كثيراً ما نسمع أو نقرأ عبارة (إنه اختلاف الأذواق) من أحد الذين لم ينفعل برواية أو فيلم أو أغنية، مبرراً عدم الانفعال هذا بتلك العبارة (اختلاف أذواق).
فهناك من لا يطيق غناء أم كلثوم، أو ينزعج من شعر شوقى، أو تضجره رواية لمحفوظ أو ماركيز، وعلى الفور، ومن باب الأدب، يعلن هؤلاء الرافضون: صحيح أن أم كلثوم عظيمة ومحفوظ عبقرى وشوقى شاعر فذ، لكننى لا أحب أعمالهم.
الحق أن كلمة (الذوق) فى دنيا الأدب والفن فى حاجة ماسة إلى شرح وتفصيل وتفسير وتحرير. ولنبدأ هكذا: مم يتكون الذوق؟ وكيف؟ وما الفرق بين (الذوق العام)، (والذوق الرفيع)؟.
فى ظنى أن (الذوق) بصورة عامة يتشكل من عدة عوامل أبرزها: حساسية الإنسان فى التعامل مع الآداب والفنون، فهل ولد المرء مزوداً بحساسية خاصة تجاه عالم الإبداع، أم أنه ولد محروماً من تلك الحساسية اللطيفة؟ هل جيناته تتفاعل بيسر مع الموسيقى والكلمة واللوحة، أم أنها لا تتأثر بهذه الأمور؟.
العامل الثانى يتمثل فى مستوى ثقافة الفرد، والمدى الذى بلغه فى التحصيل المعرفى منذ كان طفلاً، وهل وهبته المقادير نعمة النشأة فى بيئة اجتماعية (الأسرة/ المدرسة/ المجتمع) تحترم الآداب والفنون وتثمن دورها فى إسعاد الناس وإغناء أرواحهم أم لا؟.
أما العامل الثالث، فيتجلى فى قدرة المرء على تطوير مهاراته فى استقبال الفن والأدب، والانفعال بهما والتأثر بما يقرؤه ويراه وينصت إليه من كلمة ومشهد ولوحة وأغنية.
ولأضرب لك مثلاً... هل الصبى الذى يبلغ 11 عاماً يملك القدرة على استيعاب قصيدة لشوقى والتمتع بأبياتها؟ بالتأكيد لا، لأن خبراته الحياتية ومحصوله اللغوى لا يسمحان له باكتشاف عبقرية الفن الشعرى، الأمر نفسه يتكرر إذا تحدثنا عن إنسان محروم من نعمة الإنصات إلى الموسيقى بتنوعاتها الخلاقة، لذا نراه ينفر من غناء عبدالوهاب وأم كلثوم وتزعجه موسيقى بيتهوفن وموزارت.
أما الإنسان الذى اكتفى من الروايات بمجموعة من الأعمال التى تخاطب الفتيان وعقولهم البسيطة وخبراتهم الحياتية المحدودة، فظنها هى الأمثل، وتوقف عن القراءة بعدها، فلن يطرب لمحفوظ ولن يسعد بماركيز.
لذا يمكن القول إن (اختلاف الأذواق) عبارة تصلح نسبياً فى مسائل الطعام والأزياء، رغم أن مستوى الثقافة يتحكم أيضاً فى تلك الأمور.
لكن عند الحديث عن الأدب والفن، علينا أن ننتبه جيداً، إذ إن الأمر مرتبط بمستوى الثقافة العامة لدى المتلقى، علاوة على مدى علاقته وعمقها بالآداب والفنون.
أما الأمر البالغ الأهمية، فهو الدور الذى يلعبه الترويج/ التسويق فى فرض ذوق أدبى أو فنى معين على الغالبية، خاصة فى الأعوام الأخيرة مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعى مثل فيسبوك ويوتيوب وانستجرام وواتساب وغيرها. إذ نرى أعمالاً أدبية وفنية محدودة القيمة وفقاً لمعايير (الذوق الرفيع)، لكنها شائعة بمنطق (الذوق العام البسيط) الذى يروج لمقولة (اختلاف الأذواق).
ما العمل إذن؟
أظن أن الأمر فى حاجة إلى مقال آخر.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: ناصر عراق حاجة ماسة الأدب والفن
إقرأ أيضاً:
الأدب السوري.. من سخرية «لوقيانوس» إلى قصص الحرب
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق تشكل الأدب السوري عبر آلاف السنين من خلال أطياف متعددة من الأدب، ظهر ذلك قديمًا في نصوص تأملية، وأساطير تتعلق بطوفان النبي نوح، وقصص خلق العالم، وهي النصوص التي تركتها حضارتي "ماري" و"إبلا"، والتي ذكرت اسم الكاتب السوري الساخر "لوقيانوس الأنطاكي"؛ كما ظهرت فيها واحدة من أوائل الأبجديات في العالم.وقد حملت الأيقونات المكتشفة في المواقع الأثرية السورية خلال القرن العشرين قصصًا وأشعارًا وأساطير متنوعة، مثل أسطورة "دونيزيوس والخمر"، وأسطورة "جيو والفصول الأربعة"؛ بينما تدل بقايا القلاع والمدن الأثرية في مدن سوريا التاريخية على وجود المسرح، الذي غلب عليه كونه مسرحًا شعريًا.فيما بعد، وعند دخول الإسلام أرض الشام، صارت دمشق أول عاصمة للدولة الإسلامية المتمددة لبني أمية بعد نهاية عصر الخلافة الراشدة، وصارت قبلة العلماء والأدباء والشعراء ورواة الشعر والأخبار، فنشطت الحركة الشعرية فيها. وفيها برز عدد من الشعراء، أمثال جرير والفرزدق والأخطل وغيرهم، كما أن هذه الحركة الأدبية كانت نواة للحضارة في الأندلس؛ وفق ما ذكر علي أبوزيد في "الموسوعة العربية".
