القمة النكبة.. تحكي واقعَ الحالِ في رفح غزَّةَ ولدى “الزعماء” العرب!
تاريخ النشر: 19th, May 2024 GMT
القمة النكبة.. تحكي واقعَ الحالِ في رفح غزَّةَ ولدى “الزعماء” العرب!.
المصدر: يمانيون
إقرأ أيضاً:
الهوية السودانية بين الغابة والصحراء (1/2)
ali.hag.mohamed@gmail.com
السودان بموقعه المميز فى قلب القارة الإفريقية يشكل معبرا مهما لكل ما هو قادم من الشمال الإفريقى و الشرق الآسيوي، إلى جنوب و غرب و شرق القارة السمراء. و يحتل مساحة تقدر ب 1886000 كيلو مترا مربعا تجعله فى المرتبة الخامسة و الثلاثين عالميآ و الرابعة عربيآ.
على أرضه نشأت أعرق الحضارات العالمية على الإطلاق، و هى الحضارة النوبية و عاصمتها كرمة و التى تؤرخ على أنها أول عاصمة ولأول دولة فى العالم و نظامها الملكى هو الأقدم في التاريخ البشرى.
شيدت هذه الحضارة المعابد و الأهرامات و عرفت الصناعة والتجارة و إستخدمت الحديد و معادن أخرى كأدوات متعددة الأغراض و الإستخدام و كتبت بلغتها قبل اللغة الفرعونية المصرية بعدة قرون .
و إمتد حكم الفراعنة السودانيين إلى مصر و حكموها مئات السنين و تواصل حكمهم و بلغ حتى فلسطين فى العام 3050 قبل الميلاد.
فى عام 1924 عثر فى مدينة سنجة الواقعة على النيل الأزرق على أقدم الهياكل البشرية فى العالم و هو يعرف ب ( إنسان سنجة ) الموجود في المتحف البريطاني، و دلت الدراسات إلى أنه يعود إلى العصر الحجري، أى إلى قبل أكثر من 160000 سنة مما يؤكد بالدليل القاطع أن الإنسان الأول عاش على هذه الأرض و كما تشير خارطة النمو البشرى الموجودة في المتحف الطبيعى فى مدينة ملبورن الأسترالية.
فى عام 1504 تأسست دولة السلطنة الزرقاء و التى عرفت كذلك بالدولة السنارية منسوبة إلى عاصمتها مدينة سنار، نتيجة تحالف بين قبائل الفونج الزنجية على النيل الأزرق بقيادة عمارة دنقس و قبائل العرب في وسط و شمال السودان بقيادة عبد الله جماع، كأول دولة إسلامية و عربية تجسد الواقع الجغرافى و العرقي ، جذورها أفريقية و جوهرها و ملامحها عربية.
و شكلت النواة الأولى للسودان بحدوده الحالية.
وظلت هذه السلطنة متماسكة و قوية حتى عام 1821، و بذلك تعتبر فترة حكمها هى الأطول لدولة عربية إسلامية بعد سقوط الأندلس.
فى عام 1881 قاد الإمام محمد أحمد المهدى - القادم من الشمال النوبى - ثورة شعبية مسلحة ضد الحلم التركى المصرى و المدعوم من بريطانيا و أستطاع أن يجمع حوله رجالا من معظم أقاليم و قبائل السودان فى تحالف و تآذر بديع إختفت خلاله كل الفوارق الإثنية و الجهوية و توحدت الإرادة و الرؤية والرسالة.
و كانت الثورة تهدف فى المقام الأول رفع مظالم ما يعرف الآن ( بسلطة التركية السابقة ) و إسقاطها و من ثم إقامة دولة إسلامية على هدى الخلافة الراشدة تتعدى حدود السودان شمالا إلى مصر و شرقا إلى الحبشة و غربا إلى ليبيا و دول الغرب الإفريقي، تحمل و تبشر بعالمية الدعوة الإسلامية.
بعد معارك عنيفة و خاطفة في مواقع الوجود الإستعماري وصلت الى الخرطوم و التى سقطت بمقتل القائد الإنجليزي الشهير غردون فى عام 1885. و أعلن عن الدولة المهدية و التى أتخذت مدينة أم درمان عاصمة لها. و بعد أشهر وافت المنية الإمام المهدي و خلفه عبد الله التعايشي و كان رجلا ضيق الأفق و تكالبت عليه عدة عوامل لم يحسن التعامل معها و أدت فى النهاية إلى تفكك الدولة الوليدة و إنتهت بالغزو الانجليزي و هزيمتها في معركة كررى في عام 1889.
