جريدة الرؤية العمانية:
2025-03-08@08:18:24 GMT

"وأنَّ الحرب آخرُها سلام"

تاريخ النشر: 19th, May 2024 GMT

'وأنَّ الحرب آخرُها سلام'

 

 

د. سليمان بن خليفة المعمري

يُقال إنَّ "الحياة مُصمَّمة بحيث لا يكون آدم لوحده"؛ لذلك لا بُد من وجود الآخر، ولابد من التفاعل مع هذا الآخر؛ فالإنسان "اجتماعي بطبعه"، ولا يمكنه العيش منعزلًا عن الناس، مُنكفئا على ذاته، بعيدا عن أحداث الحياة وتفاعلاتها؛ فالإنسان يخسر الكثير من الفضائل والميزات حينما يُوْصِد على نفسه الأبواب ويحشر نفسه في قالب من الجمود والانغلاق عن الآخر.

وقد نوَّه الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- وأشاد بمن يعيش بين الناس ويتفاعل معهم، ويتلقى مختلف سلوكياتهم وأحوالهم بالقبول والتفهم والرِّضا، فعن عبدالله بن عمر، قال عليه الصلاة والسلام: "المؤمنُ الذي يُخَالِطُ الناسَ ويَصْبِرُ على أَذَاهُمْ، خيرٌ مِنَ الذي لا يُخَالِطُ الناسَ، ولا يَصْبِرُ على أَذَاهُمْ" (رواه ابن ماجه)، وقد أشارتْ الدراسات إلى أنَّ اعتزالَ الناس والاحتجاب عنهم مدعاة للاضطراب النفسي والاعتلال الصحي، وكم أصاب الكاتب القدير أحمد خالد توفيق حينما قال: "الحل الوحيد للمشاكل النفسية هو: لا تكن عاطلا.. لا تكن وحيدا"، لكل ذلك فإنه لابد من بناء علاقات اجتماعية راشدة مع الناس تَضْمَن الاستفادة القصوى والاستثمار الأفضل لعلاقاتنا معهم.

ولعلَّ من أهم أسس العلاقات الاجتماعية الناجحة هو العمل بمبدأ "أنا لست أنت"؛ فنسمح بمساحة من الاختلاف، ونتقبل وجود التنوع في الرؤى والممارسات والتوجهات الحياتية الفكرية والثقافية والسلوكية؛ إذ إنَّ ما تشهده البشرية في الواقع من تقدُّم وتطور حضاري، وما نلمحه في عالمنا من إبداع وجمال أخَّاذ في ثقافات وحضارات الأمم والشعوب، ما كان ليحدث لولا تعدُّد الأذواق وتباين الثقافات؛ فالاختلاف ثراء، والتنوع قوة، وصدق الله العظيم إذ يقول في محكم التنزيل: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ" (هود:118و119)؛ أي خلقهم للاختلاف؛ لذا فحتى تكون علاقتنا بالآخر متزنة راشدة، فإنه يجب ألا يؤدي الاختلاف إلى الخلاف والتنازع والضغينة والخصام، وليكن "الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية" شعارنا الذي لا نحيد عنه.

وإنَّ من أسس العلاقات الاجتماعية الراشدة أيضا: ألا ننسى ما حيينا معروفا قُدِّم إلينا وإحسانا أسداه الآخرون لنا، فنعبِّر لهم عن الشكر والامتنان، ونحفظ لهم عشرتهم الجميلة وصحبتهم الطويلة معنا، يقول الإمام الشافعي -رحمه الله: "الحر من راعى وداد لحظة، أو تمسك بمن أفاده لفظة"، فهذا السلوك مما تستدام به الصحبة والأخوة وتحفظ به العلاقة مع من نحب، إلا أنه وللأسف هناك من ينطبق عليهم ما قاله أحدهم: "إن بعض الأشخاص يصعدون درجات السلم، فما إن يصلوا أعلاه، حتى يزدروا هذه الدرجات التي صعدت بهم إلى القمة"، فتراهم يتنكرون لكل جميل وفضل قدمه الآخرون وينسبون ما حازوه من تقدم وإنجاز لذواتهم فقط دون إشارة أو ذكر للآخر، فما أقبحه من جحود، وما أسوأه من نكران جدير بأن يقوِّض كل علاقة وود مع الآخر.