وفي العصر العباسي، برز أدباء وشعراء كثيرون ينتمون إلى بلاد الشام، وكان لهم أثرهم في الحركة الأدبية، بينهم أبي تمام والبحتري وديك الجن وربيعة الرقي وأبي العلاء المعري وأبو فراس الحمداني والصنوبري والوأواء الدمشقي؛ حتى برز في الشعر ما عُرف باسم المذهب الشامي. كما ظهر شعراء وأدباء كثر في العصور اللاحقة، أمثال أسامة بن منقذ وابن الأثير وابن الساعاتي والشاب الظريف وابن حجة الحموي وشرف الدين الأنصاري وعائشة الباعونية وأمين الجندي وعبد الغني النابلسي وابن النقيب الحسين وغيرهم. كما لا يُنسى أيضًا أن بلاد الشام كان الساحة التي شهدت ظهور مسرح خيال الظل.
الأدب الحديثفي أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين، جاءت تحولات كبيرة أدَّت إلى دخول أجناس أدبية جديدة. بينها الطباعة، التي أتاحت انتشار الكتب وطبع الأعمال الأدبية، والصحافة التي نشرت معظم الأعمال على صفحاتها قبل أن تصدر في كتب، ووضَّحت مفاهيم الأدب، وأبرزت أعلامه، وساعدت على كتابة النقد حوله، وقد تخصصت دوريات عديدة في الأدب والنقد، كمجلات «الأديب» و«الثقافة» و«المعرفة» و«الموقف الأدبي» و«التراث العربي» و«الأسبوع الأدبي» و«الحياة المسرحية»، وأسهم انتشار التعليم في الاهتمام بالأدب، والترجمة، مما سهّل دخول أجناس أدبية جديدة، سعت إلى مواكبة التطور المتسارع للمجتمع السوري، وترافق ذلك مع إحياء التراث ونشره محققًا، ومحاولة الاستفادة منه في أعمال أدبية كثيرة.
أذكت حركة النضال ضد المستعمر في سوريا كثيرًا من الموضوعات التي كتب فيها الأدباء نصوصًا شعرية ونثرية، وكان للأحزاب والتكتلات قسطها في إثراء الحركة الأدبية من خلال تشجيعها الأدباء والاهتمام بالثقافة. وقد برز في هذه المرحلة عدد كبير من الشعراء والأدباء، أمثال فخري البارودي وشفيق جبري وميخائيل ويردي وعبد الله يوركي حلاق وعمر بهاء الدين الأميري وعبد المعين الملوحي وبديع حقي وسلامة عبيد ومحمد البزم ومحمد الفراتي وخليل مردم بك وبدر الدين الحامد وبدوي الجبل وماري عجمي وأنور الطار وعمر أبو ريشة وخير الدين الزركلي وسليم الزركلي ووجيه البارودي ومحمد عمران ونزار قباني وسليمان العيسى.
ثم جاء قيام "الجمهورية العربية السورية" في الثلث الثاني من القرن العشرين، ليُساهم في إذكاء حركة أدبية تتميز بشيء من الخصوصية، على أنها تنضوي تحت مظلة الأدب العربي المعاصر. هنا، تجلت حركة الأدب في سوريا في العصر الحديث من خلال مجموعة من الأجناس الأدبية والظواهر الفنية.
فقد شغلت المقالة -وهي فن نثري كانت بدايته إبداعية إلا أنها صارت فنًا ينتمي إلى الصحافة- حيزًا واسعًا في الأدب العربي السوري الحديث بسبب انتشار الصحف وتناولها موضوعات متنوعة؛ وتعددت تياراتها من تقليدية وواقعة ورومنسية وعلمية، وتناولت العادات وشؤون الأسرة وغيرها من شئون الحياة، وجوانب سياسية وفكرية ونقدية؛ واشتهر في المقالات أعلام كثر، مثل محمد كرد علي وشفيق جبري وسامي الكيالي وزكي الأرسوزي وسعد صائب وشكري فيصل وعبد الكريم الأشتر وعبدالسلام العجيلي وشوقي بغدادي وصدقي إسماعيل وغيرهم.
كما غدا فن السيرة الذاتية جزءًا من حركة الأدب، وشارك في هذا الفن شعراء وقاصون وروائيون ونقاد، وصاغوها في كتب كما فعل نزار قباني، أو في رواية كما فعل حنا مينه. ولم تكن السيرة فنًا ذاتيًا اقتصر على الهموم الشخصية بل مزجت الخاص بالشأن العام.
