الجزيرة:
2025-02-17@00:36:19 GMT

كيف نتحرر؟! شهادة شيخ بلغ الستين

تاريخ النشر: 20th, May 2024 GMT

كيف نتحرر؟! شهادة شيخ بلغ الستين

ما الذي يمكن أن يقدّمه شيخ مثلي بلغ – هذا الأسبوع – الستّين من عمره من شهادة فكرية وسياسيّة على مجريات الأحداث في مصر والمنطقة والعالم؟

مثّلت هذه المناسبة فرصة للتقييم الذاتي لما كتبت على مدار السنوات الخمس الماضية -مرحلة ما بعد السجن- والتي صدرت في كتب خمسة، بالإضافة إلى المشاركة في كتاب محرّر بمناسبة مرور عقد على الانتفاضات العربية.

كان الهاجس الذي تملّكني وأنا أكتب بانتظام أسبوعيًا في هذه السنوات ألا أكون ظهيرًا للمستبدّين. ما اكتشفته من تجربة السنوات الماضية أن مفهوم الاستبداد يكتسب معنى شاملًا في حياتنا لا يقتصر على تغوّل وطغيان السلطة العليا في الدولة؛ وإنما يتغذّى على شيوعه في جميع مجالات حياتنا. يظهر في الاقتصاد، كما يبدو في علاقات الذكر والأنثى في المجتمع. يشيع الاستبداد في هياكل توزيع الثروة والموارد، وبين أصحاب الحظوة الذين يستأثرون بها فيجعلونها دُولة بين شبكاتهم، وتحرم فئات عريضة في المجتمع من العيش الكريم.

هل ما ننتجه من معرفة، أو نساهم به في تشكيل النقاش العام ندعم به الهياكل التسلطية التي أحاطت بنا، ولم تترك ركنًا إلا احتلته، أم نساهم في تفكيكها؟

قواعد في إنتاج المعرفة من أجل التحرر أولًا: إدراك جوهر المشكل التاريخي

المشكل، كما برز في العقد الماضي هو إعادة بناء الدولة الوطنية بتجديد أصولها وإصلاح هياكلها من خلال بناء نظام ديمقراطي تشاركي تعدّدي قادر على أن يلبّي الاحتياجات الأساسية للمواطنين، ويحقق تحرير الإرادة الوطنية من هيمنة شبكات المصالح الممتدة في هياكل الدولة.

المشكل التاريخي الآن بالمسألة الديمقراطية بجناحَيها: السياسي والاجتماعي، والتي لا يمكن تحقيقها إلا في إطار تحرير الإرادة الوطنية من هيمنة الإقليمي والدولي.

أما المشكل التنظيمي، فهو وجود حركات وطنية ديمقراطية ذات مرجعيّات فكرية متعددة.

القراءة التاريخية لانتفاضات الربيع العربي -التي أعدّ طوفان الأقصى موجة من موجاتها المتعاقبة التي لم تنتهِ بعد- هي أننا أمام إعادة تشكل للتاريخ كله في المنطقة، نحن أمام محطة تاريخية فاصلة.

ثانيًا: المعرفة منفعة عامة

وهذا يستدعي أن تكون سبيلًا للتغيير لصالح فئات اجتماعية متسعة. المطلوب هو التأثير في السياسات العامة، وأولوية الإنفاق العام ليكون أكثر تعبيرًا عن تطلعات الناس العادية واحتياجاتهم الملحّة.

فما يحدث هو انتقال من السياسة إلى السياسات، وفيه نشهد تحولًا من السياسة باعتبارها عملية مؤسسية تضطلع بها نخبة محدودة إلى عمليات سياسية متعددة يقوم بها أصحاب مصلحة كثر، وهي لا تدور حول قضايا محدودة، وإنما الموضوعات التي تتأثر بها حياة المواطن اليومية من الخبز إلى الحرب في غزة.

في السياسة لا يجوز النظر للمرجعية منفصلة عن الواقع أبدًا، وإنما يجب النظر إليها من خلال مؤداها الواقعي في ظروف الزمان والمكان الذي نعيش فيه، أو مُورست فيه، أو ستمارس فيه، لا النظر إليها مجردة من الواقع التطبيقي، بل من خلال المؤدَّى العملي للأفكار.

