التنمية البشرية في ظل المتغيرات
تاريخ النشر: 18th, May 2024 GMT
تُعد التنمية البشرية أساسًا للتنمية الإنسانية الشاملة؛ إذ تهدف إلى توسيع الخيارات التي تحقق الرفاه لأفراد المجتمع متجاوزة المفهوم العام والمادي للرفاه، إلى تلك المفاهيم المعنوية التي تضمن الحرية وتوافر الفرص والعدالة في الإنتاج والإبداع واكتساب المعارف والمهارات عبر التعليم والتدريب وغير ذلك مما يكفل الحياة الكريمة ويُحقق الغايات الإنسانية الأسمى.
ومنذ إن أصدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تقرير التنمية البشرية الأول في عام 1990، الذي يعتمد على رأس المال البشري، وإمكاناته وقدراته باعتباره أولوية وقيمة متجددة، أصبح لهذا المفهوم أبعاد جديدة؛ إذ لا يقوم على تحسين القدرات من خلال التعليم والصحة والتغذية والتدريب وحسب، إذ توسَّع ليشمل إمكانات انتفاع أفراد المجتمع من قدراتهم وما يتميَّزون به من مهارات وإبداعات سواء في أماكن أعمالهم أو في حياتهم بشكل عام، كما شمل حتى تمتعهم بأوقات فراغهم.
إن التنمية البشرية تنظر إلى الناس باعتبارهم أفرادًا منتجين، فهي في الأصل في خدمتهم، بُغية تمكينهم من اختيار الأصلح والأفضل لحياتهم، فلكي يكون أفراد المجتمع قادرين على الاختيار، لابد أن يمتلكوا مهارات وأدوات تمكنهم من ذلك، لذا فإن جوهر التنمية هنا يتأسَّس على تكوين القدرات عن طريق الاستثمار في رأس المال البشري، سواء من خلال دعم الصحة والرعاية الاجتماعية والتعليم والتدريب، أو في الاستفادة من القدرات والإمكانات والمهارات بما يحقِّق الرفاه والأمن الاجتماعيين.
تكمن أبعاد التنمية البشرية -حسب الأدبيات- في (التمكين، والإنصاف، والمشاركة، والحُرية)، وهي أبعاد تؤكد بناء القدرات وإتاحة الفرص في المجالات التنموية المختلفة بما يضمن العدالة والمساواة بين أفراد المجتمع من ناحية، ويمكِّنهم من المشاركة في القرارات من ناحية أخرى، الأمر الذي يُعد من أهم ممكنات هذه التنمية التي تتيح لهم تعزيز فعل المواطنة والانتماء، والعمل وفق مهارات وإمكانات تضمن فتح فرص جديدة ومتعددة، تجعل من الأفراد قادرين على ابتكار سُبل معرفية تُسهم في تحسين أنماط حياتهم.
وعلى الرغم من أن التنمية البشرية في دولنا تخدم مواطنيها، إلاَّ أنها متأثرة بما يمر به العالم من متغيرات اقتصادية وسياسية وبيئية وحتى اجتماعية؛ فالعالم وحدة واحدة لا يمكن تجزأته باعتباره ينتمي إلى كون واحد، ولهذا فإن كل ما يحدث في بلد ما قريب أو بعيد فإنه يؤثر على دولنا كلها، خاصة مع الانفتاح الكبير الذي نشهده، وامتداد سلاسل التوريد الاقتصادي والصحي والتعليمي، ناهيك عن المتغيرات البيئية التي تكتنف العالم بأسره. إن التنمية البشرية في خضم ذلك كله تحتاج إلى إعادة نظر في كينونتها وتوسعة أنماطها، وتشكيل أبعادها المعرفية.