وبرز في النصف الثاني من القرن العشرين أدب الأطفال بأجناسه المختلفة، وكتب فيه أدباء كثيرون، منهم زكريا تامر ودياب عيد ووليد معماري ونزار نجار وموفق أبو طوق، وقد ساعد وجود جمعية لأدب الأطفال في اتحاد الكتاب على ترسيخ هذا الفن الأدبي.
الرواية السوريةأما الرواية فقد قرّ في الدراسات النقدية المتعلقة بها أن رواية «نهم» لـشكيب الجابري (1937) كانت الأقرب إلى الرواية الفنية، غير أن بعض الدارسين يعيد تاريخ الرواية السورية إلى فرنسيس مراش في «غابة الحق» (1865) مع أن الدارسين أنفسهم ينبهون إلى أن نهوض الرواية السورية الفعلي كان في عقد الخمسينات من القرن العشرين، إذ أصبحت جزءًا رئيسيًا مكونًا في تاريخ حركة الأدب في البلاد، فقد صدرت ما تزيد على 600 رواية حتى نهاية القرن العشرين.
وقد نهض بالرواية السورية أعلام كثر؛ منهم حنا مينه ونبيل سليمان وعبد النبي حجازي وعبد السلام العجيلي وفارس زرزور ووليد إخلاصي وأحمد يوسف داوود وهاني الراهب وغادة السمان وناديا خوست وخليل النعيمي وحيدر حيدر وغيرهم.
ويشير أبو زيد فيما نقلت عنه الموسوعة العربية إلى أنه "لطبيعة جنس الرواية وما يتيح للروائي؛ فإن الروائيين السوريين عالجوا من خلاله قضايا كبيرة شائكة؛ ليقدموا في رواياتهم وجهات نظر متعدّدة في مواضيع تبدو في ظاهرها بسيطة، من ذلك ما يتعلق ببناء سد الفرات مثلًا، وحرب تشرين والسجن والريف والمدينة والبحر والوحدة العربية ونكسة حزيران ومقاومة المستعمر. وبدا أنَّ الواقعية هي الأبرز حضورًا في تاريخ الرواية السورية، سواء أكانت انطباعية (فارس زرزور) أم انتقادية (عبد النبي حجازي وخيري الذهبي وهاني الراهب). كما حضر الجانب الرومانسي في روايات شكيب الجابري وفاضل السباعي، على اختلافهما في طريقة التناول. وعبَّرت الرواية عن هموم العمال والفلاحين".
أيضا، اصطرعت في سيرورة الرواية السورية هموم عدة تمكّنت من تقديم تاريخ غير رسمي لحركة المجتمع وصراعاته المتتالية، السياسية والاجتماعية والفكرية، مستفيدة من إمكانية إعادة قراءة الماضي ونقده وتعرية الواقع المكتظ بالتحولات والتغيرات المتلاحقة. ونحتِ الرواية في العقد الأخير من القرن العشرين منحىً جديدًا؛ إذ برزت أسماء كثيرة راحت تتناول قضايا المجتمع بطرق فنية غير مألوفة، مستفيدة من احتكاكها بالمنجز العربي والعالمي، فظهرت رواية مفتوحة الدلالات، فيها رواة كثر للحدث الواحد، تشغلها الرؤية السردية الناظمة للعمل، وبرزت أسماء عدد من الروائيين؛ منهم فواز حداد ونهاد سيريس ومحمد أبو معتوق وممدوح عزام وعلي عبدالله سعيد وخليل الرز وعبد العزيز الموسى.
القصة القصيرةخاضت القصة السورية مخاضًا صعبًا حتى تبلورت في صيغة فنية تمكنت من الموازنة بين أسسها الفنية واحتياجات المجتمع، ويكاد يجمع النقاد على أن أول مجموعة قصصية حملت بذورًا فنية تؤهلها لتكون قصصًا قصيرة هي «ربيع وخريف» لـعلي خلقي (1931)؛ لكن المجموعة الأوفر حظًا في كونها أول مجموعة ذات عناصر فنية متكاملة هي «بنت الساحرة» لـعبد لسلام العجيلي (1948). وتتابع صدور المجموعات القصصية في سوريا ليصل مع نهاية القرن العشرين إلى أكثر من ألف مجموعة قصصية، ضمت ما يقرب من خمسة عشر ألف قصة.
ويلفت أبوزيد إلى نشر ما يزيد على هذا العدد في الصحف على شكل قصص مفردة لم تنتشر في مجموعات "إذ ارتبط هذا الجنس الأدبي بالصحافة منذ نشأته ارتباطًا كبيرًا، ولم يكن من المألوف أن تنشر القصص في مجموعات قبل أن تنشر في الصحف، لكن هذه الظاهرة تغيرت في العقدين الأخيرين من القرن العشرين؛ لقلة عدد الصحف، ولجرأة القصص، ولتراجع العلاقة بين الجمهور والصحافة، نتيجة وجود وسائل إعلامية أخرى وسوى ذلك".
