أثرت حرب الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة اقتصاديا، بعد تدمير البنية التحتية، وتعطيل الأعمال التجارية وزيادة أعداد البطالة والفقر بعد وصول حرب الاحتلال إلى شهرها الثامن.

ونشرت صحيفة "نيويورك تايمز" تقريرا يتناول تأثير حرب الاحتلال ضج غزة على الاقتصاد المحلي، موضحا أن القتال أدى إلى تدمير البنية التحتية وتعطيل الأعمال التجارية، ما زاد من معاناة السكان، ويشير إلى أن حصار الاحتلال الإسرائيلي على غزة أدى إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية؛ حيث يصعب وصول البضائع والمواد الأساسية، مشيرا إلى أن البطالة والفقر في غزة في تزايد مستمر بسبب النزاع.



وقالت الصحيفة، في التقرير الذي ترجمته "عربي21"، إن الباعة في زمن الحرب اصطفوا في الشوارع على الطاولات والمكاتب من المدارس التي تحولت إلى ملاجئ، في الشوارع، يبيعون الملابس المستعملة وحليب الأطفال والأطعمة المعلبة وبعض الكعك النادر محلي الصنع.

وفي بعض الحالات، تم تكديس طرود المساعدات بأكملها، التي لا تزال مزينة بأعلام الدول المانحة ومن المفترض توزيعها مجانًا، على الأرصفة وبيعها بأسعار لا يستطيع سوى القليل من الناس تحملها.

ووقف عصام حمودة، 51 سنة، بجوار عرضه التجاري الصغير: مجموعة من الخضروات والفاصوليا المعلبة من علبة مساعدات تلقتها عائلته.


وقبل أن تدمر حرب الاحتلال اقتصاد غزة، كان يعمل مدربا لتعليم القيادة، والآن، يدعم حمودة أسرته المكونة من ثمانية أفراد بالطريقة الوحيدة التي يستطيعها، وهي إعادة بيع بعض المساعدات الغذائية التي يتلقونها كل بضعة أسابيع.

وأفادت الصحيفة بأنه في الأشهر السبعة التي تلت بدء الاحتلال قصف غزة في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، تم سحق اقتصاد القطاع، واضطر الناس إلى الفرار من منازلهم ووظائفهم؛ فقد تم قصف الأسواق والمصانع والبنية التحتية وتسويتها بالأرض، وتعرضت الأراضي الزراعية للحرق بسبب الغارات الجوية أو احتلتها القوات الإسرائيلية.

وبدلا من ذلك، نشأ اقتصاد الحرب، وهو سوق للبقاء يركز على الأساسيات: الغذاء والمأوى والمال.

وينتهي الأمر بالمساعدات الإنسانية التي تحمل علامة "لا يُعاد بيعها" والمواد المنهوبة في الأسواق المؤقتة؛ حيث يربح الناس بضعة دولارات يوميًا من خلال إجلاء النازحين على ظهور الشاحنات والعربات التي تجرها الحمير، بينما يحفر آخرون المراحيض أو يصنعون الخيام من الأغطية البلاستيكية والخشب.

وأشارت الصحيفة إلى أنه نظرًا للأزمة الإنسانية المتزايدة واليأس العميق، أصبح الوقوف في الطابور الآن بمثابة عمل بدوام كامل، سواء في مواقع توزيع المساعدات، أو في المخابز القليلة المفتوحة، أو في عدد قليل من أجهزة الصراف الآلي أو محلات الصرافة.


وبحسب رجا الخالدي، الاقتصادي الفلسطيني المقيم في الضفة الغربية التي يحتلها الاحتلال الاسرائيلي، فإنه "اقتصاد الكفاف".

وأضاف أنها ليست مثل أي حرب حدثت من قبل؛ حيث يتم استهداف منطقة معينة وتكون مناطق أخرى أقل تأثرًا ويمكنها إعادة الانخراط بسرعة في الظروف الاقتصادية، بل تم إخراج الاقتصاد من الخدمة منذ الشهر الأول.

