السودان بين الفوضى والحرب والجوع: تحديات الأمن الغذائي، أزمة إنسانية، واحتمالات تفكك الدولة
تاريخ النشر: 19th, May 2024 GMT
أمجد شرف الدين المكي
وفقًا لتقرير برنامج الأغذية العالمي (World Food Programme)، يُعاني الآن حوالي 25 مليون شخص في السودان من الجوع وسوء التغذية جراء الحرب المستمرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. ويُواجه حوالي 18 مليون شخص انعدام الأمن الغذائي الحاد، بما في ذلك 3.8 مليون طفل تحت سن الخامسة يُعانون من سوء التغذية (United Nations- فبراير 2024).
مرّ أكثر من شهر على إنعقاد مؤتمر باريس في منتصف الشهر الماضي، ورغم المليارات التي جُمعت، ما زالت المساعدات المرجوّة لا تجد طريقها إلى المحتاجين. وتُشير تقارير أمريكية غير رسمية إلى أن الحرب قد حصدت حتى الآن أكثر من 150 ألف شخص (بحسب Blomberg - مايو 2024)، وبالرغم من هذا العدد الكبير الذي قد يراه البعض مبالغاً فيه، إلا أنه لا تُوجد حتى الآن إحصائيات رسمية تُؤَكِّد أو تُنْفي أعداد الضحايا الحقيقيين.
بالإضافة إلى ذلك، فهناك حوالي 9 ملايين نازحٍ داخليًا (Internally Displaced Persons- IDPs) موزعين بين مدن السودان شبه الآمنة، والتي فقدت كل مقومات الحياة البسيطة من مأكل، مسكن، ومشفي، مما يجعلها أكبر أزمة نزوح داخلي في العالم، بحسب تقرير Human Rights Watch - يناير 2024.
يعاني اللاجئون في دول الجوار من نقص في الموارد المالية والإرهاق النفسي، بالإضافة إلى تصاعد معدلات الوفيات المفاجئة نتيجة لما يشاهدونه ويسمعونه من أخبارٍ عن منازلهم وممتلكاتهم ووطنهم. هذه الظاهرة تستدعي دراسة معمقة. ففي مقال للكاتب الأمريكي سايمون ماركس في مجلة بلومبرغ، أشار إلى أن الوضع الإنساني والنزوح في السودان تجاوز المعايير القياسية الكمية للوضع في غزة بفلسطين.
هنا أيضاً لا ينبغي لنا أن نتجاهل دعم تلك الدول في إستيعاب هذا العدد الهائل من اللاجئين، وخصوصاً جمهورية مصر. رغم الظروف الإقتصادية الصعبة والتضخم الذي تمر به تلك الدول، فقد تحملت أعباءنا، ومن الواجب علينا أن نشكرها ونقدر جهودها.
وفي ظل هذا الوضع المتفاقم، يُعاني السودان من أزمة إنسانية وغذائية غير مسبوقة، حيث يشهد ملايين السودانيين تدهورًا حادًا في أوضاعهم المعيشية، مع نقص شديد في الموارد الأساسية. الوضع الغذائي الكارثي يستدعي تدخلًا عاجلًا لتقديم المساعدات الإنسانية وإيصالها إلى المحتاجين.
على الصعيد السياسي السوداني، لا يظهر في الأفق القريب ولا في المستقبل البعيد أي أملٍ في حلِّ الأزمة السودانية. فما زال الجيش السوداني وقوات الدعم السريع يتخبطون في أدراكهم السياسية حول التفاوض، ولا صوت يعلو سوى صوت الرصاص والبندقية والجوع.
أما بالنسبة للمجتمع الدولي، فحرب غزة وإسرائيل هي الشاغل الرئيس في السياسة الدولية، بالإضافة إلى الحرب الروسية الأوكرانية. وبين هذا وذاك، لا يزال البعض، ومن بينهم بعض مكونات القوى المدنية السودانية، يعوّل على الغرب (فمن باريس مرورًا ببروكسل إلى واشنطن) ويراهنون عليهم في الضغط على المتحاربين. ولكن من المهمِّ الإشارة إلى أن الوضع والمسرح الجيوسياسي العالمي قد تغيَّر في العشرين عامًا الأخيرة مع ظهور قوى جديدة منافسة للغرب والولايات المتحدة في النفوذ والهيمنة، والقرار الدولي.
