المركز الطريد
أين المركز واين دولة ٥٦؟
الوقوف عند أسوار الاحتجاج أم مشروع بديل للفاشية؟
ياسر عرمان
بورتسودان ميناء للسفن صنعها البحر والمستعمرون والبحارة الحيارى والعابرين والفقراء من سكانها وهم يعيشون على هامش الحياة وهم القضية والرهان، وأحيانا تطلق السلطات الرصاص على شعب البجا!
عند بداياتها نشأت كمركز للتصدير والاستيراد بما في ذلك البشر، وقبلها كانت سواكن.
المركز الجغرافي والفيزيائي والاقتصادي والسياسي ومكان الطائرة التي تقوم والرئيس الذي ينوم، هذا المركز بخيله وسلطانه توقف عن الحكم في الخرطوم لاكثر من عام وترك اطروحة المركز والهامش حزينة بلا قلب! فالسودان البلد الوحيد في الكرة الارضية الذي لا يملك التلاميذ الإجابة عن اسم عاصمته!
فالأمس كانت الخرطوم واليوم توزع دم المركز فكل شىء انهار في المركز الا بعض مراكز القيادة والسيطرة التي احتفظت بها القوات المسلحة مسترجعة ما تبقي لها من تجاربها الطويلة.
توزع دم المركز على الهامش شىء في بورتسودان وقليل في الفاشر، وفاشر السلطان على نحو التحديد تدور بها معركة عجيبة فبعض الداعين للاقتصاص من المركز والمطالبين بالامس برأسه وبالثار منه يحاربون في صفه، والدعم الذي يدعمه بالأمس يحاصر ما تبقي للمركز من رموز، وبعض الحركات غيرت وجهات نصالها ونضالها وضربات سيوفها وانتهت دعاوى التهميش بالدفاع عن أسوار الحامية، إنه مشهد سريالي يخلط اوارق الهامش والمركز ويدافع من أراد هدم القديم ويهدم من اراد الدفاع عن القديم بعد أن افسحت دولة ٥٦ المجال لفاشية الإسلام السياسي وطويت اعلامها وماركاتها التجارية المسجلة منذ ٣٠ يونيو ١٩٨٩.
المشاهد الداعشية التي تعلق الرؤوس على اسنة البنادق وأخرى تستبيح المدنيين الذين يقطنون المركز الجغرافي في الخرطوم والجزيرة وغيرهما، واضحي ما كان يدور بالهامش هو نفسه ما يدور بالمركز الجغرافي.
هل ما يدور الان سيكون له تاثير على الفكر والسياسة وإعادة تعريف المشروع الوطني ومفاهيم ٥٦ والمركز والهامش؟ وهل سيقود إلى اصطفاف لبناء سودان جديد من كل ضحايا فاشية الإسلام السياسي والحروب؟ لا حاجة بنا لاستخدام مصطلحات غير لائقة مثل مصطلح (الفلنقاي) فالسودان نفسه فلنقاي تابع للمركز العالمي الاصيل أو بعض التابعين له بالوكالة.
بدلا من الوقوف عند أسوار الاحتجاج والمطالبة فكلنا ايها السادة لا نملك وكلنا نستحق، فلماذا لا نتحد باستحقاقات توحدنا ونصنعها معا؟ والخير في ما اختارته ثورة ديسمبر ومقاومة الريف والهامش فلماذا نقف عند اطلال المركز القديم؟ ولماذا لا نبلور مشروعا وطنيا جامعا لوحدة السودان وشعبه وقواه المدنية والسياسية يجمع ولا يفرق، للقضاء على فاشية الإسلام السياسي والحروب؟ لماذا لا نبني مركزا جديدا يسع الآخرين وحقهم في ان يكونوا آخرين كما يسع الجميع، ويستديم الخبز والسلام والتحرر والمواطنة والتنمية والديمقراطية. ما بني علي هش فهو هش وسيسقط على رأس من بناه.
إن الحوار الذي يدور هذه الأيام بين مختلف قوى الثورة والمقاومة يستحق الدعم ويجب أن يتواصل لخلق مركز موحد للقوى الديمقراطية وجبهة عريضة في مقابل مركز فاشية الإسلام السياسي والحروب. وهذا هو الاصطفاف الصحيح الذي يخدم كل الباحثين عن مشروع جديد.
إن الحروب الأهلية لا تنتج وطنا مستداما سيما التي تقف ضد الفاشية المتسربلة بالدين والاثنية إلا بكتلة تاريخية موحدة وجبهة معادية للحرب، وهل صحيح ما رواه بعضهم عن الصومال ولبنان واليمن وليبيا وعني وعنك.
١٩ مايو ٢٠٢٤
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الإسلام السیاسی
إقرأ أيضاً:
هل الدعاء على المخالفين يعكس روح الإسلام؟
بدر بن خميس الظفري
في خضم الأحداث السياسية العالمية الراهنة، وفي عالمٍ يعجُّ بالصراعات الفكرية والاختلافات العقائدية، يقفُ الخطابُ الدينيُّ أمام تحدٍ كبير، وهو تقديمُ صورةِ الإسلام الحقيقية التي تتسمُ بالرحمة والرفق.
لقد جاء الإسلام ليكون رسالة عالمية تهدف إلى بناء جسور التفاهم بين الشعوب، لا لهدمها. وقد وجه الله رسالة لنبيه محمد مفادها "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين".
