من فقه الواقع بمكة المكرمة

الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله اما بعد :

فقد أنجبت ام القرى على طول تاريخها العريق عددا وافرا من العلماء والمؤرخين والبلدانيين والفقهاء والأدلاء البارعين في العلم والواقع حتى ضرب المثل بأهل مكة فقيل ( اهل مكة اعرف بشعابها) ورغم ان هذه المقولةعليها ما عليها الا انه فعلا كان لبعض اهلها حظ ونصيب منها الأمر الذي يدل على ان المثل يحمل دلالة رمزية توحي بفهم اهلها وعلمهم عن واقعها أرضا واثرا وليس هذا بغريب فقد برع في الإسلام عدد من الصحابة والتابعين من اهل العلم والفقه في المواقع المكية ومناسكها وأحكامها ومعالمها أمثال عبدالله ابن عمر وابنه سالم ومولاه نافع وغيرهم كعطاء ابن أبي رباح وتلميذه ابن جريج وعبدالله بن اريقط الليثي الذي كان خريتا ماهرا في الطرق والمسالك حول مكة ومثله الإمام الواقدي كان حريصا على معرفة الوقائع والواقع في مكة وكذلك قبيلة قريش كان لهم معرفة تامة بارض مكة وتاريخها وحضارتها كالصديق رضي الله عنه وابنه عبدالرحمن وعمر وعلى رضي الله عنهم أجمعين وكذلك محمد بن علي الشافعي الذي بنى مسجده في الموضع الذي اعتمرت منه عائشة بالتنعيم.

يقول ابن فضل الله العمري (749هـ) في ترجمة بركة بن ملك بن محمد القرشي السهمي المكي أنه لقيه بمكة وحكى له من أخبار مكة وأمرائها ما ذلّل عنده صعابها، قال “وعُرف من جوامع كلِمه أن أهل مكة أخبر بشعابها.

وقد كان حماد الأنصاري (1418هـ) المولود في مالي ثم هاجر إلى مكة وتتلمذ عليه كثير من أهل العلم فيها، يقول عن مكة(( كدت أن أكون أعرف بها من أهلها؛ حيث كنت أتجوّل فيها وأنا شاب من أجل أن ينطبق عليّ قولهم: أهل مكة أدرى بشعابها)).

وايضا كان لقبيلة خزاعة معرفة باعلام مكة ومعالمها كابن كرز وعمرو بن سالم رضي الله عنهما.

هذا بالإضافة إلى قبيلة هذيل التي برز منها اناس على علم ودراية بارض مكة وماحولها من الطرق والاماكن والجبال حيث كانت مساكنهم ومراعيهم فيها ولكن حقيقة من هو أعلم الناس بواقع مكة المكرمة ومواقعها ؟

من الثابت ان مكة نالت مكانة مرموقةعند الانبياء كآدم وإبراهيم اللذان ارتبطا بها تشريعا ومكانا وحفظ لنا الكتاب والسنة والمصادر شيئا من سيرتهم وحياتهم فيهاوذلك من خلال اسماء مشاعرها وشعائرها والتشريعات والايات التي ارتبطت بمعالمها كالمقام والبيت الحرام قال تعالى ((فيه آيات بينات مقام ايراهبم ومن دخله كان امنا )) ويقول تعالى(( إن اول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا)) كما اصل القرآن الكريم مفهوم المشعر الحرام في قول الله عز وجل (فاذكروا الله عند المشعر الحرام))
كما حظيت مكة بتعظيم واجلال من أهلها الكرام والمسلمين عامه لانها مهوى الافئدة وقبلة الإسلام وموضع البيت فاتاها القريب والبعيد على اختلاف مطالبهم كالرحالة والحجاج و التجار والزوار من أمثال ابن بطوطة وابن جبير وابن رشد السبتي و ودومنجو باديا وحجي محمود الصيني و محمد هيكل وغيرهم من المهتمين من المستشرقين والاسيويين الذين زاروها و كتبوا عنها ووصفوا احوالها واشاراوا الى معالمها واشادوا بحضارتها من خلال حديثهم عن طرقها وجبالها وأوديتها ومشاعرها و مساجدها وثتاياها ومساكنها ومواقعها ومواقيتها واعلام حرمها وغير ذلك من تراثها الجغرافي الأصيل.

بيد انه إجابة على السؤال فإن اعلم الناس بمكة شريعة وطبيعة هو النبي محمد فقد كان العالم الخبير والفقيه البصير بواقع مكة ومواقعها والرجل الملهم الملم باحداثها التاريخية ومعالمها الطبيعية ومشاعرها وشعائرها وأحكامها الشرعية.

حيث كان عليه الصلاة والسلام يتنقل بين شعابها واوديتها واطرافها وجبالها وطرقها فعاش معها بقلبه وعقله وجسده وفكره لانه قضى معظم عمره فيها من لدن طفولته إلى هجرته وكان يحبها حبا جما من حب الله لها فتعرف عليها عن قرب بكل حب وشغف بالمشاهدة والأحاسيس والمشاركة الفاعلة والملاحظة الدقيقة والنظرة الحصيفة التي نقلت لنا مواقف وتاريخ وتراث وحضارة واحكام من التشريع ومعلومات عن واقع مكة ومواقعها لم يذكر عن غيره عليه الصلاة والسلام قد قالها وكان له معها سيرة وقصة وذلك بما اوحى الله اليه ومااتاه من علم وتوفيق وما الهمه من فقه ومنهج ونور واخلاص واخلاق فجاء تجوله فيها عبادة وتأملا والمشاهدة بنظره في نواحيها تفكرا وتدبرا في مخلوقات الله واياته قبل بعثته وبعدها .

