لجريدة عمان:
2024-11-07@16:42:54 GMT

فكر السلطة .. «مثل ما أوتي قارون»

تاريخ النشر: 20th, May 2024 GMT

تمثل السلطة حالة وجودية لا غنى عنها لأي تجمع بشري، فالسلطة هي القيادة، والقيادة لا بد لها أن تكون لها قوة ونفوذ -ليس من قبيل التسلط- وإنما لتنفيذ الأوامر والنواهي حتى تسير الأمور سيرًا طبيعيًا في هذا التجمع البشري، أو ذاك، ولذلك فهي تأخذ منحى الاستحواذ وهو منحى بقدر أنه لا بد منه لمتطلبات السلطة، إلا أنه في الوقت نفسه لا يخرج عن كونه جزءًا من السلطة، وليس السلطة مطلقة به، ولذلك تظل في كثير من التجارب البشرية إشكالية فهم وتنفيذ هذا المفهوم «الاستحواذ» وهذا يقاس على كل مستويات السلطة، وليس فقط في مفهوم السلطة السياسية في أي نظام سياسي قائم، ولا نختزل المفهوم عندما نسقطه على مستوى الأسرة الصغيرة المكونة من زوج وزوجته وأولادهما فقط، حيث تتحقق السلطة، ويتحقق النفوذ، ويتحقق الاستحواذ، وتتحقق القوة، وقد يفضي كل ذلك في حالة عدم الفهم للأدوار إلى مشاكل من شأنها أن تقوض عمل السلطة، وهذا مأزق الكثير من تجارب السلطة، والقليل مما هو ناجح في هذه التجارب سواء السابقة، أو اللاحقة، وإن استطاع الإنسان اليوم بحكم التجربة والمعرفة والمحاكاة إلى تنظيم أمر السلطة من خلال استحداث سلطات معززة لدور السلطة الأم «السياسية» وهي ما يعرف بالسلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية، والقضائية، ومع ذلك فلا تزال الخروقات والتجاوزات قائمة في مستويات هذه السلطات الثلاث، ولو بنسب متفاوتة، وتتعمق الصورة أكثر في تجاوز السلطات عندما يُغَيِّب القانون المنظم في كل سلطة، أو عندما تتقارب المصالح وتتداخل فيما يعرف بـ«تضارب المصالح» ولا ينقذ ذلك إلا مستويات الذكاء والفطنة والدهاء والتيقظ عند رأس هرم السلطة، حيث تؤول إليه الأمور كلها والعبرة بـ«الخواتيم».

ينظر إلى القيادة في مفهوم السلطة على أنها ليست استحقاقا في ذاتها، وإنما لا بد أن تعززها مجموعة من العوامل الداعمة لفاعليتها، وفي مقدمة هذه العوامل عامل المعرفة، وتزداد أهمية هذه المعرفة مع تقدم عمر السلطة، فالخبرة العملية ليست كافية لتعزيز دورها، وفاعليته على الواقع؛ لأن هذا الأمر مرتبط بالأجيال المتلاحقة من المجموعات البشرية والذين هم من يكونون تحت قيادة السلطة، وبالتالي فإن لم يتواكب المستوى المعرفي الذي تقود به السلطة أجيالها، فإن العلاقة بين الطرفين معرضة لشيء من الصدام، أو على الأقل تباينات كثيرة في المواقف، وفي تطبيق ما تسعى السلطة إلى تنفيذه، من برامج وخطط إنمائية ، فلم يعد «فرض الأمر الواقع» مقبولا بصورة مطلقة في تجربة السلطة الحديثة، ومع التسليم لمنطق المعرفة فإنه لن يكون هناك فرض أمر واقع إطلاقا؛ لأن الأمر قبل فرضه على الواقع، فقد دخل في مناقشات، وتحليلات واستنتاجات، واستخلاص نتائج، وهذه الخطوات تتم كلها بالتوافق بين الطرفين، ومن هنا تأتي أهمية السلطة التشريعية لـ«المجلس المنتخب» لأنه المجسر للمسافة الفاصلة بين السلطة السياسية الكبرى «قمة الهرم» وبين المجموعات البشرية التي تديرها هذه السلطة، ولذلك يذهب البعض في تقييم أخطاء السلطة التنفيذية إلى المنحى المعرفي بالدرجة الأساس، ومن ثم ينظر إلى السلطة القضائية وقوة الدور الذي تلعبه لتحييد أخطاء السلطة التنفيذية وتقويمها بما تسعى إلى تحقيقه السلطة السياسية بما يخدم المصلحة العامة، ومن هنا يأتي الحرص والمسعى إلى ضرورة بل حتمية أن تعمل هذه السلطات الثلاث وفق رؤية واضحة ومتكاملة، وبمسؤولية وطنية كبرى تتجاوز كل المظان الخاصة التي تؤثر على سير عملها، والـ«ضرب بيد من حديد» على كل من تسول نفسه اللعب بالخطط والبرامج التي تضعها السلطة السياسية لرفعة شأن الوطن، وخدمة مواطنيه.