وبرز في تاريخ القصة القصيرة السورية عدد من الأعلام الذين ارتبطت ببعضهم ظواهر فنية وموضوعاتية، وتمكنت القصة القصيرة من نقل هموم الناس وأوجاعهم والتأريخ لحياتهم اليومية، ودارت موضوعات القصص حول قضايا اجتماعية ووطنية وقومية وإنسانية، فهناك عشرات القصص التي تحدثت عن القضية الفلسطينية والاستقلال وحرب الجزائر وحرب تشرين واحتلال جنوبي لبنان وغير ذلك. وهناك قصص تناولت قضايا المرأة والعادات والتقاليد والفساد والرشوة والقمع.. وقد اشتهر بعض القاصين بجرأتهم الاجتماعية والسياسية والفكرية، مثل سعيد حورانية وعبد الله عبد وزكريا تامر وجميل حتمل وإبراهيم صموئيل وغادة السمان وهيفاء بيطار؛ وانشغل آخرون بقضايا الموت والحياة متأثرين بالمذهب الوجودي.
كما ظهر في القصة السورية تيارٌ اتخذ من السخرية أسلوبًا فنيًا للتعبير، وبرز فيه حسيب كيالي وخطيب بدلة وأحمد عمر ونجم الدين سمان. وسعى قاصون كثيرون في حركة القصة السوريا مسعى تجديديًا بهدف الغوص أكثر في أعماق الواقع والتعبير الفني الأميز، وتركوا أثرًا وصل إلى تاريخ القصة العربية، من هؤلاء زكريا تامر ووليد إخلاصي.
في تلك الفترة، أسهمت المرأة في القصة السوريا بفاعلية مشهودة من خلال قصص تناولت البيئة وقصص أخرى ذات طابع رومانسي، وقصص تعالج قضايا اجتماعية ووطنية. وبرز في القصة القصيرة السورية نوع جديد امتد أثره إلى القصة العربية تمثل في "القصة القصيرة جدًا".
وعُرف عن القصة السورية عبر تاريخها ارتباطها بالواقع وقدرتها على انتقاده، وسعيها لمواكبة جديد المجتمع وأوجاع الناس، على الرغم من وجود قصص كثيرة مفتقرة إلى الأسس الفنية، متخذة من الوعظ طريفًا لها، ولاسيما في عقدي الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين.
حنا مينهحنا مينه.. مصباح الرواية السورية
كان الأديب السوري الكبير الراحل حنا مينه أحد من أغنوا الرواية العربية بأعمالهم، والذي آمن بأقواله فعلًا لا رياء، فتشتت في العديد من البلدان مُضطرًا. وهو ابن مدينة اللاذقية، التي ولد فيها في التاسع من مارس 1924 لعائلة فقيرة، وقضى طفولته في حي المستنقع، والواقع بإحدى قرى لواء الإسكندرون على الساحل السوري، ولبث هناك حتى عام 1939 الذي عاد فيه مع عائلته إلى مدينة اللاذقية، التي كانت عشقه وملهمته بجبالها وبحرها.
كافح مينه كثيرًا في بداية حياته، وتنقل بين عِدة أعمال في اللاذقية، فعمل حلاقًا وحمالًا في مينهء اللاذقية، ثم صار بحارًا على السفن والمراكب، وعمل في مهن كثيرة أخرى منها مُصلّح دراجات، مُربّي أطفال، عامل في صيدلية، صحفي، كاتب مسلسلات إذاعية للإذاعة السوريا باللهجة العامية، إلى موظف في الحكومة، حتى استقر إلى العمل كروائي.
يُمكن القول إن البداية الأدبية للكاتب الشاب كانت متواضعة؛ حيث تدرج من كتابة الرسائل للجيران، ثم كتابة العرائض للحكومة، ثم في كتابة المقالات والأخبار الصغيرة للصحف في سوريا ولبنان، ثم تطور إلى كتابة المقالات الكبيرة والقصص القصيرة، وكان قد أرسل أعماله القصصية الأولى إلى الصحف السورية في دمشق، وانتقل إلى بيروت عام 1946 بحثًا عن عمل، وبعد استقلال سوريا عاد إليها عام 1947، واستقر به الحال بالعاصمة دمشق، فعمل في جريدة الإنشاء الدمشقية حتى أصبح رئيس تحريرها.
بدأت حياته الأدبية بكتابة مسرحية دونكيشوتية وللآسف ضاعت من مكتبته فتغيب عن الكتابة للمسرح، اتجه إلى كتابة الروايات والقصص بعد ذلك، والتي زادت لأكثر من ثلاثين رواية بخلاف القصص القصيرة، منها عدة روايات خصصها للبحر الذي عشقه واسترسل في حكاياته، وكانت أولى رواياته الطويلة التي كتبها كانت "المصابيح الزرق" عام 1954، وتوالت إبداعاته وكتاباته بعد ذلك، والتي تحوّل الكثير منها إلى أفلام سينمائية ومسلسلات تليفزيونية في سوريا.
