في عمومها، تنشأ الظواهر والمشكلات الاجتماعية من ثلاثة منابع رئيسية: أولها اختلال نسيج المجتمع، وثانيها غياب الفهم المشترك للقيم والأعراف المجتمعية بين الأجيال، وثالثها اختلال دور المؤسسات الاجتماعية الفاعلة. هذه المصادر الأساسية التي تكون في الأساس سببًا للمشكلات الهيكلية -أي تلك المشكلات التي تمس البناء الاجتماعي أو يمتد تأثيرها ليشمل عديد الأنساق الاجتماعية- ولا شك أن هناك مصادر أخرى ثانوية للظواهر والمشكلات الاجتماعية؛ مثل العامل المصدر الثقافي الخارجي، ونشوء التمييز في المجتمع، والضغوط الاقتصادية على الأسرة، وسواها؛ لكن هذه المصادر تحتكم أيضًا في حقيقتها إلى المصادر الأساسية للظواهر والمشكلات الاجتماعية.
لنضرب بعض الأمثلة من ثلاث (قضايا مجتمعية ملحة) في المجتمع العُماني، نعتقد بضرورة نقاشها بشكل أوسع، كونها تشكل آثارًا على كافة مكونات البناء الاجتماعي؛ ومنها قضية التسول، التي أصبحت اليوم وللأسف ظاهرة شائعة في مختلف المحافظات، ورغم الجهود الحكومية لدرئها إلا أنها أصبحت فعلًا معاينًا بأشكال وأساليب مختلفة. إن هذه القضية مركبة جدًا؛ فكيف يمكن فيها التفريق بين دوافع (الوافدين) وبين دوافع (المواطنين) الذين يلجؤون لهذا الفعل؟ وكيف يمكن فيها التفريق بين مسوغات (المحتاج فعلًا) ومسوغات (من يستخدم العاطفة الاجتماعية) وكيف يمكن فيها التفريق بين المتسولين الذين يستخدمون بضاعة بسيطة على أطراف الشوارع وبين أولئك الذين يتسولون الناس بشكل مباشر؟ وكيف يمكن كذلك فهم استخدام الطفولة في هذه القضية المركبة؟ هذه أسئلة تترك للبحث والتقصي الذي يجب أيضًا أن يفضي إلى فهم الخلل في منظومة السياسات الاجتماعية وكفاءتها في درء هذه القضية. ولكن حين نتحدث عن كونها قضيةً مركبةً فعلينا أيضًا أن ندرك تأثيراتها على الأبعاد الاقتصادية والتربوية؛ فحين نسافر على سبيل المثال إلى بعض الدول الأخرى فأستطيع القول: إن أحد المحددات التي لا تجعلك ترغب في العودة إلى مدينة معينة هو انتشار المتسولين فيها وإزعاجهم للسياح أو مرتادي المدينة؛ وعليه فإن هذه القضية مهما كانت الدوافع الواقفة خلفها تؤثر على الصورة العامة للبلاد وخاصة المدن الرئيسية، وعلى الأماكن التي يتكاثر فيها المتسولون وقد تضعف جذب الناس إليها، وتؤثر على الإنفاق داخل السوق، وتعطل بعض المشاريع الاقتصادية في الأسواق.
كما أن التعرض المباشر لمشاهد التسول وخاصة من قبل الأطفال قد يخلق أيضًا لدى ذات الفئة من غير المتسولين قبولًا لهذا الفعل باعتباره فعلًا شائعًا، عوضًا عن السلوكيات الأخرى التي قد تنشأ نظير استغلال حاجة التسول. ورغم وجود الحلول العديدة التي بذلتها بعض الدول -بما فيها دول منطقة الخليج العربي- للحد من هذه الظاهرة، إلا أن التدخل المناسب يرتبط بكشف الدوافع والمسوغات والتركيبة الاجتماعية لفعل التسول، والتي هي في حقيقتها تختلف من سياق اجتماعي واقتصادي لآخر.