يحدثنا تقرير التنمية البشرية 2023-2024 (الخروج من المأزق. صورة التعاون في عالم الاستقطاب)، الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، عن التحديات المشتركة التي تواجه العالم في ظل (جموح تغيُّر المناخ) باعتباره (مأزق عالمي)؛ حيث سُجلت في عام 2023 أعلى درجات للحرارة على الإطلاق، ويُتوقع أن يفتتح هذا العام عقدًا من الارتفاع المطَّرد في درجات الحرارة، إضافة إلى تلك الكوارث الطبيعية والوفيات وحالات النزوح جرَّاء الصراعات الجيوسياسية العنيفة، ولهذا فإن العالم عليه أن يزيد من فرص التعاون والتشارك الاستراتيجي ليضمن قدرته على التغلُّب على التحديات التي يمكن أن تواجهه، بما يمكِّنه من استمرارية دعم التنمية وتمكين أفراد المجتمعات.
ولهذا فإن تقرير الأمم المتحدة يتوقَّع بالإضافة إلى (الترابط الاقتصادي الوطيد)، أن هناك محركين أساسيين يدعمان الترابط في العالم أولهما (تعميق الروابط العالمية بين المجتمعات والاقتصادات والنُظم الإيكولوجية بفعل التغييرات الخطيرة) التي يمر بها الكوكب؛ فالكوارث والفيروسات الخطيرة لا تحدها حدود إدارية أو سياسية، فهي تجتاح العالم ضمن فضاءات الهواء المفتوحة وطبقات الأرض والبحار وغيرها، ولهذا فإن التنمية البشرية تتطلَّب التركيز على انتمائنا الإنساني المترابط في هذا الكوكب، غير متخلِّين عن انتماءاتنا الوطنية؛ إذ لا يمكن لدولة ما وحدها أن تقوم بحل تلك التحديات بمعزل عن دول العالم.
وثاني تلك المحركات هي الثورة الرقمية التي حققَّت خلال السنوات العشر الأخيرة بشكل خاص انفتاحا كبيرا وزيادة في تبادل البيانات والأفكار والثقافات، مما جعلت العالم أكثر قدرة على التعاون والترابط والمشاركة، وبالتالي فإنها تفتح أمام الدول آفاقا واسعة، يمكن استثمارها في تنمية رأس المال البشري، وتمكينه من السعي إلى تحقيق طموحاته من خلال إتاحة الفرص من المصادر المختلفة خاصة الطاقة المتجددة والذكاء الاصطناعي، وتوسعة آفاق الإبداع والابتكار وفتح فرص الأعمال.
ينطلق تقرير الأمم المتحدة من محاولة للإجابة عن تساؤلات عدة هي (لماذا يبدو تحقيق طموحات خطة التنمية المستدامة لعام 2030 واتفاق باريس جهدًا جهيدًا متثاقلا على رمال متحركة؟)، و (لماذا تستعصي، وفي كل مكان تقريبًا استعادة السلام، لماذا تبدو حتى الهدنة أو وقف إطلاق النار في خطوة أمل نحو السلام بعيدة المنال؟)، و(لماذا نحن متأخرون في الحوكمة الرقمية بينما يتهافت ناشرو الذكاء الاصطناعي على التحكُّم بالبيانات؟)، و(لماذا نحن عالقون؟ كيف ننعتق من هذه الدوامة من غير اللجوء إلى العنف الرخيص؟).
إن هذه التساؤلات قد تكون غير قابلة للإجابات المباشرة، إلاَّ أن مناقشتها وإثارتها يُعد محاولة مهمة للبحث عن حلول ومقترحات قد تفتح سبلًا جديدةً لإعادة التفكير في إمكانات تحققها؛ فعلى الرغم من وجود خيارات عدة للسلام والتنمية والازدهار، غير أن فوارق القوة، وديناميات تجاذب القوى في العالم، في مقابل تطلعات الشعوب وإرادة التنمية، غير متكافئة وعاجزة في العديد من الدول التي تقع ضمن دائرة الضغط.