ساهم حنا مع لفيف من الكُتّاب اليساريين في سوريا عام 1951 في تأسيس رابطة الكُتّاب السوريين، وفي عام 1954 نظّمت الرابطة المؤتمر الأول للكُتّاب العرب، بمُشاركة عدد من الكُتّاب الوطنيين والديمقراطيين في سوريا والبلاد العربية، وكان له دور كبير في التواصل مع الكُتّاب العرب في جميع أنحاء الوطن العربي، كذلك ساهم بشكل كبير في تأسيس اتحاد الكُتّاب العرب، وفي مؤتمر الإعداد للاتحاد العربي، والذي عُقد في مصيف بلودان في سوريا عام 1956، وكان دوره واضحا في الدعوة إلى إيجاد وإنشاء اتحاد عربي للكُتّاب، وتم تأسيس اتحاد الكُتّاب العرب عام 1969، وبرز حنا مينه كأحد مؤسسيه.
كان مرور حنا على السياسة مُبكرًا، فقد دخل المعترك السياسي الحزبي وهو في الثانية عشرة من عمره، وناضل مع رفاقه ضد الانتداب الفرنسي، ولكنه هجر الانتماء الحزبي في منتصف الستينيات، حيث كرّس حياته للأدب، وكتابة الرواية تحديدًا، ورغم ذلك تنقّل بشكلٍ قاسٍ في حلات طويلة، فانطلق من اللاذقية إلى سهل أرسوز قرب أنطاكية، مرورًا باسكندرونة، ثم اللاذقية من جديد، وبيروت، ودمشق، وبعد ذلك تزوج، وتشرد مع عائلته لظروف قاهرة، عبر أوربا وصولًا إلى الصين، حيث أقام خمس سنوات، وكان هذا هو المنفى الاضطراري الثالث، والذي دام لعشرة أعوام، في الوقت الذي كان فيه أب لخمسة أولاد، بينهم سليم، الذي توفي في الخمسينيات وسط ظروف النضال والحرمان والشقاء.
ويُعتبر حنا مينه أحد عمالقة الرواية في سوريا والوطن العربي، فهو أديب الحقيقة والصدق، وكانت له مُساهمة كبيرة في إغناء الرواية العربية، وكتب الكثير من الروايات والقصص يتحدث في معظمها عن البحر، ويصف حياة البحارة في مدينة اللاذقية، وصراعهم على متن المراكب والسفن ومع أخطار البحر، موّضحًا الكثير من الصدق، والكفاح، والواقعية، والحب، والجمال.
محمد الماغوطمحمد الماغوط.. من عزلة الغريب إلى عزلة الرافض
كانت مأساة محمد الماغوط تكمن في أنه "ولد في غرفة مسدلة الستائر اسمها الشرق الأوسط"، حسب تعبير زوجته الكاتبة سنية صالح. فمنذ مجموعته الأولى "حزن في ضوء القمر" وهو يحاول إيجاد بعض الكوى أو توسيع ما بين قضبان النوافذ؛ ليرى العالم ويتنسم بعض الحرية "وذروة هذه المأساة هي في إصراره على تغيير هذا الواقع وحيدا، لا يملك من أسلحة التغيير إلا الشعر، فبقدر ما تكون الكلمة في الحلم طريقًا إلى الحرية، نجدها في الواقع طريقا إلى السجن"؛ كما قالت.
امتلأت نصوص "الماغوط"، المولود في ديسمبر 1934 في مدينة سلمية التابعة لمحافظة حماة، بحب الوطن، والثورة وانتقاد سلبيات الأنظمة العربية التي عاش في ظلها. كتب عن الغربة، ولا سيما الاغتراب داخل الوطن، كان ذلك محطة أساسية في شعره ممتلئة بالمفردات الثرية.
كتب الماغوط الخاطرة، وقصيدة النثر، وكتب الرواية والمسرحية وسيناريو المسلسل التليفزيوني والفيلم السينمائي، وامتاز أسلوبه بالبساطة وبميله إلى الحزن. وفي مقدمة ديوانه "الفرح ليس مهنتي" أوضحت زوجته أن الماغوط مع الأيام لم يخرج من عزلته "بل غير موقعها من عزلة الغريب إلى عزلة الرافض"، لافتة إلى أنه "كان يرتعد إثر كل انقلاب يمر به الوطن.".
نشأ الماغوط في عائلة شديدة الفقر، وكان أبوه فلاحا بسيطا، وعمل أجيرا في أراضي الآخرين طوال حياته. بدأت بوادر موهبته الشعرية بالتفتح عندما نشر قصيدة بعنوان "غادة يافا" في مجلة "الآداب" البيروتية، بعدها قام بخدمته العسكرية في الجيش السوري، حيث كانت أوائل قصائده النثرية قصيدة "لاجئة بين الرمال" التي نُشِرَت في مجلة "الجندي" وكان ينشر فيها كل من أدونيس وخالدة سعيد وسليمان عواد.
شكل اغتيال القائد العسكري السوري عدنان المالكي في عام 1955 نقطة تحول في حياة الماغوط حيث اتُهِمَ الحزب القومي السوري -الذي ينتمي إليه- باغتياله في ذلك الوقت، ولوحق أعضاء الحزب، وتم اعتقال الكثيرين منهم، وكان الماغوط ضمنهم، وحُبس في سجن المزة، وخلف القضبان بدأت حياته الأدبية الحقيقية، تعرف أثناء سجنه على الشاعر أدونيس الذي كان في الزنزانة المجاورة.