وفي السنوات التي سبقت الحرب، بدأ الاقتصاد في غزة في التحسن، حتى في ظل الحصار الجوي والبري والبحري الخانق الذي فرضته إسرائيل ومصر؛ حيث تم افتتاح الفنادق والمطاعم على شاطئ البحر، وحصل المزيد من الفلسطينيين على تصاريح للعمل في إسرائيل وحصلوا على رواتب جيدة؛ لكن كل هذه المكاسب قد ضاعت وأكثر.

أكدت الصحيفة أن غالبية الفلسطينيين في غزة الآن يواجهون الفقر على مستويات متعددة تتجاوز نقص الدخل وتشمل محدودية الوصول إلى الرعاية الصحية والتعليم والإسكان، وفقًا لتقرير صدر مؤخرا عن البنك الدولي والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، وبحسب التقرير فإن نحو 74 بالمائة من السكان عاطلون عن العمل، وكان معدل البطالة قبل الحرب، يصل إلى 45 بالمائة.

وبحسب التقرير فإن الصدمة التي تعرض لها اقتصاد غزة هي واحدة من أكبر الصدمات في التاريخ الحديث، وانخفض الناتج المحلي الإجمالي لغزة بنسبة 86 بالمائة في الربع الأخير من سنة 2023.

وقالت وزارة حرب الاحتلال الإسرائيلي، إن ضرباتها على غزة لا تهدف إلى الإضرار باقتصاد القطاع بل تستهدف "البنية التحتية الإرهابية" لحماس، حسب زعمها.


ويعتمد الاقتصاد الآن إلى حد كبير على العرض المحدود والطلب اليائس على المساعدات، وقبل الحرب، كانت تدخل إلى قطاع غزة يوميا نحو 500 شاحنة محملة بالمساعدات الإنسانية والوقود والسلع التجارية.

وبعد بدء الحرب وفرض قيود جديدة، انخفض هذا العدد بشكل ملحوظ، ليصل إلى 113 يوميًا في المتوسط، على الرغم من ارتفاعه بشكل متواضع في الأشهر الأخيرة، وحتى مع التحسينات، فإن هذه الكمية أقل بكثير مما تقول وكالات الإغاثة إنه ضروري لإطعام سكان غزة.

وأفادت الصحيفة أن تدفق المساعدات والسلع توقف تقريبا الآن، في أعقاب الهجوم الإسرائيلي على مدينة رفح الجنوبية والإغلاق شبه الكامل لمعبرين حدوديين رئيسيين.

وينتشر الجوع في جميع أنحاء القطاع، فيما وصفته جماعات حقوق الإنسان ومنظمات الإغاثة باستخدام إسرائيل للمجاعة كسلاح.

وعلى خلفية الصراع والفوضى والخروج على القانون، ارتفعت الأسعار بشكل كبير، ومنذ التوغل في رفح، ارتفعت أسعار السلع في السوق، وبالنسبة لمئات الآلاف من الفلسطينيين الفارين من الهجوم الإسرائيلي، فإن وسائل النقل بعيدًا عن الغارات الجوية تكلف مئات الدولارات.

وحتى قبل تدهور الوضع في رفح، كانت عمليات تسليم المساعدات غير متسقة وفوضوية بسبب القيود العسكرية، مما أدى إلى اليأس وإتاحة الفرصة للعصابات المسلحة أو الأفراد للنهب، وفقًا للسكان.


وبحسب ماجدة أبو عيشة، 49 سنة، وأم لعشرة أطفال، فإن المساعدات الغذائية يتم سرقتها من قبل مسلحين مثل العصابات

وأضافت ماجدة أنها أثناء محاولتها الحصول على المساعدة، أصيب ابنها وابن أخيها برصاص جنود الاحتلال. ولم يتمكنوا من الحصول على أي مساعدات. وتابعت: "أن الفائز في هذه المعركة هو المسلح الذي يستطيع أن يحصل على ما يريد من المساعدات. أي شخص ليس مسلحًا أو قويًا بما يكفي للقتال والاندفاع يعود إلى منزله خالي اليدين".