من بين هذه القوى، تبرز الصين وروسيا كأطراف لا يُستهان بهما. فالصين، بمشروعها الطموح "مبادرة الحزام والطريق" (طريق الحرير الجديد)، تسعى لتعزيز نفوذها الاقتصادي والجيوسياسي عالميًا. أما روسيا، تحت قيادة فلاديمير بوتين، فقد استطاعت، ولو بحد ما، إعادة صياغة مكانتها كقوةٍ عالميةٍ لا يمكن تجاهلها، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991. هذه الدول تمتلك حساباتها الخاصة التي تتعارض في كثيرٍ من الأحيان مع مصالح الولايات المتحدة، مما يعقّد المشهد الجيوسياسي الحالي ويؤثر على القرارات الدولية.
فزيارة نائب وزير الخارجية الروسي إلى بورتسودان في نهاية الشهر الماضي، تبعتها، وسبقتها تحركات المبعوث الأمريكي في جولات لدول المنطقة، حاثًا الأطراف على الجلوس للتفاوض في جدة، وواعدًا الشعب السوداني بحل قريب. علي الصعيد الإنساني أيضًا، تزامنت في تلك الفترة تصريحات سامانثا باورز، مديرة الوكالة الأمريكية للتنمية، عن عرقلة العمل الإنساني في السودان، حسبما ذكرت تقارير صحافية عن إتصالها بالفريق أول الكباشي، وحثه على فتح ممرات إنسانية.
في السياق نفسه، يجب أن نذكر أن الصين قد عينت لأول مرة في تاريخها السياسي مبعوثًا خاصًا للقرن الإفريقي في فبراير 2022، وهو الدبلوماسي شيوي بينغ. تهدف هذه الخطوة إلى تعزيز جهود الصين في تحقيق الإستقرار والتنمية في المنطقة، بما في ذلك الإستثمارات الاقتصادية والنفوذ الجيوسياسي. إضافة إلى ذلك، تُعَدُّ الصين شريكًا ومستثمرًا تجاريًا قويًا في المنطقة، ولديها مصالح إقتصادية واسعة تشمل القاعدة البحرية في جيبوتي والقروض الكبيرة الممنوحة لإثيوبيا، بالإضافة إلى استثماراتها الضخمة في قطاع النفط بجنوب السودان.
وتُظهر مثل هذه التحركات أن للصين وروسيا حساباتهما الخاصة التي قد تتعارض مع مصالح الولايات المتحدة في المنطقة بشكل عام، والأزمة السودانية بشكل خاص. بينما تسعى الصين لتحقيق نفوذ اقتصادي من خلال مشروع "مبادرة الحزام والطريق"، أعادت روسيا بقيادة فلاديمير بوتين صياغة دورها كقوة عالمية مؤثرة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. هاتان القوتان، ومع تنافسهما الجيوسياسي مع الغرب، تُعقِّدان المشهد السياسي وتؤثران على القرارات الدولية المتعلقة بالأزمة السودانية.
إضافة إلى ذلك، هناك التعقيد الإقليمي في المنطقة وتداخلات وصراعات دول كإثيوبيا وإريتريا، فضلاً عن عدم الاستقرار في دول الساحل وجنوب الصحراء، ناهيك عن التداخلات الإيرانية الأخيرة.