ومنذ ذلك التاريخ بدأت حقبة جديدة من عصر الإستعمار البريطاني في السودان و الذى مارس سياسته المعروفة ( فرق تسد ) و فى ضرب عناصر القوة المادية و المعنوية للشعب و إعلاء عناصر الهدم و الخنوع. فقام بحملة ممنهجة فى شيطنة العرب و المسلمين لدى القبائل الزنجية و محاربة التعليم الديني فى الخلاوي و تقديم قدر مبسط من التعليم الابتدائي و الأوسط لأبناء المركز فى تجاهل متعمد في تعليم أبناء الأطراف و سعى إلى خلق مراكز قوى فى الأقاليم من زعماء القبائل مقدما العصا و الجزرة.
فصل الجنوب إداريا و جعل منه منطقة مقفولة لا يمكن العبور إليها إلى بإذن خاص. و أستغل واقع العرق الزنجى في الجنوب فى بث روح الكراهية و الحقد تجاه الشمال العربى بروايات و قصص مختلقة و مكن الإرساليات المسيحية و أطلق يدها في التنصير و التبشير و ضيق الخناق على العرب والمسلمين.
هذا الواقع الجديد قاد إلى بروز طبقة نيرة من و السياسيين و الأدباء والكتاب و الشعراء و المبدعين ذوى ثقافة عربية و إنتماء بالكامل للأمة العربية فى الجوهر و المظهر، كردة فعل طبيعية لمحاولة الإستعمار في طمس الهوية الإسلامية و العربية و عزل السودان عن محيطه العربي والإسلامي.
و تشكلت مدارس فكرية مرتبطة إرتباطا وثيقا بمدارس فكرية فى مصر و فى المشرق والمغرب العربيين.
و كانت هذه المدارس نواة لحركة ثقافية وفكرية عارمة ذات أهداف و تطلعات وطنية، إنتظمت معظم مدن السودان الكبرى ، و من رحمها ولد معظم السياسيين و الشعراء والأدباء الذين قادوا حركة الخريجين في نهاية ثلاثينات القرن الماضي و التى إنتهت إلى تكوين الأحزاب السياسية و التى قادت إلى إستقلال السودان فى مطلع عام 1956.
فى السودان المعاصر تعيش فسيفساء من السحنات من القبائل العربية و الزنجية و الغالبية هى هجين بين هذه و تلك. و عددها يصل إلى ما يقارب 570 قبيلة، مقسمة إلى 57 فئة إثنية و يتحدثون حوالى 114 لهجة محلية و يشتركون جميعا فى التحدث باللغة العربية الدارجة السودانية.
هذا التنوع العرقي و الثقافى كان له الأثر الإيجابي في مرحلة ما بعد الإستقلال وقدم دفعة مهمة أثرت في مواطن الإبداع شعرآ و نثرآ و تشكيلآ في تلاقح ، جامع و مزهر للنسيج الاجتماعي في البلاد.
و لم تكن الهوية الوطنية السودانية همآ أو شاغلآ لقادة السودان بعد الإستقلال. و كان الإنتماء العربي و الإسلامي أمرآ لا جدال حوله و يعتبر من البديهيات المسلمات بهما . و قد تكون هناك بعض الأصوات الخافتة و التى تهمس على على إستحياء في الخفاء.
و أول ظهور للعلن يخاطب مسألة الهوية السودانية كان في عام 1962 فى مدرسة الغابة و الصحراء . و هى حركة شعرية ثقافية تمازج بين العنصر العربى و يرمز له بالصحراء و العنصر الإفريقى و يرمز له بالغابة . و من أبرز مؤسسيها النور عثمان أبكر، محمد عبد الحى ، محمد المكى إبراهيم، يوسف عيدابى، إسحاق إبراهيم، عبد الله شابو، على المك، مصطفى سند و صلاح أحمد إبراهيم.
و هذه المدرسة كانت صيحة في واد ، ذهبت أدراج الرياح و لم تترك اثرآ ظاهرآ و خلفت إرتدادات أشبه بما يحدث بعد زلزال عنيف.
و لقد تعرضت لإنتقادات جمة لغلو الطابع اليسارى عليها و ولعدم توافقها على تعريف محدد للهوية.
بعضهم كان يميل إلى إعلاء الأثر و التأثير الإفريقى كالنور عثمان أبكر و بعضهم يغلب الأثر العربى كصلاح أحمد إبراهيم و آخرون يميلون إلى الهجين كمحمد المكى إبراهيم كما جاء في قصيدته الشهيرة ( بعض الرحيق أنا و البرتقالة أنت ) لله يا خلاسية. و التى يقول فى بعض أبياتها ( يا بعض زنجية يا بعض عربية و بعض أقوالى أمام الله ) .