وذكرت الصحيفة أن جيش الاحتلال الإسرائيلي قال إنه "لن يستهدف عمدا قوافل المساعدات والعمال". وأضاف أنه ستواصل مواجهة التهديدات "مع الاستمرار في تخفيف الأضرار التي تلحق بالمدنيين".

وأوضحت الصحيفة أنه بدون إيصال المساعدات الكافية، يجب على السكان اللجوء إلى الأسواق المؤقتة؛ حيث يمكن بيع البضائع هناك بأي شيء يختاره البائعون. وغالبًا ما تتبع الأسعار تصاعد الصراع.

ووفق الصحيفة، كان السكر يباع مؤخرا في أسواق رفح بـ 7 شيكل، أي أقل من دولارين. وفي اليوم التالي، أطلقت حماس أكثر من عشرة صواريخ على القوات الإسرائيلية بالقرب من معبر كرم أبو سالم الحدودي بين غزة وإسرائيل، مما أدى إلى إغلاقه. وفي الساعات التالية ارتفع السعر إلى 25 شيكل. وفي اليوم التالي، انخفض سعر السكر إلى 20 شيكلاً.

ونقلت الصحيفة عن صباح أبو غانم، 25 سنة، وهي أم لطفل وراكبة أمواج سابق، قولهاة: "يمكن بيع نفس السلعة بأسعار مختلفة في نفس السوق. عندما تكون الشرطة هناك، يبيع التجار الأشياء بالأسعار التي تحددها الشرطة. وعندما تغادر الشرطة، ترتفع الأسعار على الفور".


ويقول السكان إن المسؤولين والوزارات المرتبطة بالحكومة التي تديرها حماس متواجدون في بعض المواقع، خاصة في الجنوب.

وقال حمودة إن المساعدات التي تتلقاها عائلته في بعض الأحيان تأتي من وزارة التنمية الاجتماعية التي تديرها حماس، والتي تشرف على برامج الرعاية الاجتماعية.

وأضاف حمودة إن الطرود غالبًا ما تفتقد بعض العناصر – خاصة الأطعمة مثل السكر أو التمر أو زيت الطهي. وفي أحيان أخرى، كما قال، لم يحصلوا إلا على عدد قليل من الخضروات المعلبة في أكياس بلاستيكية سوداء. وتابع أن المواد الغذائية التي تختفي من طرود المساعدات ينتهي بها الأمر في الأسواق وتباع بأسعار مرتفعة.

ونقلت الصحيفة عن إسماعيل ثوابتة، نائب رئيس المكتب الإعلامي لحكومة غزة، قوله إن الوزارة تلقت حوالي ربع المساعدات التي تم إدخالها إلى غزة، وتقوم بعد ذلك بتوزيعها. وقال: "إن الادعاءات بأن الحكومة في غزة تسرق المساعدات كاذبة وغير صحيحة على الإطلاق".

وأضاف ثوابتة إن عمليات نهب المساعدات يقوم بها عدد صغير من الأشخاص الذين أجبرتهم إسرائيل على اليأس، مشيرًا إلى أن حكومة حماس حاولت قمع عمليات النهب هذه، لكن الشرطة وأفراد الأمن التابعين لها تعرضوا للاستهداف من قبل الغارات الجوية الإسرائيلية.


ولفتت الصحيفة إلى تصريحات جيش الاحتلال الإسرائيلي التي قال فيها إنه استهدف ضباطًا وقادة شرطة، فضلًا عن مراكز ومركبات، في إطار محاولته "تفكيك القدرات العسكرية والإدارية لحماس".

وأوضحت الصحيفة أنه مع اختفاء معظم الوظائف، وجد الناس طرقًا جديدة لكسب بضعة دولارات حيث أدت الحرب إلى ظهور احتياجات جديدة. ويعيش العديد من سكان غزة النازحين في الخيام، وبالتالي فإن صناعة الملاجئ المؤقتة والحمامات أصبحت صناعة منزلية.