ومن القضايا التي تستلزم طرح ذات الأسئلة كونها ترتبط باستقرار المجتمع هو شيوع الطلاق -خاصة في المرحلة المبكرة من الزواج- وارتفاع مستويات الطلاق عمومًا في المجتمع، والذي يشي بضرورة فهم الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والقيمية الكامنة خلف ذلك، والتبعات الظاهرة والمتوقعة لأثر ذلك على البنى الأسرية والاجتماعية. وعلى الجانب الآخر هناك قضية الاستقرار الوظيفي، والتي تكاد تكون قضية مركزية في النقاش العام خلال الفترة الماضية، فالنظر إلى هذه القضية ينبغي أن ينطلق من كونها قضية أمن مجتمعي وأسري، وأمن اقتصادي بالنسبة للأسر والمجتمع عمومًا، وما قد ينشأ عن غيابها من تداعيات قد تكون كلفته الاقتصادية والاجتماعية وكلفته على مؤسسات الدولة عالية، ولكنها غير محسوبة. من هذه النماذج هذه دعوة إلى توسيع النقاشات عن قضايانا الاجتماعية الملحة، وعدم سحب المنطق الاقتصادي على حساب المنطق الاجتماعي للمجتمع. فالاستقرار المجتمعي رافعة أساسية ومهمة لزيادة الإنتاجية، وتعظيم العوائد الاقتصادية، ولا يمكن إهمال الظواهر والمشكلات الاجتماعية بوصفها مهددات للاستقرار الاقتصادي. يمكننا التفكير -كما دعونا سابقًا- في عقد المختبرات الاجتماعية، بحيث تكون منصات منهجية لتحديد وتوصيف الحالة الاجتماعية الراهنة بما يعترضها من ظواهر ومشكلات، والتمهيد لحلول على مستوى السياسات والتدخلات والسلوكيات التي تضمن على الأقل ألا تتسلل الظواهر الناشئة إلى بقية أجزاء الجسد الاجتماعي. كما أنه في الحالة المحلية ينقصنا التركيز على نوعية مهمة من الدراسات الاجتماعية، وهي تلك الدراسات التي تتقصى كلف المشكلات والظواهر الاجتماعية، وتقدم لصانع السياسة الكلفة الفعلية على المؤسسات والاقتصاد والعمليات التي تنشأ نتيجة تلك الظاهرة أو المشكلة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هذه القضیة أو المشکلة
إقرأ أيضاً:
الأسرة مرتكزًا لكل السياسات الاجتماعية
تحتفي سلطنة عُمان في أكتوبر من كل عام بيوم المرأة العُمانية، الذي يجسد يومًا وطنيًا تستذكر فيه الدولة والمجتمع الجهود والإسهامات المباركة التي تقوم بها المرأة في سبيل المشاركة في عملية التنمية الوطنية، إلى جانب دورها المحوري في التنشئة وتربية أجيالٍ متلاحقة بما في مفهوم التربية من اتساعٍ واستحقاقات، وبما يشمله من حفظ للقيم، ونقل للذاكرة المجتمعية عبر الأجيال، وتوريث صائب للمعايير والمحددات الاجتماعية بما يتسق وظروف وسياقات كل عصر وتحدياته. ما يُلفت في سياق الاحتفاء هذا العام هو تضافر الخطاب العام في التأكيد على قضية مركزية، والتذكير بها، باعتبار أن المرأة أساس مؤثر فيها، وهي قضية (الاستقرار الأسري والتنشئة السليمة)، ومن يتتبع ما طُرح من خطابات تهنئة ومباركة في هذا الشأن يكاد يجد خيوطًا متعددة للإشارة إلى هذا المرتكز، وتأكيدًا عليه؛ فبيان التهنئة من مجلس الوزراء بالمناسبة أشار إلى: «إن المسؤوليات الملقاة على عاتق الأمهات العُمانيات تتعاظم في ظل التطورات المتسارعة لوسائل التواصل الاجتماعي؛ وذلك لدورهن في استثمار تلك الوسائل في التنشئة السليمة للأسرة الصالحة». وتهنئة مقام السيدة الجليلة حرم جلالة السلطان المعظم لنساء عُمان بيوم المرأة العُمانية تضمنت الإشارة الواضحة إلى: «ما تواجهه المرأة والأسرة والنشء من تحديات، حيث تتبدل المعارف، وتتنوع التقنيات، وتتشابك القضايا» إلى جانب التأكيد على الإيمان بـ«أن المرأة العمانية قادرة على تجاوز الصعاب، متسلحةً بقيمها وثوابتها، مدعومة بقيادتها ومجتمعها».