في السبعينيات عمل الماغوط في دمشق رئيسًا لتحرير مجلة "الشرطة" حيث نشر كثيرًا من المقالات الناقدة في صفحة خاصة من المجلة تحت عنوان "الورقة الأخيرة" وفي هذه الفترة بحث عن وسائل تعبير أخرى، وأشكال من الكتابة قد تكون أوضح أو أكثر حدة، فكانت مسرحياته المتوالية "ضيعة تشرين"، "غربة"، وفيها أراد الماغوط الكتابة إلى العامة، فاستبطن وجدان وأحزان الإنسان العربي، وزاوج بين العنصر التجريبي والشعبي في كتابة كوميديات ساخرة وباكية في آن معا.
ومن أشهر كتاباته "البدوي الأحمر" الذي يتناول فيه آلام الغربة والوحدة، وتسليط الأدب على معاناة الحياة لاستئصال آفات الزمن ومحاولة معرفة جذور المأساة الإنسانية. وقد انتشر شعر الماغوط في جميع أنحاء الوطن العربي، فقد كتب قصيدة النثر وتعاطى مع المتغيرات السياسية وصارت كلماته نشيدا على لسان اليساريين في جميع أنحاء الوطن العربي.
وقد قال عن قصيدة النثر: "الشعر نوع من الحيوان البري، الوزن والقافية والتفعيلة تدجنه، وأنا رفضت تدجين الشعر، وتركته كما هو حرًا، ولذلك يخافه البعض. وأعتقد أن قصيدة النثر هي أول بادرة حنان وتواضع في مضمار الشعر العربي الذي كان قائما على القسوة والغطرسة اللفظية، كما أن هذه القصيدة مرنة، وتستوعب التجارب المعاصرة بكل غزارتها وتعقيداتها، كما أنها تضع الشاعر وجها لوجه أمام التجربة وتضطره إلى مواجهة الأشياء دون لف وراء البحور، أو دوران على القوافي".
سمر يزبك
سمر يزبك.. صوت ثورة النساء
تأتي كتابات الروائية والصحفية السورية سمر يزبك كواحدة من أبرز الأصوات النسائية والشابة في الأدب السوري، والتي عاشت الحرب الأخيرة، فعانت من الغربة والمنفى. بل، ودارت لتجمع حكايات آلام النساء أمثالها، كما فعلت في كتاب "تسع عشرة امرأة-سوريات يروين"، والذي يضم 19 حوارا اختارتها من حوارات مع 55 امرأة في البلدان التي لجأن إليها (تركيا، فرنسا، ألمانيا، كندا، لبنان، بريطانيا، هولندا) وكذلك في الداخل السوري.
تقول: "ذهب هاجس السؤال عندي إلى مسؤوليتنا كأفراد في تكوين ذاكرة حقيقية وفعلية مضادة لتلك التي تسعى إلى تبرير الجريمة، ذاكرة قادرة على تثبيت سردية موازية تنصف قضيتنا العادلة وتظهر جزءا من الحقائق ساطعا وبليغا. لقد رأيت أن أساس البدايات هو التحديق والبحث في صورتنا المفترضة كهوية جمعية، وتفكيكها، ومكاشفتها. ببساطة كانت هذه الذوات التي شكلتها النساء جزءا من ذلك البحث المحموم الذي قادني إلى التحديق المهول في تلك الهوية".
كانت يزبك، التي ولدت في أغسطس 1970 في مدينة "جبلة"، لجأت إلى فرنسا بعد اندلاع الثورة السورية في عام 2011 لمعارضتها لنظام الرئيس الأسد، وهناك حصدت عدة جوائز عن كتابها "تقاطع نيران: من يوميات الثورة السورية"، الصادر 2012. وقد بقيت هناك لأنها، قبل الثامن من ديسمبر 2024، لم تعد متأكّدة من أنّها تستطيع العودة إلى بلدها في أي يوم من الأيام، متسائلة عن جدوى الذاكرة ومقاومة النسيان إذا لم يكن هناك عدالة.
بين روايتها "رائحة القرفة" (2008) بلغتها الشفافة الحميمية والجريئة إلى "تقاطع نيران"، الذي ضم كلّ هذه الشهادات عن الثورة السورية منذ بداياتها والمليئة بمفردات الحرب والمعارك، حيث القصف والطيران والمدافع والقذائف والبراميل والانفجارات والقنّاصة والكتائب والمجازر؛ تحولا هائلا في شخصية وكتابات يزبك، التي كانت كاتبة بهويات متعددة بين الرواية والقصة والصحافة والنشاط الاجتماعي العام، عندما بدأت الثورة التي تحوّلت إلى حرب.
في حديث سابق لمجلة "المجلة" اللبنانية قالت: "لم أكن في أي يوم من الأيام روائية أو صحفية فقط. مع بداية الثورة في تونس بدأنا نجتمع ونخطط ونتظاهر مع مجموعة من الصديقات والنشطاء. وكانت كتابة ما يحصل في الشارع الذي كنا حينها جزءا منه، هي محرّك لرؤيتي وقناعتي بدور الكلمة في تغيير الواقع. ففي "تقاطع نيران" و"بوّابات أرض العدم" و"تسع عشرة امرأة"، نقلت ما يحدث في الشارع السوري، أو جانب من حقيقة ما يحدث، لهذا نحّيت الرواية جانبا، على الرغم من أن الكتابين الأولين فيهما إلى حدّ ما لغة أدبيّة".