وبحسب الصحيفة، قال سكان في مدينة رفح إن الخيام المصنوعة من أغطية بلاستيكية رقيقة وألواح خشبية يمكن بيعها بمبلغ يصل إلى 3000 شيكل، أو 800 دولار. ومع عدم قدرتهم على الدفع، قام آخرون بتركيب خيامهم الخاصة من القماش والأخشاب التي تم إنقاذها.

وقال حمودة، في إشارة إلى القماش الذي استخدمه في بناء مأوى لأسرته: "لقد اشتريت تلك الأغطية بسعر باهظ. اشترينا مرحاضًا مستعملًا بمبلغ 250 شيكلًا ودفعنا 50 شيكلًا للسباك الذي قام بتركيبه".

وقال إن التكلفة كانت أكثر من ضعف ما كانت عليه قبل الحرب.
وأشارت الصحيفة إلى أنه حتى الحصول على أموال خاصة لدفع أسعار الحرب المتضخمة سمح للبعض بالاستفادة من الأزمة. فلا يزال عدد قليل من أجهزة الصراف الآلي تعمل في جميع أنحاء غزة، وعادة ما تكون تلك التي تعمل مكتظة بالأشخاص الذين يحاولون إخراج أموالهم. في كثير من الأحيان، يقوم شخص مسلح بمراقبة جهاز الصراف الآلي، ويتقاضى رسومًا مقابل استخدامه. يقدم الصرافون للناس إمكانية الوصول إلى أموالهم الخاصة مقابل عمولات عالية.


واختتمت الصحيفة تقريرها مشيرة إلى تصريحات إكرامي أسامة النمس، وهو أب لسبعة أطفال نازح إلى الجنوب ويعمل موظفًا حكوميًا؛ حيث قال: "لم أستطع الحصول على راتبي إلا من بعض الأشخاص الذين أخذوا نسبة 17 بالمائة من إجمالي المبلغ"، مضيفًا أنه حاول عدة مرات الحصول على كيس طحين من شاحنات المساعدات – على الرغم من خطر تعرضه لإطلاق النار من قبل الجنود الإسرائيليين – لتجنب الاضطرار إلى شرائه من السوق السوداء. لكنه لم يحقق أي نجاح قط.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة صحافة إسرائيلية الاحتلال غزة اقتصاد غزة الفلسطيني سكان غزة فلسطين غزة الاحتلال سكان غزة اقتصاد غزة صحافة صحافة صحافة سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الاحتلال الإسرائیلی حرب الاحتلال الحصول على الصحیفة أن أدى إلى فی غزة إلى أن من قبل

إقرأ أيضاً:

50 عاما على نهاية حرب فيتنام التي غيّرت أميركا والعالم

لم يكن 30 أبريل/نيسان 1975 يوما عاديا في التاريخ الفيتنامي، فقد انتصرت فيتنام الشمالية آنذاك، وأُعيد توحيد شطري البلاد بعد حربين مع إمبراطوريتين أودتا بحياة نحو مليوني فيتنامي، وفقدت فرنسا كامل نفوذها تقريبا بالمنطقة، بينما خسرت الولايات المتحدة -التي تورطت بعدها- نحو 58 ألف جندي و120 مليار دولار في الحرب التي باتت الأكثر "إذلالًا" في تاريخها.

وبدت حرب فيتنام -أو حروبها- بتشابكاتها الدولية والإقليمية تجسيدا لنظرية "الحرب التي تلد أخرى" في ظل صراع ساخن في بواكير الحرب الباردة. فقد أدت معركة ديان بيان فو (13مارس/آذار-7 مايو/أيار 1954) عمليا إلى نهاية الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية في منطقة الهند الصينية برمتها، وخسرت أيضا مستعمراتها الأخرى في أفريقيا بفعل صعود حركات التحرير التي تأثرت بالمقاومة الفيتنامية، وبمفاعيل "نظرية الدومينو" العسكرية والسياسية.