ومن الركائز المهمة والقواعد المتينة في بناء العلاقات الاجتماعية: أن نجعل خطابنا وحديثنا مع الآخر يفيض بالحكمة والرصانة والعقلانية؛ فتكون كلماتنا مغلفة بالود، مكسوة باللطف، حتى تلقى القبول والترحاب من قبله؛ إذ إنَّ الكلمات هي أقوى العقاقير التي تستخدمها البشرية، وبإمكانها أن تكون دواءً وبلسما للجراح، أو أن تُخلِّف جروحا غائرة وشروخا وندوبا عميقة في العلاقات الاجتماعية والشخصية، وقد أوصانا البارئ جل شأنه بانتقاء أعذب الكلام وأحسنه، فقال عز من قائل: "وَقُل لِّعِبَادِى يَقُولُواْ ٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ ٱلشَّيْطَٰنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ ٱلشَّيْطَٰنَ كَانَ لِلْإِنسَنِ عَدُوًّا مُّبِينًا" (الإسراء:53)، فلننتقِ كلماتنا ولنختَر أطايب الحديث لتنفتح لنا قلوب وعقول الآخرين ونفوز بمودتهم ورضاهم، وحتى لا تصاب علاقاتنا بالجفاف وتخلو من الدفء الإنساني، فالواقع أنّ "من يجد الحب لا يرحل".

كما أن من قواعد العلاقات الاجتماعية الناجحة التغافل عن الزلات والبعد عن الضغائن والخصومات والمشاحنات، وفي الحديث الشريف: "تجافوا عن عثرات الكريم"، وقد صدق الشاعر حين قال:

نسيانك الجاني المسيء فضيلة

وخمود نار جدّ في إشعالها

فاربأ بنفسك والحياة قصيرة

أن تجعل الأضغان من أحمالها

وإنَّ التشفِّي من الآخرين حينما يُخطؤون في حقنا هو "طرف من العجز"، والأجدر بنا أن نقدر الضعف البشري، وأن نلتمس العذر لمن قصر في حقنا، وعلى رأي المفكر الفرنسي أندريه مالرو: "الإنسان هو ما يفعله وليس ما يفعله به الآخرون"، والحق أنَّ الجميع خاسر في معارك الحياة الهامشية، وقد صدق من قال: "إنَّ المنتصر في المعركة ليس رابحا، لكنه أقل هزيمة من خصمه".

وختامًا.. لنتذكَّر على الدوام أنَّ الإنسان ما هو إلا ذكرى طيبة وسيرة حسنة، فهناك من رحل عن دنيانا وترك ميراثا من السيرة الطيبة وسجلا حافلا من الذكريات الجميلة والعكس، وقد كان من دعاء أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام: "وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ" (الشعراء:84)، وأنه حتى يعيش الإنسان في سلام نفسي وهناء وراحة بال وألا يكتوي بنيران الخصومة والشقاق، فعليه أن يحافظ على علاقة اجتماعية ناضجة مع الآخر، وأن يجعل نُصب عينه الوعد الرباني الكريم: "عَسَى ٱللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ۚ وَٱللَّهُ قَدِيرٌ ۚ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"(الممتحنة:7)، وكم أصاب شاعر الطلاسم إيليا أبو ماضي حين قال: "وأن الحرب آخرها سلام".

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

دعوة إسرائيلية لـكيسنجر جديد لحماية الاحتلال من الغرور والتضخم الذي يعيشه

في الوقت الذي لا يُخفي فيه قادة دولة الاحتلال الإسرائيلي أنهم وقعوا في مزيج من الفشل المفاهيمي الأيديولوجي والإخفاق الأمني والعسكري، فإنها تبدو، أكثر من أي وقت مضى، في حاجة إلى نموذج جديد لوزير الخارجية الأمريكي الراحل هنري كيسنجر، الكفيل بتعليمها كيفية استخلاص الإنجازات السياسية والاستراتيجية من هذا الفشل. 

السفير والدبلوماسي الإسرائيلي السابق ميخائيل هراري، أكد أن "فشل السابع من أكتوبر يذكّر الإسرائيليين بكثير من النواحي بفشل حرب 1973، ودون الدخول بمقارنة تفصيلية الآن، فيمكن القول إن هناك تشابهاً في الطريقة التي صمّم بها المفهوم الأمني، والفشل في تفسير المعلومات الاستخباراتية واسعة النطاق التي بحوزة الدولة بشكل صحيح، كما أن هناك تشابه، وليس تطابق، في نتائج الحرب من المنظور العسكري، بعد صدمة المفاجأة والفشل، رغم أن الوضع الحالي في غزة، بعد أشهر طويلة من الحرب، يشكل استثناء من القاعدة السلبية في هذا السياق".  