حين عادت يزبك ثانية وكتبت "بوّابات أرض العدم"، كانت قد رأت ما وصفته بـ "الأهوال" مع ما أكدت أنه "التسهيل والتواطؤ لقدوم الجهاديين إلى سوريا من مختلف أنحاء العالم"، ثم بدأت الاغتيالات لقادة الجيش الحرّ وللناشطين العلمانيين إضافة إلى قصف المدارس والمشافي والأسواق.
قالت: "لم تعد سوريا في تقاطع نيران وإنّما بدأت مرحلة العدم مع تحويلها إلى لعبة إقليمية، يتنازع على سلطاتها وثرواتها الآخرون. كان السوريون يموتون بالمجّان، وعلى عكس ما تردّد من أنهم تركوا بلدهم، هناك كثيرون حاولوا العودة إلى الشمال". مؤكدة أن سوريا أمام معضلة وتراجيديا كبرى "لقد رأيت على الأرض هذا العدم الذي يأتي من السماء عبر البراميل التي يقصف بها نظام الأسد وعبر المجموعات الجهادية التي كانت تحتل المدن وتفرض قوانينها، فحدث تغيير سوسيولوجي عميق في الجغرافيا السورية. فسوريا الآن لم تعد تلك التي نعرفها".
وفي كتاب "تسع عشرة امرأة"، اختارت يزبك سردية النساء "لأنّها الأقدر على تفكيك العنف المركّب الذي عشناه في مجتمعنا"، حسب قولها. وتفسر ذلك بأن النساء "واجهن عنفا كوحش متعدد الرؤوس، يتمثل في الديكتاتورية والمجتمع الذكوري العنيف والجماعات الجهادية المتطرفة إلى جانب العنف المخفي الذي مارسه رفاقهن الذكور في الثورة. لذلك كنّ أكثر نقدية لما حصل في الثورة".
وأكدت أن العمل ضد النسيان يكون أيضا بإعادة تفعيل دور الكلمة ودور عرض أجزاء من الحقائق أو البحث عن الحقيقة "كما أن العمل ضد النسيان هو العمل على فكرة إحياء العدالة، فهن عملن من أجل العدالة للآخرين ومن أجل حقوقهن. وما عملتُه هو نقل كلماتهن وتجاربهن فقط. وأعتقد أننا بهذا العمل يمكن أن نحدّ من لامبالاة الآخرين ونشير إلى أهمية النظر إلى آلام الآخرين والتطلع إلى عالم أكثر عدالة. مع ذلك يتولد عندي سؤال عميق ومؤلم الآن عن جدوى الذاكرة ومقاومة النسيان إذا لم يكن هناك عدالة".
مريانا مرَّاشمريانا مرَّاش.. صاحبة الصالون
اشتهرت مريانا بنت فتح الله مرَّاش بأنها من أوائل النساء الشرقيات اللواتي كتبن في الصحافة، ومن أصحاب الدعوات الأولى لتحرير المرأة العربية من الأفكار المسبقة الراسخة في المجتمع عن عدم أهليتها للخوض في الشئون العامة، عن طريق دراسة العلوم والصنائع. وهي الدعوة التي أطلقتها عبر مجلة "الجنان" البيروتية في شهر يوليو عام 1870؛ وهي المقالة التي احتفت بها المجلة وأطلقت عليها اسم "شامة الجنان"، نظرًا لفرادتها حيث كتب محرر المجلة: "ورد إلينا من حلب من قلم السيدة مريانا فتح الله مراش شقيقة فرنسيس أفندي مراش المشهور ما يأتي".
مريانا مرَّاش التي ولدت في مدينة حلب، شمالي سوريا، لأب تاجر مثقف وصاحب ثروة طائلة، جمع خلال حياته مكتبة كبيرة، تحوي نفائس كتب اللغة والأدب والعربيين؛ ساهمت في تفتيح ذهن مريانا على الأدب العربي، فتعمقت معرفتها به على يد شقيقها الأديب والشاعر المعروف فرنسيس مرَّاش؛ قد عدّها مؤرخ الصحافة العربية فيليب طرازي "الكاتبة الأولى التي نشرت أفكارها في الصحف العربية على ما نعلم، فجدير بتاريخ الصحافة أن يدون سيرتها وأن يسبق سير الصحفيات بها، لأنها إحدى شهيرات الشعر ومن بواكيرهن في القرن التاسع عشر".
كما عّرف الكاتب والشاعر السوري قسطاكي الحمصي هذه السيدة التي خطت بقلمها مقالات بارزة في الصحافة العربية، وكانت أول أديبة من سوريا تنشر مجموعةً شعرية وأول صالونٍ أدبي بمفهومه الحديث، بأنها "سليلة بيت العلم، وشعلة الذكاء والفهم، فصيحة الخطاب، ألمعية الجواب، تسبي ذوي النهى بألطافها، ويكاد يعصر الظرف من أعطافها، تحن إلى الألحان والطرب، حنينها إلى الفضل والأدب، وكانت رخيمة الصوت، عليمة بالأنغام، تضرب على القانون فتنطقه إنطاقها الأقلام".