اقرأ أيضا list of 4 itemslist 1 of 4كوارث بيئية لا تنسى.. "العامل البرتقالي" الأميركي بفيتنامlist 2 of 4الجزيرة نت في فيتنام.. احتفالات عارمة في "هو تشي منه" بخمسينية النصر والوحدةlist 3 of 4حرب فيتنام.. خمسينية النصر والوحدةlist 4 of 4هو شي منه قائد ثورة فيتنام ضد فرنسا وأميركاend of list

كانت حرب فيتنام نتاج سنوات من مقاومة الاحتلال الفرنسي للبلاد (منذ عام 1883) ثم الغزو الياباني الذي انتهى بهزيمتها في الحرب العالمية الثانية، والمد الشيوعي في المنطقة وصراع الأيديولوجيات، ومحاولات تقسيم البلاد، وبلغت أوجها مع التدخل الأميركي العسكري المباشر لمحاولة صد التوغل الشيوعي السوفياتي الصيني.

إعلان

وعمليا، لم تكن حرب الهند الصينية الأولى (بين عامي 1946 و1954) معركة الولايات المتحدة، لكنها كانت تمول فعليا نحو 78% من تكلفة تلك الحرب -وفق أوراق البنتاغون المنشورة عام 1971- وتقدم مساعدات عسكرية ولوجستية ضخمة لفرنسا، خوفا من التمدد الشيوعي وسيطرة الصين على المنطقة وصعود الاتحاد السوفياتي إذا هزمت القوات الفرنسية.

كما ناقش المسؤولون الأميركيون -تبعا لهواجسهم تلك- دعما إضافيا لفرنسا ضمن ما عرف بـ"عملية النسر" (Operation Vulture) وهي مقترح خطة عسكرية كبيرة، من أجل إسناد الفرنسيين في معركة ديان بيان فو، وضعها الرئيس دوايت آيزنهاور (حكم بين 1953 و1961) ومستشاروه.

وتضمنت العملية -اعتمادا على وثائق رفعت عنها السرية- قصفا مركزا ومكثفا مع احتمال استخدام قنابل ذرية اقترح تقديمها لفرنسا، وتدخلا بريا. لكن العملية لم تنفذ في النهاية وانسحبت فرنسا بخسائر فادحة، بعد توقيع اتفاقية جنيف للسلام في يوليو/تموز 1954 التي نصت على تقسيم فيتنام إلى شطرين، ولم توقع الولايات المتحدة وحكومة سايغون الموالية لها على الاتفاق رغم حضورهما. وبدأ التورط الأميركي العسكري تدريجيا لحماية النظام الموالي لها في فيتنام الجنوبية ومحاربة المد الشيوعي، إلى حد التدخل المباشر والمعلن عام 1963.

الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون (يمين) ووزير خارجيته هنري كيسنجر (أسوشيتد برس) نظرية الرجل المجنون

في منتصف عام 1968، وتحت ورطة الفشل في حرب فيتنام، اعتمد الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون (1969-1974) على مبدأ تحقيق "السلام بالقوة" عبر "المزيد من قاذفات بي 52" التي أوصاه بها وزير خارجيته هنري كيسنجر، مبتدعا ما سماها "نظرية الرجل المجنون".

ويكشف رئيس موظفي البيت الأبيض بوب هالدمان في مذكراته عام 1994 عن إستراتيجية الرئيس نيكسون لإنهاء حرب فيتنام التي أسرّ له بها قائلا "أنا أسميها نظرية الرجل المجنون، بوب.. سنرسل لهم رسالة مفادها يا إلهي، أنتم تعلمون أن نيكسون مهووس بالشيوعية لا يمكن كبح جماحه عندما يكون غاضبا ويده على الزر النووي.. سيصل هو شي منه (الزعيم الفيتنامي) بنفسه إلى باريس في غضون يومين ويطلب السلام".

إعلان

وكتب هالدمان أن الرئيس نيكسون سعى إلى تنفيذ إستراتيجية التهديد باستخدام القوة المفرطة لتقويض خصومه، وإجبارهم على الاستسلام أو التسوية. وبهذه الطريقة، يصبح عدم يقين الفيتناميين بشأن الخطوات المستقبلية للزعيم "أداة إستراتيجية في حد ذاتها".