ولكننا نجد في بعض مظاهر واقعنا اليوم ما يخالف هذا المقصد النبيل؛ إذ باتت أدعية التعميم والدعاء بالهلاك على غير المسلمين جزءًا من خطب ودروس بعض الدعاة، مثل قولهم: "اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تُبقِ منهم أحدا". لكن السؤال المطروح: هل هذه الأدعية تعكس روح الإسلام؟ وهل هذا ما يريده الله تعالى في دعوته إلى عباده؟
حين نتأمل حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، نجد أن الدعوة لم تكن مجرد كلمات تُقال أو مواقف تُعلن، بل كانت فنًا يتقن مخاطبة القلوب والعقول بلطفٍ وحكمة. وقد أمر الله تعالى نبيه الكريم أن يتبع أسلوب الحنان والحوار البناء في دعوته: "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وجادلهم بالتي هي أحسن"؛ وهي دعوة صريحة لتقديم الدين بأسلوب يفتح القلوب بدلاً من أن يغلقها.
يخبرنا التاريخ أن التغيير الفكري والعقديّ لم يكن يومًا أمرًا يسيرًا، فقد أمضى الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة يدعو قريش إلى الإسلام، ومع ذلك ظل أغلبهم على كفرهم، متمسكين بموروثاتهم وأعرافهم، منطقهم الوحيد التعصب لما ورثوه: "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون". لقد كانت هذه الفترة دليلًا على صعوبة كسر القيود الفكرية التي تأسر العقول، ومع ذلك، لم يفقد النبي صلى الله عليه وسلم صبره ولا رحمة قلبه. وعندما آذاه أهل الطائف ورموه بالحجارة، عرض عليه ملك الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين، أي يسقط الجبلين الكبيرين على أهلها، لكنه رفض قائلاً: "بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا". تلك الكلمات تحمل دروسًا عميقة في التسامح والرحمة، وهي تشهد على أن الدعوة إلى الله لا تقوم على الانتقام، بل على الأمل في الهداية.
الأمر لم يكن مقتصرًا على موقف الطائف؛ ففي غزوة أحد، عندما اشتد الأذى بالمسلمين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"، وهذا الموقف النبوي العظيم يُظهر لنا أن الداعي إلى الله يرى في مخالفيه بشرًا يحتاجون إلى الهداية، لا أعداءً يجب أن يُزالوا. هذه القيم النبوية لم تكن استثناءً؛ بل كانت قاعدة ثابتة في تعامله عليه الصلاة والسلام مع الجميع، حتى مع من عارضوا دعوته أشد المعارضة.
وبناءً على ما تقدم، نحتاج أن نتساءل: كيف يمكن أن تتفق هذه القيم مع ما نراه اليوم من انتشار دعاء بعض الخطباء على عموم غير المسلمين بالذل والهوان والهلاك؟ هل أصبحت هذه الأدعية جزءًا من الدين؟ أم هي مجرد تعبير عن انفعالات اللحظة؟ الله سبحانه وتعالى نهانا عن التعميم في الحكم على الآخرين، وأمرنا بالعدل حتى مع من نختلف معهم. يقول تعالى: "وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ"، فالعدل في الخطاب الدعوي ليس خيارًا؛ بل هو واجب ديني وأخلاقي.
النظر في قصص القرآن الكريم يبين لنا أيضا وبوضوح أن الله سبحانه وتعالى أراد للدعوة أن تكون سبيلًا للهداية، لا وسيلة للإقصاء والانتقام. حين أرسل الله موسى وهارون إلى فرعون، أمرهما أن يخاطباه بلين قائلاً: "فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى"، فإذا كان هذا هو النهج الإلهي مع أشد الطغاة عنادًا وظلمًا وهو فرعون، فكيف نتجاوز نحن هذا التوجيه في تعاملنا مع شعوب قد لا تعرف عن الإسلام إلّا القليل أو قد لا تكون قد سمعت به أبدًا.
إن واقعنا اليوم يحتم علينا أن نعيد النظر في خطابنا الدعوي، ذلك أن وسائل الاتصال الحديثة أصبحت نافذة سهلة للوصول إلى شعوب الأرض، وتُظهر ممارساتنا وألفاظنا أمام العالم أجمع بكل يسر.
إن الكلمة القاسية قد تُبعد أمة عن الإسلام، بينما الكلمة الطيبة قد تُفتح بها قلوب الملايين. يقول تعالى: "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"؛ فهذه الآية ليست فقط توجيهًا للدعاة؛ بل هي مبدأ يجب أن يسري في كل تعاملاتنا مع الآخرين.
إننا بحاجة إلى خطاب يعكس روح الإسلام الحقيقية، خطاب يجعل من الدعوة وسيلة للبناء، لا للهدم. لقد كان أبو طالب، عم النبي صلى الله عليه وسلم، نموذجًا لشخص غير مسلم وقف بجانب الدعوة وحماها، وفي عالمنا اليوم، هناك كثيرون ممن يشبهون أبا طالب في دعمهم لقضايا المسلمين أو في احترامهم للإسلام. هل نصنفهم كأعداء لمجرد اختلافهم في العقيدة؟ أم نحاول أن نبني معهم جسور التفاهم؟
الدعوة إلى الله مسؤولية عظيمة، وهي ليست مجرد كلمات تلقى على المنابر، بل أمانة تتطلب حكمة ورفقًا. علينا أن نتذكر دائمًا أن الإسلام لم ينتشر بالقوة؛ بل انتشر بالكلمة الطيبة والقدوة الحسنة. الدعوة هي رسالة حب، وأي خطاب يخلو من الحب لا يمكن أن يصل إلى القلوب. فهل نعيد النظر في أدعيتنا وخطابنا، ونستلهم من القرآن الكريم وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ما يفتح القلوب بدلاً من أن يغلقها؟