في ظل هذا الوضع المتأزم، تواصل القوى المدنية سعيها لإيجاد حلولٍ لوقف الحرب، إلا أن اعتمادها على المجتمع الغربي يُعَدُّ فشلًا بحدِّ ذاته. إن غياب الإرادة السودانية الخالصة يعني ألا حلاً سيكون ناجعًا لهذه الحرب التي قد تستمر لسنواتٍ طويلة. وفي ظل إستمرار هذه الحرب، قد يتفتت السودان إلى دويلاتٍ جديدة، مما يُعقِّد الوضع أكثر ويزيد من معاناة الشعب السوداني. يمكن أن يصبح السودان نموذجًا على غرار النموذج الليبي أو اليمني، حيث تعمقت الأزمات وتفاقمت الصراعات الداخلية بفعل التدخلات الخارجية والإقليمية وغياب الحلول الوطنية الفعّالة.
وقد تنبأ بهذا الانقسام في السودان صديقي وأستاذي الدكتور محمد عبد الحميد، أستاذ مادة الحد من مخاطر الكوارث بالجامعات السودانية، أثناء قيام مؤتمر باريس في الشهر الماضي. حيث ذكر لي، وكان قد أشار إليها أيضاً في صفحته على الفيسبوك: "أن هذا المؤتمر – مؤتمر باريس - يُعَدُّ امتدادًا لمؤتمر برلين في العام 1884، وله ما بعده، بمعنى تقسيم السودان على غرار مؤتمر برلين الذي قسم القارة السوداء بين الدول الاستعمارية". وبالرغم من عدم إتفاقي معه حينها، بل ومجادلته فيها أيضاً، إلا أنني أتفق مع رؤيته تلك الآن، بل وبشدة.
وفي ظل الحرب المستمرة في السودان بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، بدأت تلوح في الأفق مآلات خطيرة للانقسام الداخلي. اللقاء الذي جمع رئيس الوزراء السوداني السابق عبد الله حمدوك مع الرئيس الكيني ويليام روتو، وزعيم حركة تحرير السودان عبد الواحد محمد نور، وزعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان - الشمال عبد العزيز الحلو، في نيروبي (إعلان نيروبي)، يعكس تعمق الأزمة السياسية ويهدد بتفكك الدولة السودانية إلى دويلاتٍ جديدة في حال عدم التوصل إلى اتفاقٍ على أسسٍ جديدة لتأسيس الدولة.
تضمنت المباحثات إمكانية منح حق تقرير المصير للأقاليم السودانية في حالة عدم التوصل إلى اتفاقٍ شامل، مما يعزز المخاوف من تفكك السودان إلى كياناتٍ أصغر. ومع تصاعد هذه الانقسامات، يبقى التركيز على تقديم المساعدات الإنسانية في ظل شبح المجاعة أمرًا حيويًا، إذ إن الوضع الغذائي الكارثي يتفاقم يومًا بعد يوم، حيث يعاني ملايين السودانيين من إنعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية.
كان الأجدربالدكتور حمدوك (رئيس الوزراء السابق) والحلو ونور، بالتنسيق مع الرئيس الكيني، التركيز على الجوانب الإنسانية العاجلة وكيفية إيقاف الحرب، خاصة مع تزايد معدلات الجوع وسوء التغذية، بدلًا من التطرق إلى مسائل سياسية ستزيد الوضع تعقيدًا. إن الإعتماد على المجتمع الدولي والتحرك الإقليمي وحده، كما ذكرت سابقًا، ليس كافيًا، بل يمكن أن يزيد الأزمة تعقيدًا. لذا، يجب أن تكون هناك إرادة سودانية خالصة للوصول إلى حلولٍ سياسية تُعزز وحدة البلاد وتجنبها التفكك.
في الختام، يظل لكل فردٍ حقٌ أساسي في التحرر من الجوع والحصول على الغذاء الكافي، وفقًا للمادة 1-11 من القانون الدولي. بناءً على ذلك، فإن عدم توافق السودانيين مع بعضهم البعض، وخاصة القوى المدنية بكل أطيافها، بما في ذلك المجتمعات، المنظمات، الجهات الفاعلة السودانية، الأحزاب السودانية، والنشطاء من كل صوب، سيؤدي بلا شك إلى تفاقم الأزمة الإنسانية الغذائية التي تهدد البلاد. إن الاعتماد على الدول الغربية لحل الأزمة السياسية لن يكون كافيًا؛ إذ يجب على السودانيين التوصل إلى توافقٍ واتفاقٍ مشترك. من الضروري وقف الحرب بأي شكلٍ من الأشكال، والعمل بتجرد على تأسيس عقد اجتماعي وسياسي سوداني لحل القضية السودانية، التي تساوت إن لم تتجاوز، بمعاييرها الإنسانية، مثيلاتها في دول أخري مرت بتجارب إنسانية وغذائية كارثية في العقود السابقة.
