي لا يؤثر على استقلاليتها من خلال المؤسسات المعنية بدعم الصحافة الحرة في العالم النامي.
وفي سعيه لتجاوز العوائق التقنية المرتبطة بالحالة الإريترية فقد اختار فريق "إرينا" منذ البداية العمل على البث الإذاعي القادر على الوصول إلى كل بيت وكل إذن في إريتريا، من خلال استخدام موجات بث الأقمار الاصطناعية وإف إم.
كل ما سبق منح الإذاعة القدرة على الاستمرارية منذ بدء بثها عام 2009 حتى الآن، حيث تعمل على تغطية القصص الإخبارية السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الاقتصادية للإريتريين داخل البلاد أو في الشتات.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: ترجمات حريات حريات فی إریتریا العدید من الکثیر من فی حین
إقرأ أيضاً:
صحفي بريطاني للمقابلة: أشعر بالعار من تغطية إعلام بلادي للسابع من أكتوبر
وانتقد أوبورن، الذي عُرف بمسيرته الصحفية المستقلة ونقده الشديد للتحيز الإعلامي، خلال مشاركته في برنامج "المقابلة" بشدةٍ انحياز إعلام بلاده بشكل واضح لخطاب التضليل ضد الفلسطينيين، وما وصفه بـ"انحراف الصحافة البريطانية عن قيم العدالة والمساواة".
وولد بيتر أوبورن في معسكر للجيش البريطاني في مقاطعة دورست قبل نحو 70 عامًا، فقد كان والده ضابطا عسكريا، مما منحه فرصة العيش في دول متعددة، أبرزها السودان ومصر، مما زرع فيه حبا كبيرا للعالم العربي.
ويقول أوبورن إن تلك التجارب صقلت شخصيته ووسعت آفاقه الثقافية، مؤكدا أن الجيش البريطاني في زمن طفولته كان يُروج له باعتباره مؤسسة عادلة تلتزم بالقوانين الإنسانية، وهو تصور تغير لديه في ظل الحروب التي خاضتها بريطانيا لاحقا، مثل غزو العراق وأفغانستان.
اقرأ أيضا list of 4 itemslist 1 of 4صحيفة بريطانية تحذف تقريرا عن السنوار وتعتذر لقرائهاlist 2 of 4الإسلاموفوبيا والعنف العنصري يتصاعد في بريطانيا عقب حادثة ساوثبورتlist 3 of 4أكاديمي بريطاني: التمييز ضد المسلمين لا يظهر كاملا بإحصاءات رسميةlist 4 of 4موقع بريطاني: هكذا تجاهل إعلام الغرب خبر المقابر الجماعية في غزةend of listوبعد دراسته في جامعة كامبريدج وعمله لفترة قصيرة في مجال التمويل، قرر أوبورن التحول إلى الصحافة، وأوضح أنه لم يجد نفسه في المجال المصرفي ووصف تلك التجربة بأنها كانت "مضيعة للوقت"، لكنه اكتشف شغفه في الصحافة، حيث وجد نفسه في سرد القصص ونقل الحقائق، واصفًا هذه المهنة بأنها "مهنة تحتاج أحيانا إلى شيء من الجنون".
إعلان انتقاد التبعيةوبرز أوبورن كصحفي ناقد بشدة للسياسات البريطانية، خاصة في قضايا الشرق الأوسط، ومثلت تغطية الإعلام البريطاني لغزو العراق نقطة تحول في مسيرته المهنية، حيث انتقد بشدة الانجرار الأعمى وراء الولايات المتحدة، ودعا إلى تبني سياسات مستقلة تراعي القيم البريطانية.
وفي قضية فلسطين، كان أوبورن من أبرز المدافعين عن الحقوق الفلسطينية، مهاجما انحياز وسائل الإعلام البريطانية لإسرائيل وتشويهها للحقائق.
وكان انحياز صحيفة "ديلي تلغراف" الكبير لإسرائيل من بين الأسباب التي دفعته للاستقالة، ومنذ ذلك الحين، كرس جهوده لإعداد تقارير تكشف الانتهاكات الإسرائيلية وتدعو لتحقيق العدالة للفلسطينيين.