ولهذا فإن الاعتراف بالترابط وتدارك الثغرات والتوزيع العادل وتحمُّل المسؤولية، إضافة إلى التأكيد على أهمية (الأعراف الاجتماعية التي تغذي ثقافة الإنجاز الجماعي والسلوك التعاوني)، من أهم موجهات مستقبل التنمية، لأنها أساس الإبداع والإرادة الخلاقة، وفتح آفاق الأمل نحو مستقبل متكافئ للجميع؛ فالعمل المشترك والتعاون على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية يوفِّر حلولا للمآزق والتحديات، من خلال الحوار البنَّاء والعمل المثمر والمرونة التي تتناسب مع متغيرات العالم الذي نعيش فيه.
ولعله من اللافت أن تقرير الأمم المتحدة هذا يدعو إلى التخلي عن العولمة باعتباره أحد الحلول المطروحة للاستمرار في العمل التنموي القائم على رأس المال البشري؛ ذلك لأنها أثبتت عدم جدواها في اعتمادها على (الشعبوية) والانغماس في أهدافها الخاصة بعيدًا عن أهداف الأوطان والمجتمعات الإنسانية، إلاَّ أن التخلي عن العولمة غير كاف في ظل هذا الانفتاح التقني المتسارع والصراعات العنيفة، بل علينا -حسب التقرير- أن (نواجه تعقيد الترابط العالمي وإدارة أشكاله القديمة والجديدة بطرق أفضل، تحمي وتوسِّع إمكانات الناس)، فعلى الرغم من الترابط العالمي الواسع في المجالات المالية والتجارية حتى مع تباطؤ وتيرة التكامل الاقتصادي وتحديات التضخم والديون في الكثير من الدول، إلاَّ أن هناك دولا لم تستطع الوصول إلى الحد الأدنى من ذلك الترابط.
إنَّ التطورات التي يمر بها العالم والتحديات البيئية والاقتصادية من أهم المعوقات أمام التنمية البشرية، لهذا فإن تطوير آفاق الاستفادة من المهارات والإمكانات، وتأمين فرص أعمال جديدة، والاستثمار في رأس المال البشري، يعدُّ من الأساسيات التي تمكِّن التنمية البشرية، وتقدِّم حلولا مستدامة يمكن الاعتماد عليها؛ فالاستثمار في الصحة والتعليم والتدريب والرعاية الاجتماعية، كلها ممكنات تقدمها الدولة لأفراد المجتمع، وهي ضمن مفهوم التنمية البشرية أساسية، غير أن أفراد المجتمع عليهم أن يكملوا هذا الاستثمار في قدرتهم من خلال الاستفادة من إمكاناتهم ومهاراتهم في تطوير أنماط حياتهم.
فالتنمية البشرية لا تعني أن نتلقى الخدمات الحكومية والدعم بقدر ما تعني أن نستفيد منها في تحقيق حياة أفضل، من خلال فتح آفاق جديدة مناسبة لنا ولمجتمعنا، وتغيير أنماط حياتنا بما يتناسب مع انفتاح العالم والتحديات التي تواجهه، والاستفادة القصوى من التطورات التقنية والخيارات الاقتصادية المتاحة، بما يضمن حياة كريمة ورفاها اجتماعيا أفضل لنا ولأبنائنا.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: رأس المال البشری التنمیة البشریة الأمم المتحدة أفراد المجتمع أفراد ا من خلال
إقرأ أيضاً:
محافظ جدة يطلع على تقرير” الموارد البشرية”
البلاد – جدة
استقبل صاحب السمو الأمير سعود بن عبدالله بن جلوي, بمكتبه أمس، مدير عام فرع وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية بمنطقة مكة المكرمة عبدالله بن عبدالرحمن إسماعيل.
واطّلع سموّه خلال الاستقبال على تقرير يتضمّن إنجازات الفرع لقطاعي العمل والتنمية الاجتماعية بالمحافظة للعام 2024م، والخدمات المقدمة للمستفيدين من خلال 14 فرعًا ودار إيواء، وكذلك إحصاءات الجولات الرقابية؛ للتأكّد من التزام المنشآت بقرارات التوطين والالتزام بنظام العمل.
كما استعرض التقرير البرامج المقدمة لمستفيدي الضمان الاجتماعي لتمكينهم من الدخول لسوق العمل، إضافة إلى برامج المسؤولية الاجتماعية.