حيث سلك طرقها وعرف مداخلها ومخارجها إلى عرفة والمغمس والحدببية وجعرانه واسواق الجاهلية كسوق ذي المجاز ومجنه وطرق الطائف وموقع وادي حنين وغار ثور وطريق الهجرة و سوق حباشة فأصبح عليه الصلاة والسلام لديه اطلاع واسع بالمواقع والأثار والمعالم في مكة وذلك لارتباطها بالوحي والايات و التشريع والمصالح والعبادة فنشات بينه وبينها علاقة عضوية مستديمه تمثلت في وشائج الحب والتواصل الجسدي والواقعي ومشاعر العطف والرحمه المتبادلة مع مخلوقات الله كالجمادات في رحاب مكة الطاهرة يقول علي رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله (صلى الله عليه سلم) بمكة فخرجنا في بعض نواحيها، فما استقبله شجر ولا حجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله)مستدرك الحاكم عن جابر بن سمرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه سلم) (إني لأعرفُ حجراً كان يُسلِّم عليَّ قبل أن أبُعث، إني لأعرفه الآن) .

ومن جهة أخرى ارتبطت شهرة بعض المعالم والمواقع المكية بسيرة النبي الكريم وبما ايده الله من معجزات وما حصل له من احداث بوقوفه عندها لبرهة قد تطول او تقصر كالجموم او النزول بجانبها كبئر الحديبية او المرور بحاذائها او الدعاء والصلاة عندها كبئر طوى أو حديثه عنها او المشاركه في صنع تاريخها كثنية ذات الحنظل وشعب الحجون وغار ثور وقرن الثعالب ووادي عرنه ومحسر وشعب المبال وطريق ضب ووادي سرف ومسجد الخيف المأزمين وثنية اذاخر وغيرها من المعالم المرتبطه بسيرة النبي محمد حيث ساهم علبه الصلاة والسلام في تحديد المشاعر وحدود الحرم الشريف بقوله وفعله كما في حديث جبير بن مطعم عند أحمد ولفظه (( كل عرفات موقف وارتفعوا عن عرنة، وكل مزدلفة موقف وارتفعوا عن وادي محسر، وكل فجاج منى منحر، وكل أيام التشريق ذبح)).

وايضا فعله حين بركت ناقته على حد الحرم وقوله في ذلك (( ولكن حبسها حابس الفيل)) وكذلك من خلال تحديده موقع وادي السرر بين يدي مأزمي منى وذاهبه تكرارا ومرارا على جبل حراء للتعبد وسؤاله الصحابة عن ثنية ذات الحنظل وكذلك معرفته بوادي ابراهيم وبطنه وجباله وثناياه الموصلة إلى المسجد الحرام ككداء وكدى وكدي والشعاب المتصله به ولاغرو في ذلك فهو الوادي المسمى باسم جده الخليل ابراهيم باني الكعبة المشرفة ومعه ابنه اسماعيل الذي تفجر ماء زمزم بين قدميه كمعلم ثابت في هذه البقعة المقدسة وانبطه جده الادنى عبدالمطلب في عهد قريش فارتبط الوادي باباءه واجداده من خلال ارتياطهم بالبيت الحرام ((ربنا اني اسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم )).

فاقاموا على جنباته المساكن المتنوعه فارتبطت حياة النبي به فقد ولد ونشأ في طرفه وتشرف بأن وطأته أقدامه وحبس في احد شعاب جباله ونزل في بطحائه وصلى في بيت الله بوسطه وسعى وطاف بالصفا والمروة على جانبيه وعظم شعائره ودعا الناس فيه وحطم الاصنام حول مركزه الكعبة فأصبح النبي بهذا يمتلك كم معرفي هائل وخبرة وفقه في مكه وتاريخها وظواهرها ومعالمها من خلال دعوته الإسلامية وماجاء به من عند الاله من التشريعات التي صنعت منه رجلا ملهما في مواضعها وشعائرها بل ان أعظم اتصال روحي حصل بينه وبين الله عز وجل بمكة كان بواسطة الوحي الذي نزل عليه في البقاع المقدسة والمعالم الشريفه كغار حراء.

وحقيقة لولا النبي لما دخلت بعص معالم مكة التاريخ ولم يعرفها احد من البشر ولظلت مغمورة للأبد حيث كان عليه الصلاة والسلام علم فاعل وشاهد عيان وعالم ميداني متمكن من معرفة ارض الوحي ومواقعها في زمانه فكما كان فقيها في الشريعة فقد كان فقيها في الطبيعة باقواله وأفعاله العظيمةعليه الصلاة والسلام
في الختام نقول ان مثل هذه الثروة العلمية عن تاريخ المعالم والمواقع بمكة تمثل نشاطا حيويا للإعلام والإرشاد السياحي حاضرا ومستقبلا ومطلبا للزواروقاصدين بيت الله الحرام ينبغي الاهتمام بها وتسليط الضوءعليها حيث يغد مكسبا وموردا هاما للجهات المسوؤلة عن التراث والسياحة السعودية.

المصدر: صحيفة صدى