وتناول أوبورن في حديثه للمقابلة ما وصفه بـ"الهجمة الممنهجة ضد المسلمين في بريطانيا"، موضحًا أن الإعلام لعب دورا أساسيا في تأجيج الإسلاموفوبيا بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 و7 يوليو/تموز 2005، وأشار إلى أن بعض الصحف البريطانية الكبرى، مثل "التايمز"، أسهمت في نشر الأكاذيب وتعزيز الخوف من المسلمين.
واتهم أوبورن روبرت مردوخ، أحد أكبر مالكي الصحف في بريطانيا، بالتحريض ضد المسلمين لتحقيق مكاسب سياسية وتجارية، وأضاف أن هذا الخطاب المعادي للمسلمين لم يقتصر على الإعلام فقط، بل تبنته بعض الأحزاب السياسية لتعزيز شعبيتها.
تشويه وتحريضوتحدث أوبورن عن المظاهرات التي خرجت في بريطانيا بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، مشيرًا إلى أنها كانت ضد الحرب وداعية للسلام، لكنها وُصفت من قبل الحكومة ووسائل الإعلام بأنها مظاهرات طائفية ومحرضة على الكراهية.
وأكد أن هذا التوصيف لم يكن صحيحًا، بل كان جزءًا من محاولة تشويه الحراك الشعبي الذي يعارض الظلم، وأشاد بالتقليد البريطاني العريق في الاحتجاجات الشعبية، مؤكدا أن هذه المظاهرات كانت مشابهة للاحتجاجات التي خرجت في السابق ضد غزو العراق.
إعلانلكنه أعرب عن خيبة أمله من القمع الإعلامي والسياسي الذي يواجهه هذا الحراك، معتبرا ذلك تهديدًا لقيم الديمقراطية في بريطانيا.
وفي تقييمه لأداء الصحافة البريطانية، أشار أوبورن إلى وجود مراسلين مميزين في هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) مثل جيريمي بوين وليز دوسيت، اللذين يعملان ضمن قيود صعبة ولكن يقدمان تغطية مميزة.
لكنه انتقد بشدة التغطية المحلية، لافتًا إلى أن موضوعات مثل بيع الأسلحة البريطانية لإسرائيل والتعاون العسكري بين البلدين يتم تجاهلها تمامًا من قِبل الصحافة المحلية، رغم أهميتها السياسية.
ازدواجية معاييروأضاف أوبورن أن الفظائع الإسرائيلية المتزايدة لم تصبح قضية سياسية كبرى في بريطانيا رغم خطورتها مقارنة بفظائع ارتُكبت في سياقات أخرى.
وأشار إلى استمرار بريطانيا في بيع الأسلحة لإسرائيل، بل وحتى محاولة عرقلة إجراءات قانونية دولية ضد مسؤولين إسرائيليين، كما تطرق إلى انتقادات تجاه الطريقة التي أوقفت بها بريطانيا تمويل وكالة الأونروا بناءً على ادعاءات إسرائيلية وصفها بأنها واهية.
وعن المقارنة بين تغطية الصحافة البريطانية للحرب في أوكرانيا وقطاع غزة، أكد أوبورن أن الفارق في التغطية يعكس تمييزًا عنصريًا، حيث تحظى حياة الأوكرانيين البيض بأهمية أكبر من حياة الفلسطينيين.
وتناول أوبورن أيضًا قضية حرية الصحافة في بريطانيا، مشيرًا إلى أن الصحفيين البريطانيين لا يواجهون تهديدات جسدية كما يحدث لصحفيين آخرين في العالم. ومع ذلك، أبدى استغرابه من عدم شجاعة هؤلاء الصحفيين في مواجهة السلطة، حيث يكتفي معظمهم بتمرير الروايات الرسمية دون تحقيق أو تدقيق.
وتحدث أوبورن عن تجربته الشخصية خلال حرب العراق عام 2003، مؤكدًا أن هذه الحرب كانت نقطة تحول كبيرة في حياته المهنية، وأوضح أنه أدرك خلال هذه الفترة مدى استعداد كبار الصحفيين البريطانيين لترديد روايات حكومية دون تدقيق، مما دفعه لابتكار مصطلح "الصحفي العميل" لوصف هؤلاء الذين يسهمون في تضليل الرأي العام.
إعلان 22/12/2024