المطلوب الآن ليس حديثًا في المرجعيات الأيديولوجية والأطر الفكرية العامة، ولكن تقديم سياسات عامة وبرامج تفصيلية من شأنها أن تعالج مشاكل الناس الواقعية، وتجيب عن أسئلتهم الصغرى.

ثالثًا: خلق معيارية جديدة

وهي تظهر أكثر ما تظهر في السوشيال ميديا التي لا يقتصر دورها على تفعيل الجدل العام فقط الذي تحاول أن تصادره السلطات في كل مكان؛ ولكن يجري أيضًا خلق معايير جديدة، يتمّ من خلالها تقييم المواقف والسلوكيات والسياسات والإجراءات، وتقديم سرديات بديلة تتحدّى الروايات السائدة أو المهيمنة، ويجري فيها القضاء على المركز والمرجعيات والرموز، حيث لا قداسة لأحد، وإنما القناعة والقبول والنفع والعملية.

نؤكّد أن المعايير المرجعية للسياسة لم تعد أيديولوجية؛ بل يومية حياتية، وهي لم تعد ثابتة غير قابلة للتغيير، ويختفي معها الإجماع المهيمن أو الرواية السائدة. وأخيرًا، فإن ما يستحق المتابعة، كيف تعاد صياغة وتشكيل الإطار المعياري في العالم – كما يجري في ردود الفعل العالمية على الإبادة الجماعية في غزة – بين نموذجين: التنوع والتمرد من جهة، والضبط والتحكم من جهة أخرى؟

رابعًا: إعادة تشكيل وصياغة النقاش العام

والمبرّر هو التحوُّلات الكبرى في الأوطان وفي الإقليم والعالم.

تشكيل النقاش العام يستدعي أربع عمليات متكاملة:

التقاط الموضوعات الجديدة، مثل تغير هيكل القوى في النظام الدولي، وتطورات التكنولوجيا، وتغير طبيعة الاقتصاد مع إعادة التفكير في العولمة، وتصاعد صوت الأجيال الشابة في السياسة، ووضع القضية الفلسطينية في أفق عالمي يشمل الحقوقي والقانون الدولي الإنساني، ويضم مفاهيم العدالة ومناهضة السلطة، ورفض القوة، ويحتفي بالتعددية بكل أشكالها.. إلخ. ضرورة إعادة صياغة الأسئلة والإشكالات وعدم استدعائها بشكل تلقائي: في القرن العشرين حكمتنا ثنائيات متعارضة من قبيل: نحن والغرب، الحداثة والدين، نحن الآن بإزاء صيغ جديدة تقوم ببناء شبكتها غير الهرمية واللامركزية على قضايا جزئية محددة، مثل: التضامن مع غزة، وحقوق الإنسان، والجندر، والبيئة.. إلخ. استدعاء مستمر لأصوات جديدة للنقاش العام وتمكين الأصوات المهمّشة:  إنتاج المعرفة لم يعد عمليّة مركزية يقوم عليها خبراء تحصلوا على تكوين معرفي ومهني محدد؛ بل بات ذلك عملية لا مركزية يشارك في صياغتها أناس كثيرون. أثبت "طوفان الأقصى" قدرة المقاومة على إنتاج التكنولوجيا في ظل قيود شديدة، وحصار محكم بما يلبي احتياجاتها في مواجهة تكنولوجيا متقدمة لا تملك غير التوحّش والإبادة الجماعيّة سبيلًا، وعجزت تكنولوجيا التوحّش عن القضاء على المقاومة، ولا أظنها تحققه. التشبيك: دشنت خبرة الربيع العربي نوعًا جديدًا من المعرفة لم تعرفه المنطقة العربية من قبل، وهو اشتراك فواعل متعددة في إنتاج المعرفة الخادمة للتغيير، حيث يشارك فيها المحلي أكثر من المركز، وينتهجها أهل القرى والأرياف أكثر من المدن والعواصم الكبرى. خامسًا: امتلاك شجاعة المراجعة والنقد الذاتي