وفي 4 أبريل/نيسان 1972 قال نيكسون لهالدمان والمدعي العام جون ميتشل "لم يُقصف الأوغاد قط كما سيُقصفون هذه المرة" عند اتخاذه قرارا بشن ما أصبح يُعرف باسم عملية "لاينباكر التي مثلت تصعيدا هائلا في المجهود الحربي، الذي شمل قصف ميناء هايفونغ، وحصار ساحل فيتنام الشمالية، وحملة قصف جديدة ضخمة ضد هانوي.

ولا تثبت الوقائع التاريخية أن الزعيم الفيتنامي هو شي منه خضع لنظرية "الرجل المجنون" عندما تم توقيع اتفاق السلام في باريس يوم 23 يناير/كانون الثاني 1973، لكن الولايات المتحدة استخدمت قوة هائلة ومفرطة لمحاولة إخضاع الفيتناميين، وفكرت في استعمال السلاح النووي.

كانت نظرية "الرجل المجنون" تجسيدا للإحباط الذي أصاب الإدارة الأميركية من صمود المقاومة الفيتنامية والخسائر الفادحة في صفوف الجيش الأميركي، ومن حركة الرفض الواسعة للحرب في المجتمع الأميركي، واهتزاز الضمير العالمي من المشاهد المؤلمة للمجازر البشعة، سواء في مذبحة "ماي لاي" في 16 مارس/آذار 1968 التي قتل فيها 504 من المدنيين العزل، وغيرها من المجازر.

وفي المقابل، كانت نظرية الجنرال فو نغوين جياب قائد قوات قوات "الفيت منه"(رابطة استقلال فيتنام) تراوح بين خطتي "هجوم سريع.. نصر سريع" و"هجوم ثابت.. تقدم ثابت" واعتماد الحرب الشعبية وحروب العصابات الخاطفة واستنزاف العدو، حيث يقول في مذكراته "إن كل واحد من السكان جندي، وكل قرية حصن" وكانت نظريته أن حرب العصابات هي "حرب الجماهير العريضة في بلد متخلف اقتصاديا ضد جيش عدواني جيد التدريب".

الزعيم الفيتنامي الراحل هو شي منه رفض التخلي عن فكرة توحيد فيتنام (غيتي) ) الورطة والمقاومة

بدأ التورط الأميركي عمليا في حرب فيتنام بعد خروج القوات الفرنسية، ومنذ عام 1961 أرسلت واشنطن 400 من الجنود والمستشارين لمساعدة حكومة سايغون الموالية في مواجهته قوة هو شي منه الشيوعية، ومع التوصيات بزيادة المساعدات استجاب الرئيس جون كينيدي. وبحلول عام 1962 زاد الوجود العسكري الأميركي في جنوب فيتنام إلى نحو 9 آلاف جندي.

إعلان

ومع بداية عهد الرئيس ليندون جونسون (1963-1969) -الذي منحه الكونغرس صلاحيات واسعة في الشؤون الحربية- بدأت القاذفات الأميركية تنفيذ عمليات قصف منتظمة على فيتنام الشمالية وقوات "الفيت- كونغ" (الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام). وفي مارس/آذار 1965، بدأ تدفق القوات الأميركية إلى فيتنام الشمالية، حتى وصل إلى 200 ألف عام 1966، ثم نحو 500 ألف في نوفمبر/تشرين الثاني 1967.

وكانت قوات الزعيم هو شي منه، وقائد العمليات الجنرال جياب، تعتمد على التكتيكات الحربية النوعية والهجمات الخاطفة والكمائن والأنفاق والحرب الطويلة الأمد كما كانت تعتمد على الإمدادات القادمة من كمبوديا ولاوس المجاورتين، وعلى الدعم النوعي الذي تتلقاه من الصين ومن الاتحاد السوفياتي، خصوصا منظومات الدفاع الجوي التي أسقطت عشرات قاذفات "بي-52". ومع بداية عام 1968 بلغت الخسائر الأميركية 15 ألف قتيل و109 آلاف جريح.