وقد صادفت خطبة الجمعة ليوم الـ 17 أكتوبر 2025 أن كان موضوعها «تماسك الأسر سبيل استقرارها»، مؤكدة في مضامينها على أنه «باستقرار الأسرة وتماسكها يتماسك المجتمع، وتقل الانحرافات الفكرية والسلوكية والأخلاقية، فينبغ شباب المجتمع وفتياته، ويزدهر الوطن ويزهو بشبابه الصالحين». كل تلك الإشارات في الخطاب العام شكلت وحدة موضوعية مهمة تؤكد على ثلاثة اعتبارات أساسية: أن للمرأة دورها الحاسم اليوم في ظل التجاذبات التي تطال منظومة التربية والتنشئة الاجتماعية، وأن تلك المنظومة اليوم هي أساس منظومة التنمية الوطنية، وموجه رئيس لمساراتها ولنيل ثمارها ومكتسباتها، وثالث تلك الاعتبارات أن تحقيق استقرار الأسرة كمكون رئيس للمجتمع يحيِّد الكثير من الكُلف الاجتماعية للظواهر والمشكلات والقضايا الاجتماعية الناشئة؛ بما في ذلك ما ينشأ عن انحرافات الفكر والسلوك والأخلاق، أو ما يتأتى نتيجة تفكك الأسرة بظواهر النزاع والتخاصم والانفصال بين مكوناتها. إن محاولة حصر التحديات والتهديدات التي تحيط بالأسرة اليوم تبدو محاولة مضنية؛ فتزايد حالات عدم التوافق الأسري وما ينشأ عنها من تبعات على الوحدة الأسرية وتربية الأبناء، وضعف قدرة الأسرة على التحكم في مضامين عملية التربية ذاتها من ناحية المعارف والقيم والمنقول من الأفكار والمعايير نتيجة دخول عوامل ثالثة مؤثرة وأكثر قربًا لذهنية وتفاعل الأبناء، إضافة إلى (المحتوى الاستهدافي) في وسائل الإعلام المختلفة وبما فيها الإعلام الجديد ووسائل التواصل الاجتماعي، وتزايد أعباء التدبير الاقتصادي لبعض الأسر نتيجة تبدل المعايير وارتفاع سقف توقعات الأبناء، إضافة إلى انسحابية بعض المربين نحو أدوار الإعالة الاقتصادية على حساب الأدوار التربوية الأصيلة، ودخول أطراف أخرى يعتمد عليها في التربية دون تمحيص كافٍ للمعايير أو تحديد واضح للأدوار، عوضًا عن تقلص الامتداد الأسري الذي قلص بدوره الفعل الذي كانت تقوم به الأسرة الممتدة في حفظ الاستقرار والتوجيه وموازنة التماسك الأسري إلى جانب المساهمة في نقل الذاكرة المجتمعية، كما أن الأسرة اليوم أمام تبدلات في مفاهيم رئيسة منها: خصوصية الأبناء، وفكرة الاستقلالية، والاتجاهات إزاء الزواج وعملياته، وفكرة التضامن الاجتماعي. هذه بعض التحديات والتهديدات البنيوية التي تهدد كيان الأسرة المعاصرة، غير أن هناك من الظواهر التي تتآزر يومًا بعد يوم طارئة على وجود الأسرة وعملياتها الرئيسية مثل إدمان الوسائط التقنية للأبناء، وضغوط الهجرة الاقتصادية للمربين، وانهيار التواصل بين الأجيال.
هذا يقودنا إلى التأكيد على ما ذكرناه مرارًا في مقالات سابقة، وهو أن المرحلة تقتضي بالضرورة تحولًا جذريًا في السياسات العامة لتكون مصممة لتتمحور حول الأسرة، في سبيل بقائها وتماسكها وازدهارها، فتشجيع تصميم التجمعات السكنية التي تضع خيارات للأسر ذات القربى أن تكون في ذات الحيز السكني، والإلزام بوجود وحدات رعاية للأطفال في أماكن عمل النساء العاملات، وتمكين سياسات ريادة الأعمال القائمة على اقتصاديات الأسرة، والتركيز في تصميم الخيارات الترفيهية والسياحية على تلك الخيارات التي تتناسب والمقاصد الأسرية المتكاملة، وإعادة النظر في المحتويات التعليمية لتمكين قيم الأسرة وامتدادها وتصحيح المفاهيم الناشئة المرتبطة بالزواج، ووضع اعتبارات وسياسات واضحة لعمل المربيات في المنازل بما يضمن عدم التأثير الثقافي أو الأخلاقي، وتمكين دور وسائل الإعلام في مناقشة قضايا الأسرة ـ ليس كشؤون فردية ـ وإنما كشؤون أسرية ومجتمعية، والتوسع في استحداث سياسات الحماية الاجتماعية المتمحورة والصديقة للأسرة، كلها نماذج مبسطة لسياسات تقتضي أن تتكامل للمساعدة في حفظ مركزية الأسرة ودورها المحوري في التكوين المجتمعي. غير أن تلك السياسات لا تعمل منفردة؛ ما لم تكن منطلقة من توجهات استراتيجية مركزية، وهذا يقودنا للقول أنه بقدر ما كانت الجهود والهواجس الاقتصادية والمالية محورًا رئيسًا للخمسية الأولى من رؤية 2040 بقدر ما أن الخمسية الثانية منها تستحق أن يخصص لها برنامج متكامل للسياسات الأسرية ـ تحت أي مسمى أو صيغة كانت , ويكون هدفه الأساس هو النظر في كافة السياسات العامة التي تتصل بشكل مباشر أو غير مباشر بالأسرة تكوينًا وأوضاعًا وتحولات، ومحاولة إعادة تصميمها لتكون متمحورة حول الأسرة، إلى جانب استحداث سياسات نوعية جديدة تضمن الركائز الخمس للسياسة الأسرية: سلامة التكوين، التماسك والاستقرار، سلامة التنشئة والتربية، الحماية من المخاطر، تأدية الدور المركزي في حفظ ذاكرة المجتمع.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع، والتحولات المجتمعية فـي سلطنة عُمان