انفتحت مريانا على الثقافتين الفرنسية والأنجلوسكسونية في وقت مبكر فتعلقت بأشعار ألفونس دى لامارتين وألفريد دى موسيه، وغيرهما. كما أتقنت العربية وحفظت الكثير من الأشعار، وكذلك أتقنت علوم الصرف والنحو والعروض؛ فدب في قلبها حب الأدب والميل إلى إلقاء الشعر وغيره من فنون الموسيقى والغناء، بالإضافة إلى العزف على آلتي القانون الشرقية والبيانو الغربية الأرستقراطية، فيما وهبها الله ملاحة الصوت.
نظمت مريانا الشعر في سن مبكرة، وذكر عنها أن شعرها جاء تقليديا، حافظت فيه على العروض الخليلي والقافية الموحدة. وقد تنوعت أغراضها الشعرية، فكتبت الشعر الوجداني والعاطفي، بالإضافة إلى قصائد المديح -وكان بينها قصيدة في مدح السلطان العثماني عبد الحميد الثاني- والمناسبات والالهيات والمرثيات أيضا، حيث رثت شقيقها فرانسيس بعد وفاته. وفي عام 1893 نشرت مجموعة شعرية في بيروت بعنوان "بنت فكر"، وكانت تتضمن تجميعة من القصائد التي كتبتها في أعوامٍ سابقة، وتضمنت قصائد في الغزل والمدح والرثاء.
أيضًا، ساعدتها موهبتها الأدبية أن تلبس حُلة النقد الأدبي، فكانت صاحبة أول ظهور نسائي يذكر في مجال النقد الأدبي عام 1871؛ وقد كتبت مجموعة من المقالات النقدية نشرتها مجلة "الجنان" تحت اسم "جنون القلم"، والتي تناولت فيها ظاهرة السرقات الأدبية. أيضًا، ونتيجة المعرفة الواسعة التي ألمت بها مريانا، فقد كان لديها ما أهلها أيضا أن تقدم للمكتبة العربية إسهاما آخر في غير مجالات الأدب عن تاريخ سوريا في أواخر العصر العثماني أطلقت عليه اسم "تاريخ سوريا الحديث".
وكإفراز طبيعي لذائقتها الأدبية وطبيعتها الذهنية فقد انصرفت مريانا إلى ضرورة تربية المرأة على نحو جيد والارتقاء بالذوق العام ودرء النواقص وتشجيعها على التزين بالعلم والتحلي بالأدب. فكانت في عصرها -وفق تعبير سامي الكيالي- "كنجم ساطع في وسط السماوات"، فتأثر بها نساء عصرها وكان لكل ما تكتبه وقع السحر على نفوسهن وهو ما دفع بعضهن إلى تشكيل جمعية علمية أدبية نسائية عام 1880 باسم "باكورة سورية" استلهمت معظم أفكارها من مقالاتها، والتي كانت تذيلها بتوقيع "امرأة"، مما دفع النساء للمطالبة بتأسيس صحف نسائية أسوة بالرجال باعتبارها أحد الحقوق التي لابد أن تنالها المرأة العربية.
ولم تكتفِ مريانا بكل ما قدمته من إسهامات في المجالات الأدبية المختلفة شعر ومقال ونقد، فكان لها ريادة واقعية من نوع فريد، حيث لعبت دورًا بارزًا آخر في ازدهار الحركة الفكرية العربية المعاصرة في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، عندما أسهمت في إعادة إحياء الصالونات الأدبية العربية على نحو معاصر تأثرت فيه بمشاهدتها للحياة الغربية الأوروبية فكان لها السبق كصاحبة أول صالون أدبي تقيمه سيدة عربية قبل ظهور الصالونات الأدبية الأخرى في مصر وبيروت لمي زيادة وهدى شعراوي والأميرة فاطمة إسماعيل وغيرهن.
ودأبت مريانا عقب عودتها من أوروبا على عقد اللقاءات الفكرية، التي اشتملت على مناقشة القضايا الأدبية والسياسية والموسيقية والاجتماعية المعاصرة وأقامت من خلاله المسابقات الشعرية والمبارزات الأدبية إلى جانب عزف الموسيقى وسماع الطرب والغناء، والذي كان يحرص أبرز مثقفي العرب والساسة وأعضاء السلك الدبلوماسي الأجنبي وغيرهم على حضوره. بينهم رزق الله حسون وكامل غزي وقسطاكي حمصي وعبد الرحمن الكواكبي وعبد المسيح أنطاكي، إضافة إلى جميل باشا والي حلب النهضوي. وقد كان هؤلاء المثقفون يجتمعون في صالونها ويتبادلون الآراء النقدية ويناقشون آخر نتاجاتهم الفكرية ومطالعة كتب الأدب والتراث ومناقشة الأوضاع السياسية.
وعن حياة الصالون كتب سامي الكيالي: "عاشت مريانا حياتها في جو من النعم والألم، عاشت مع الأدباء والشعراء ورجال الفن، وقرأت ما كتبه الأدباء الفرنسيون وأدباء العرب فتكونت لديها ثقافة تجمع بين القديم والحديث".