أمجد شرف الدين المكي
كلورادو - أمريكا
amgadss@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: بالإضافة إلى فی المنطقة فی السودان
إقرأ أيضاً:
محمد أبوزيد كروم: الشهادة السودانية .. تحدي المكان والزمان
..-اسأل الله التوفيق والسداد للطلاب الجالسين لإمتحانات الشهادة السودانية اليوم السبت، وأسأله الله أن يهون عليهم ويخفف عنهم وأن يحميهم ويحفظهم وينصرهم..
-قطعاً ستكون هنالك نواقص وهنات ولكنه الظرف والتحدي، تحدي أن نهزم المستحيل ونرفع الراية ونرفض الهوان لمن أرادوا لبلادنا وأجيالنا الضياع والشتات ..
-امتحانات اليوم هي تحدي لعزيمة الدولة وثباتها وإصرارها، وتحدي للطلاب وأسرهم ولجميع أفراد الشعب السوداني أمام محاولات تدمير البلاد وكسر عودها ..
-المطمئن أن الجهات المختصة والتي بذلت بذلاً كبيراً لتيسير الإجراءات ووضع المعالجات، أنها قد وضعت كل الاحتمالات أمام أعينها وأوجدت الحلول والبدائل سواء كان في معالجة أرقام الجلوس أو المعالجات الفنية الأخرى، والمؤكد أن الأعداء في الداخل والخارج سيبذلون كل الجهد لتخريب الاستحقاق التعليمي وذلك بمنع الطلاب من الوصول إلى مراكز الامتحانات كما حدث في القطينة من مليشيا ال دقلو، وكما حدث في الدلنج من منع لوصول مطلوبات الامتحانات من قبل قوات المتمرد عبد العزيز الحلو، أو كما حدث من الدولة المتآمرة تشاد التي منعت قيام الامتحانات على أراضيها دون أي سبب لذلك غير التآمر والتبعية للإمارات والمليشيا والكيد ضد السودان وشعبه..
-بالطبع لن تكون العملية مكتملة ولا شاملة لأننا لسنا في ظرف طبيعي يجعل من ذلك ممكناً، ولكن أملنا أن تكون المعالجات مرضية وقادرة على إكمال النواقص حتى تكتمل العملية وتحقق المطلوب تدريجياً..
-هذا التحدي يؤكد أن السودان وشعبه لن يخضع لمخططات التخريب والتجهيل والتغييب وأننا بالعزيمة والإصرار سنواجه حملات الحرب الشاملة على بلادنا بمزيد من الصلابة وبكل الكبرياء لنقول للعالم كله أننا لن نركع إلا لله، وأن مسيرة الدولة ماضية، ولن يخصع السودان لجهة، وسنقاوم ونوجد البدائل ونسترخص التضحيات في سبيل أن تكون هذه البلاد قوية وعزيزة كعادتها..
-لن ترضى المليشيا ولا اتباعها عن قيام الامتحانات فسيحاولون التشويش عليها، ولن تتوانى المليشيا من القيام بأي فعل إجرامي كعادتها ولكن الله أكبر منهم جميعا وهو خير الحافظين ..
-على الجميع أدوار مهمة وأساسية في نجاح الامتحانات بدعم الطلاب والتسهيل عليهم في الترحيل والإعاشة والسكن مع توفير البيئة المناسبة للأساتذة والطواقم الادارية وطواقم التأمين، فالمسؤولية جماعية، والقضية وطن، وما التوفيق إلا من عند الله..
محمد أبوزيد كروم
إنضم لقناة النيلين على واتساب