هل نحتاج لهزائمَ ونكساتٍ على غرار هزيمة 67، أو تعثرات في مسار الفترات الانتقالية – مثل ما شهدناه بعد الربيع، أو أزمات وطنيّة شاملة – وفق ما نشهده الآن في جلّ الدول العربية، أو حروبٍ أهلية …؛ لنقوم بعمليات المراجعة الوطنية لمجمل القواعد التي قامت عليها الدولة وتأسّس عليها المجتمع، والمسلّمات التي تحكم نظرتنا لأنفسنا والعالم المحيط بنا؟

صحيح أنّ الهزائم والتعثرات والمآزق الوطنية أحد شروط البدء في المراجعات، لكن السؤال الأهم: لماذا لا نمارس عمليات المراجعة بشكل دائم ومستمر؟ ولماذا لا نتجنّب الهزائم والنكسات والأزمات بالمراجعة؟ و"النون" هنا عائدة على الدولة والمجتمع، والنخب والتنظيمات والكيانات.

أسئلة أخرى: لماذا لا يراكم العرب ولا يتعلمون من أخطائهم التاريخية، أو حتى الأزمات التي تمرّ بهم، وبالتالي تصبح قدرتهم محدودة على المراجعة ونقد الذات؟ وهل بات قدرنا أن نكون في دورة تاريخية لإعادة إنتاج النكسات والأزمات والمآزق الوطنية العامة دون هوادة ولا توقف؟

متطلبات أربعة للمراجعة استشعار نفسي وقيمي يشيع في المجال العام، يدفع للمراجعة دون وَجَل ولا خوف، ولن يتحقّق ذلك إلا بتجاوز مناخ الاستقطاب الذي يقوم بتوظيف هذه المراجعات في عمليات دعائية أقلّ ما يقال عنها أنها رديئة. إطلاق حالة حوار حقيقية. أنا أدرك أن كلمة الحوار قد ابتذلت من الجميع، ولكني أعلم أيضًا بحكم تخصصي وممارستي تصميم عمليات الوساطة والحوار، أنّ ما يطلَق عليه حوارٌ ليس كذلك؛ وإنما توظيفات سياسية رديئة لعملية لها شروطها ومتطلباتها التي لم يحرص أحد على توفيرها. فاعلون اجتماعيون ونخب قادرة على أن تسهم في هذا التجديد بما تملكه من خبرات ومهارات وانفتاح على العالم، وقدرة على ترجمة التصورات إلى برامج وسياسات. وجود هياكل سياسية قادرة على الاستفادة من هذه المراجعات بتحويلها إلى سياسات وبرامج.

استعادة السياسة ستجعل من المراجعات صفة لصيقة لحياتنا كلها. السياسة في أحد جوانبها بدائل متنافسة، ولن يتحقق لها ذلك إلا بنقد بدائل السلطة والمعارضة بما يدفع أصحابها للمراجعة كمقدّمة ضروريّة للإصلاح.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: ترجمات حريات

إقرأ أيضاً:

هندرة الدولة السودانية

*السؤال:*
*أَنْ كيف نبني أمة سودانوية مُوحدة في دولة سودانية واحدة ؟؟*
*لقد تَغَشّت دولتنا السودانية الحديثة منذ تأسيسها غاشيات عديدة عصفت بها حين غادرها جنوبنا الحبيب مُختاراً لإستقلاله بعد أطول صراع أهلي دموي (56 عام تقريباً) شهدته قارة إفريقيا بدأ في توريت من العام 1955 وإنتهي في يوليو 2012* *بل ومُرشح لأن يستمر صِراعاً بين دولتين كانتا يوماً ما دولة واحدة* *بسبب منطقة أبيي ومناطق حُدودية أخري* *لم يتم حسم تبعيتها بعد.*
*رغم تزامُن صراعاتنا الدموية في جنُوبِيِّنا وغرِبيِّنا لفترة لا تقل عن ثمانية سنوات هي تاريخ إندلاع الحرب في* *دارفور غربي البلاد من العام 2003 وإستقلال جنوبِيِّها في العام 2011 وما تلاها وصاحبها من حُروب في جنوبِي كردفان والنيل الأزرق إلا أن الذهنية العامة لذوي الصلة بإدارة بنيان وهياكل الدولة السودانية تبدو حائرة من غير إعتراف أمين بحيرتها من الإجابة علي السؤال الماثل أمامنا الآن وبعد إنقضاء سِت عقود ونيف وهو لِمهْ كل هذا الكَمْ والكَيْف من الصراعات والحروب ؟؟*
*لقد تعددت وتنوعت الصراعات والحروب في الدولة السودانية وإن إتفقت وتشابهت في بداياتها المطلبية التي لم تَتعدَ سقوف الفيدرالية أو الحكم الذاتي في جنوبِيِّنا أو التنمية المتوازنة في غربِيِّنا ورغم ذلك فإن ذات الذهنية العامة لذوي الصلة بإدارة بنيان وهياكل الدولة لم تنتبه لنوعٍ معروف من الحروب وهي الحرب الإقتصادية التي نشبت في شرقي البلاد (يوليو 2021) وما جَرّته عليها من مُهددات لوحدة الدولة والمشروع الفطري لبناء الأمة إلي جانب خسائر إقتصادية يصعب تعويضها علي المدي القريب..*
*لم ينحسر تعدُد وتنوُع الصراعات والحروب ليقف مُصطدماً بحائط صَد يُعيد ولو قليل من الرُشْد الوطني لعُقول وقلوب وأوجدة وضمائر ساسة وقادة تِلكمُ الصراعات والحروب، فشهدنا عما يُعرف بظاهرة (الدروع) كدرع البطانة في الوسط ودرع الشمال في شمالِي البلاد وقوات أحزاب الشرق في شرقِيها، وأخيراً بِنُشوب حرب الخرطوم في الخامس عشر من أبريل 2023 بين من يُفترض أنهما عِماداً أساسياً لحائط الصد الوطني فبلغ وللأسف تعدُد وتنوُع الصراعات والحروب في الدولة السودانية مداهُ الأقصي، إن غياب حائط الصد من وجهة نظري هو ما يشرح وبوضوح مدي الحاجَة إلي مشروع وطني لهندرة الدولة السودانية ..*
*إن هذا المقال وبمَدْخلِيَته في الطَرْح هو مجرد دعوة تَنافُس مُبرَّأ من أسقامِنا وعِلَلنِا التي أنهكت كل القوي السياسية والمدنية وبكل أطيافها وألوانها كيما تجترح حُلولاً ذات صلةٍ وثيقةٍ بما أُسميه بالواقع الأصيل للمجتمعات السودانية داخل الدولة وإمتداداتها أيضاً خارج الحدود، بالطبع فإن عملية إجتراح الحلول هذي لابد أن تتسم بصِدْقِية مُتناهية وعَقلٌية مّتفَتِحة لا تُصيبها أي دهشة عند إصطدامها بمطلوبات حائط الصد الذي نُريد ونشتهي لبقاء دَولتِنا كدولة واحدة وناهضة وناشدِة لتَحوُل مُجتمعاتها إلي أُمة مُوحدة، لذا تأتي وفي صدارة هذه المطلوبات هي التنازلات العظيمة عِظم التاريخ الطارف والتليد لحضارتنا المخبوءة تحت دُخَان صراعاتنا ولهيب شهواتنا ومن غير أُفٍ ولا شُحٍ بعيداً عن أي قَوْلبة عَقَدية يميناً كانت أم يساراً ..*

من مقالتي بعد 45 يوماً فقط من الحرب  

مقالات مشابهة

  • “ساعة للتاريخ”.. شهادة من قلب السياسة اليمنية
  • سعداوي يستقبل الأمين العام للنقابة الوطنية لعمال التربية
  • قيادي بمستقبل وطن: تقرير الحكومة شهادة على معركة الدولة اليومية ضد الشائعات
  • الحرية المصري: كثرة الشائعات في 2024 يعكس حجم التحديات التي تواجهها مصر
  • الباروني: تحقيق المصالحة الوطنية لن يكون ممكنًا إلا بعد انتخاب رئيس شرعي ووضع دستور ينظم الدولة
  • الجزيرة نت تكشف تفاصيل أزمة الطائرات الإيرانية في لبنان
  • “ساعة للتاريخ”.. شهادة من قلب السياسة اليمنية
  • المبروك: الميليشيات ليست مجرد جماعات مسلحة بل عامل رئيسي في تأجيج الانقسامات الوطنية
  • الرباط: تأسيس النقابة الوطنية لمهنيي الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة
  • هندرة الدولة السودانية