وفي المقابل، زادت الولايات المتحدة من وتيرة القصف الجوي العنيف واستعمال الأسلحة المحرمة دوليا مثل "النابالم" وما سمي "العامل البرتقالي" -الذي يحتوي على "الديوكسين" وهو أكثر تلك المبيدات ضررا وفتكا- على فيتنام ولاوس وكمبوديا، ومازالت آثاره البيئية الخطيرة قائمة.

فتاة النابالم اعتبرت وثيقة تدين الحرب الأميركية في فيتنام (أسوشيتد برس) صورة الهزيمة

لم تكن الخسائر البشرية لوحدها ذات التأثير الأكبر فيما اعتبر هزيمة أميركية عسكرية وأخلاقية في فيتنام، فقد مثلت تلك الحرب أول "حرب تلفزيونية" مع بروز سطوة التلفزيون والصورة، وكانت للتقارير الإعلامية عن المجازر في فيتنام ذات تأثير واسع في الرأي العالم الأميركي والعالمي وفي قرارات الإدارة الأميركية لاحقا، خصوصا صورة "طفلة النابالم" التي كانت تجري عارية بعد أن أسقطت طائرة أميركية مادة النابالم الحارقة على قريتها في 8 يونيو/حزيران 1972.

إعلان

وفي 29 أبريل/نيسان 1975، ألقى الرئيس الأميركي جيرالد فورد (1974-1977) بيانا أعلن فيه إجلاء الموظفين الأميركيين من فيتنام قائلا "تعرض مطار سايغون لقصف صاروخي ومدفعي متواصل، وأُغلق بالكامل. تدهور الوضع العسكري في المنطقة بسرعة. لذلك، أمرتُ بإجلاء جميع الموظفين الأميركيين المتبقين في جنوب فيتنام" وكانت تلك نهاية الوجود الأميركي في هذه البلاد، ودخول قوات الجنرال جياب إلى المدينة اليوم التالي.

ولا تزال مجريات حرب فيتنام، بمآسيها وصمود مقاومتها وتوحيد شطريها، من بين أحداث العالم الفارقة خلال القرن العشرين، وواحدة من الحروب التي غيّرت وجه الولايات المتحدة والعالم بأبعادها العسكرية والسياسية وآثارها الإنسانية، كما باتت تكتيكاتها وأساليبها تدرس في الكليات العسكرية، وتتبعها حركات مقاومة أخرى حول العالم.

وبينما تحتفل بالذكرى الخمسين ليوم تحرير الجنوب وإعادة التوحيد الوطني، لم تعد مدينة سايغون (عاصمة فيتنام الجنوبية سابقا) -التي باتت تسمى هو شي منه نسبة إلى الزعيم الأسطوري لفيتنام- رهينة جراحات الماضي الأليم وأهواله، فقد تحولت على مدى الـ50 عاما الماضية إلى مدينة ناطحات سحاب براقة، وأعمال مزدهرة ومركز صناعي حيوي ونقطة جذب سياحية عالمية.

مقالات مشابهة

  • مظاهرة في مأرب تنديدا بجرائم الاحتلال وللمطالبة بوقف العدوان على غزة
  • الأونروا: الحصار الإسرائيلي على غزة يقتل مزيدا من الأطفال والنساء يوميا
  • أميركا تريد استئناف المساعدات الإنسانية إلى غزة بينما تواصل دعم الحرب
  • تصعيد إسرائيلي مستمر في غزة واستشهاد أطفال بـ مدينة خان يونس
  • عاجل | ارتفاع عدد شهداء قطاع عزة إلى 52.418 شهيدًا و118.091 مصابًا
  • منظمات إنسانية تحذّر من تحول قطاع غزة إلى «مقبرة جماعية »
  • الأردن يطالب مجلس الأمن إلزام “إسرائيل” بإدخال المساعدات إلى غزة
  • هجوم مسلح.. تفاصيل محاولة اقتحام سفارة تل أبيب فى لندن
  • غوتيريش: إدخال المساعدات إلى غزة “غير قابل للتفاوض”
  • 50 عاما على نهاية حرب فيتنام التي غيّرت أميركا والعالم