وأضاف في مقال نشرته صحيفة "معاريف" العبرية، وترجمته "عربي21"، أنه "من وجهة نظر الاحتلال، لا يوجد في هذا الوضع هدف عسكري واضح، ناهيك عن هدف سياسي، لكن ما يهمنا هو التفكير السياسي الهادف لاستغلال الإنجازات العسكرية، لتحقيق أهداف سياسية تخدم المصالح الحيوية لدولة الاحتلال، صحيح أن نتائج التحركات العسكرية في حرب "السيوف الحديدية" على جبهات لبنان وسوريا وإيران جيدة، ولو لم تكن ضمن قائمة الأهداف بداية الحرب". 

وأشار إلى أن "الظروف الإقليمية والدولية، والأميركية خصوصاً، مواتية، شرط أن يكون هناك تفكير سياسي استراتيجي وواقعي يعرف كيف يترجم الظروف الإيجابية لإنجازات سياسية، وقد أدرك هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي أثناء حرب أكتوبر الفرصة الكبرى لاستغلال المفاجأة والفشل في عام 1973 من جهة، والإنجازات العسكرية التي حققها الاحتلال بعد الصدمة على جبهتي مصر وسوريا من جهة أخرى، لتعزيز التحركات السياسية التي أدت فيما بعد لاتفاقية السلام مع مصر، واتفاقية فصل القوات مع سوريا".  


وأوضح أن "كيسنجر منع الاحتلال من تطويق الجيش المصري الثالث، لأن هزيمة مصرية أخرى لن تخدم السلام بينهما، ولذلك فإن ما ينقصنا اليوم هو كيسنجر معاصر يعرف كيف يستغل الوضع الحالي لتعزيز الاستقرار الإقليمي، لأن الدول العربية التي لديها اتفاقيات سلام طويلة الأمد مع الاحتلال، وتلك المنضمة لاتفاقيات التطبيع، حريصة على الحفاظ على علاقاتها معه، وجوهرة التاج، السعودية، التي تطرق أبواب اتفاق سعودي أمريكي إسرائيلي".  

ولفت إلى أن "هذه الظروف المثالية لم تكن موجودة في الماضي للدفع نحو التوصل لحلّ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، مما يتطلب من كيسنجر المعاصر ممارسة ضغوط حازمة وبناءة على الاحتلال لحمله على فرض ضبط النفس، والتواضع، والواقعية، في إنجازاته العسكرية، للمضيّ قدماً بحل الصراع مع الفلسطينيين ، عقب توفر مصلحة مشتركة نادرة، في المنطقة وخارجها، لإضعاف حماس جذرياً، وتعزيز البديل العلماني البراغماتي، من خلال تفكير إبداعي خارج الصندوق بعيدا عن التفكير الوهمي المسيحاني المدمّر". 

مقالات مشابهة

  • مصطفى بكري ناعيا اللواء أحمد أبو طالب: رحل الإنسان الذي عرفت فيه كل معاني المروءة
  • روبيو: الرئيس ترامب ملتزم بإنهاء الحرب الاوكرانية في أقرب وقت ممكن
  • ترامب يهدد بفرض عقوبات "واسعة النطاق" على روسيا للضغط من أجل اتفاق سلام مع أوكرانيا
  • برلمانية: الأولوية للصحة و التعليم و برامج الحماية الاجتماعية بـ الموازنة الجديدة
  • دعوة إسرائيلية لـكيسنجر جديد لحماية الاحتلال من الغرور والتضخم الذي يعيشه
  • حسام موافي: بعض الناس تفسر «لا يكلف الله نفسا إلا وسعها» خطأ ولا تصوم «فيديو»
  • روسيا: نشر قوات سلام أوروبية في أوكرانيا "مشاركة في الحرب"
  • روسيا تعتبر نشر قوات حفظ سلام أوروبية بأوكرانيا مشاركة في الحرب
  • كما أوصى النبي.. أعمال بسيطة تجعلك من خير الناس
  • «مصطفى بكري»: واهم من يعتقد أن الصهاينة يعرفون السلام