يشكل المال أحد أهم الوسائل المهمة في فكر السلطة وقوتها ليس فقط لأنه يعزز القدرة على التملك - بكل ما تعنيه كلمة تملك - ولكنه يعزز الجانب الوجداني للنفس البشرية، وينقلها من حالتها العادية «الفطرة» إلى حالتها الشعورية القادرة على الحصول على ما لا يمكن للآخرين تملكه، وهذا الشعور هو الذي يرسخ الانطباعات لدى الآخرين بضرورة السعي لجلب أكثر للمال، وعند البعض بأي طريقة كانت (حلالًا أم حرامًا) يضر بمصالح الآخرين أو غير ذلك، وهذه من الإشكاليات التي تواجهها السلطة، في كل مراحلها المستمرة، فالأمر ليس موقوتا بزمن معين من زمن السلطة، وعبء هذا الأمر أنه لا يتحمل وطأته في حالة الإخفاق الفرد نفسه، وإنما ترتفع أهميته على مستويات السلطة الكبرى، ذلك أن أي إخفاق يقع فيه فرد ما من أفراد المجتمع في شأن الحصول على المال بطريقة غير قانونية، فإن مرد ذلك إلى إخفاقات في القوانين التي تضعها السلطة لتنظيم المسألة المالية، وفيه نعود من جديد إلى القوة الرادعة التي تحمي المال العام، من ناحية، وإلى كف التطاول عليه من ناحية ثانية، وهذا الأمر يوجد تحديات مستمرة، ولن تتوقف عند مرحلة معينة من مراحل السلطة، وذلك لسبب مهم، وهو وجود الإنسان الفرد، المحكوم بتجاذبات نفسية كثيرة منها: الضعف، الطمع، المصلحة، القدرة على اختراق نقاط الضعف في القوانين، وبالتالي يظل القانون الناجز هو الكفيل لإيقاف من تسول له نفسه بأخذ ما لا يستحق.

تحل قصة قارون كأحد أهم الأمثلة المغرية لسلطة المال، وسلطة الحكم، والسلطة الشعورية للصورة الاحتفالية الزاهية البراقة التي تجذب الآخرين إليها، فهذه كلها تسيل لعاب ضعاف النفوس، وتحفز عندهم ضرورة الاستحواذ على المال والسلطة، فالمال وفق هذه الصورة أكبر ممول للسلطة، والسلطة بدون مال، تبقى كمن يمشي على عكاز، ولذلك جاءت ردة الفعل (... يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون) والمسألة أكثر كما جاء في النص القرآني أنها مرتبطة بالحياة الدنيا، والحياة الدنيا كما هو معروف مغرية إلى حد الاستسلام، والإنسان في تكوينه البيولوجي ضعيف، ولا يمكن أن يمسك نفسه أمام إغراءات المال والسلطة، وهذا من الفطرة، ولذلك فالذين يتحاشون السلطة، ويدفعون بأنفسهم دفعا أمام إغراءات المال، يبدو أنهم على قدر كبير من التحمل، وعلى قدر كبير من التوازن بين متطلبات الروح، ومتطلبات الجسد، وهذا التوازن إن حصل لا بد أن يكون له استحقاق موضوعي وهو خبرة تراكمية في الحياة، معززة بعمر ممتد وصل إلى قناعة، مفادها أن كل الصور الاحتفالية المغرية التي تتراقص أمام عينيه، إنما هي صورة مؤقتة زائلة، لا تستحق أن يهدر فيها الإنسان تجربة حياته كلها، وهذه – إن حصلت – قمة العقلانية (فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم، وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين) – الآية (79) من سورة القصص -.

هنا أيضا أمر لا ينكره عاقل أن السلطة ومن خلال رمزيتها المعنوية قبل معرفة استحقاقاتها المادية المرهقة، تظل مغرية وربما إغراؤها يتجاوز إغراء المال، فعدد غير قليل من أصحاب الأموال لا ينظرون إلى ما يملكونه من أموال على أنه ذات أهمية بدون أن لا يعضد هذا التملك بسلطة ما، وهناك من يسعون إلى شيء اسمه «سلطة» حتى ولو كلفهم ذلك الكثير مما يملكونه مقابل سلطة ما، وهذا أمر واقع ويدركه الجميع، ولذلك فهناك من يعمرون في سلطة ما، ويحرصون كل الحرص على استمرارهم وبقائهم مع أن العمر البيولوجي لا يسعفهم على الاستمرار، ومع ذلك فلا يعيرون هذا الأمر أهمية ما، ولو تكالبت عليهم الأمراض، والعجز، وأصبحوا خارج دائرة استحقاقات السلطة الحديثة، وذلك ليقينهم المتواضع أنه ليس يسيرًا أن يحصل الواحد منهم على علاقة رابحة من الود مع الآخر، دون أن يكون متحققا أحد طرفي المعادلة (السلطة/ المال) حيث يمثل ذلك لديه فائدة كبرى (مادية/ معنوية) يسعى إلى تعظيم فوائدها .

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: السلطة السیاسیة هذا الأمر

إقرأ أيضاً:

تضرّر مدرسة في الجية جراء الغارات.. وهذا ما قرّرته الإدارة بشأن التلاميذ

أُصيبت مدرسة مار شربل في الجية بأضرارٍ بسبب الغارات الإسرائيليّة التي استهدفت المنطقة.     وقد قرّرت إدارة المدرسة إرسال التلاميذ إلى منازلهم بعد الغارات الإسرائيليّة.     

مقالات مشابهة

  • من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه
  • الامل في الديمقراطية
  • كيفية إخراج زكاة شهادات الاستثمار وشروطها.. دار الإفتاء توضح
  • "آثار الفيوم" تنظم زيارة علمية أثرية لطلاب المدارس لتعزيز الهوية الوطنية
  • الحرب الاقتصادية على غزة
  • محاضرة توعوية حول حماية المال العام
  • على جمعة: الله عز وجل يبسط الرزق ويقدره لحكمة
  • تضرّر مدرسة في الجية جراء الغارات.. وهذا ما قرّرته الإدارة بشأن التلاميذ
  • قطر.. استفتاء على إلغاء انتخابات مجلس الشورى
  • علي جمعة: مادام الرزق والأجل بيد الله فلا تخاف ولا تُذل نفسك لأحد