و كتب هؤلاء الشعراء و الأدباء شعرآ ونثرآ راقيا بلغة عربية مبينة و رصينة و زينوها بمفردات و مقولات و تعابير من الموروث الشعبي و اللغوي المحلي في تناسق جميل و غير مخل للفصحى أو للعامية الدارجة. و هذا التداخل المحبب بين اللهجة و اللغة ليس فيه خروج عن المألوف فى الأدب العربي و لا يدل على هوية غير عربية. فالقاص المصرى يحى حقى جسد هذا النهج القويم و عبر عنه في روايته ( قنديل أم هاشم) . و كذلك نحى نحوه الأديب العالمى نجيب محفوظ فى تناوله لشخوص و مسارح رواياته.
و أديبنا السودانى الطيب صالح جعل من رواياته صورة ناطقة عن الريف السودانى بتوصيف دقيق بريشة فنان آخذ فيه العامية في عزف متناسق مع الفصحى. و شاعر إفريقيا محمد الفيتوري و الذى طالما تغنى بها ولها فى معظم قصائده، ظل قوميآ عربيآ و لم يتنكر لعروبته في يوم من الأيام.
أثار مقالي المنشور فى المدار قبل فترة بعنوان ( الوحدة العربية بين الواقع و الأمل ) ردودآ متباينة بين السودانيين. و كانت فى غالبها سلبية تجاه الوحدة العربية و تميل إلى التقوقع في الإطار القطرى، بعضها يدعو إلى قطيعة كاملة مع العرب و يدعو الله أن يكفينا شرهم وتآمرهم .
كتب أحدهم ( نحن مع العرب و تجمعنا المشاعر و الأهداف و لكنى لا أؤمن بالوحدة العربية )
و كتب آخر ( نحن أفارقة أصلآ و لا يهمنا توحد العرب أو تفرقهم ) .
وكتب لى صديق ثالث أعرفه جيدآ و هو مناضل و ناشط سياسي معروف قائلآ ( لقد تصالحت مع نفسى و تخلصت من وهم عروبتى و أنا الآن أكثر تناسقآ من الناحية النفسية من حيث اللون و الشكل و الجينات . فقد وجدت قناعتي بأني سوداني و أفريقي، ناطق بالعربية و ثقافتي أفريقية ممزوجة بشئ من الثقافة العربية و الإسلامية بحكم الجوار ) .
و كتب رابع ( العرب لا يعترفون بنا بحسباننا أفارقة و الأفارقة لا يعترفون بنا بحسباننا عرب و أصبحنا هكذا كالنعامة، لا طائر و لا جمل ) .
بقية الردود على هذا المنوال و الذى يشكل ردة على الإنتماء العربي و الإلتزام القومي لدى السودانيين و الذى كان يهتف على الدوام ( جيش عربي واحد شعب عربي واحد ) .
و يعبر عن إنقلاب فى المفاهيم و المبادئ و القيم التى تخلقت و تشكلت مع نشأة الدولة السودانية الحديثة التي أسسها و رعاها وحافظ عليها جيل الإستقلال .
إن هذا التطور السلبي في مفهوم الوحدة العربية و الإنتماء القومي ، جعل قضية الهوية السودانية حاضرة بقوة و تطرق الأبواب بعنف فى عالم متحرك نحو المجهول و فى إقليم تمزقه الحروب و المنازعات و التناحر و أصبح مسرحا تصفى فيه الخلافات الدولية .
و نحن نعيش الآن ثورة نأمل ان تصل إلى مبتغاها في نظام ديمقراطي تسوده الحرية و السلام و العدالة.
و هذا التطور لم يحدث بغتة و إنما نتيجة تراكمات و مسببات و مبررات، نمت و ترعرعت في العقود الثلاثة الأخيرة. و التى كانت لها أرضية نتنة خفية منذ الفترة الإستعمارية، إستغلها النظام الظلامي للإخوان المسلمين، فأزكى نار الفتنة و الفرقة بين القبائل العربية و الزنجية و أعلى روح القبلية و الجهوية . و أشعلها حربآ دينية قادت إلى إنفصال الجنوب و حربآ عرقية تآكل الأطراف في جنوب كردفان و النيل الأزرق و دارفور.
هل هذا التحول فى مفهوم الوطنية والقومية و الإنتماء الجغرافي شأن سوداني خالص أم له إمتداد و تواصل مع محيطه العربي و الإفريقي ؟
و هل أسبابه و دواعيه و منطلقاته و أهدافه موضوعية و عميقة و مجذرة، أم هى سطحية و طافية على سطح من الأوهام و الخيال و مسنود على الواقع العربي المزري ، و يمكن التغلب عليها و إزالتها و العبور بمستقبل السودان إلى موقعه الطبيعي و المؤثر إيجابيآ في العالم العربي كما حدث عام 1967 في فى مؤتمر اللاءات الثلاث فى الخرطوم.
هذا ما سأجيب عليه فى الجزء الثاني من هذا المقال.
د. علي إبراهيم