ترجمة: أحمد شافعي
الصراع الأساسي الذي يشهده العالم الآن هو الصراع الجاري بين الليبرالية والاستبدادية، بين من يؤمنون منا بالقيم الديمقراطية ومن لا يؤمنون بها، سواء أهم شعبويون أشباه طغاة أو طغاة صرحاء أو فاشيون دينوين.
في هذا السياق، يجدر بنا نحن الليبراليون أن نسحق أولئك الرجال سحقا! لكننا لا نفعل. فترامب يتقدم في الولايات المتأرجحة، ومودي يبدو قريبا من إعادة الانتخاب، وفي روسيا وإيران تظهر علامات القوة.
لقد تطورت الليبرالية على مدى القرنين الماضيين بوصفها نظاما يحترم الكرامة الإنسانية ويحتفي بحرية الاختيار الفردية، وترى الليبرالية الديمقراطية أننا لا نصدر أحكاما على الطريقة التي تريدون بها تحديد الغرض من حياتكم، ولكن كل ما نرجوه هو أن نقيم أنظمة تعاون عادلة تستطيعون في ظلها أن تسعوا أحرارا إلى أهدافكم التي تختارونها في حرية، مهما تكن هذه الأهداف. فالليبرالية تنزع إلى اللامبالاة بأغراض الحياة والتركيز على العمليات والسبل، من قبيل سيادة القانون، والفصل بين السلطات وحرية التعبير والمراجعة القضائية والانتخابات الحرة والنظام الدولي القائم على القواعد.
في كتابه الجديد الكاشف المؤثر «الليبرالية بوصفها طريقة حياة» يذهب ألكسندر لوفيفر إلى أن الليبرالية ليست محض قواعد محايدة تتيح لأشتات البشر أن يعيشوا معا، وإنما الليبرالية حسبما يكتب أصبحت روحا أخلاقية وفلسفة هادية في الحياة. وفي حين أن أنظمة أخلاقية أخرى ـ من قبيل الدين ـ قد وهنت في حياة كثير من الناس، فقد توسعت الليبرالية لتملأ هذا الفراغ الروحي.
يحترم الليبراليون حق الأفراد في رؤية أنفسهم باحترام ذاتي، فباتت الافتراءات العنصرية هي التجديف عندنا لأنها عدوان على هذا الإحساس باحترام الذات، وتنزع الأخلاق الليبرالية إلى أن تكون أفقية ـ فالليبراليون الخُلَّص لا يرفعون أعينهم اتقاء لإله حي وإنما يتلفتون حولهم محاولين أن يكونوا طيبين مهذبين تجاه إخوانهم البشر.
يعلي الليبراليون الخُلَّص من قيمة الرضا الفردي، فأي نوع من الترتيبات الجنسية أو العائلية مقبول ما دام الجميع متفقين عليها. وفي مرحلة ما يعرض ألكسندر لوفيفر عرضا لطيفا وعابرا جميع السمات التي تجعلنا نحن الليبراليين قوما لطفاء المعشر، فنحن نحترم الاستقلالية والفضاء الشخصي، ونمقت النفاق والغطرسة، ونكدح من أجل تحقيق التسامح عملا بمبدأ (عِشْ ودع غيرك يعش).
لكنني أعترف أنني أنهيت الكتاب ولم أزدد فقط تقديرا لنقاط قوة الليبرالية، ولكن أنهيته وقد بت أيضا أكثر وعيا بالسبب الذي يجعل كثيرا من الناس حولي يرفضون الليبرالية، وبالسبب الذي يجعل الاستبدادية تتقدم.
قد يبدو أن في المجتمعات الليبرالية شيئا من الفتور والافتقار إلى الإلهام. فالليبرالية تميل إلى اجتناب الميتافيزيقا، وتتحاشى الأسئلة من قبيل: لماذا نحن هنا؟ ومن الذي صنع الكون؟ وتغذي فضائل البرجوازية الرقيقة من قبيل الطيبة واللياقة، ولكنها لا تغذي ـ بعد إذن ألكسندر لوفيفر ـ الشجاعة والولاء والتقوى والحب القائم على التضحية بالذات.
ولا يخلو المجتمع الليبرالي من وحشة. فبالتركيز الشديد على الخيار الفردي، توهن الليبرالية الخالصة من الروابط الاجتماعية. وفي الأخلاقيات الليبرالية الخالصة، يكمن سؤال خفي من وراء كل علاقة: هل في هذا الشخص نفع لي؟ تصبح كل رابطة اجتماعية رابطة مؤقتة وعارضة، بل إن علاقتك بنفسك ذاتها قد لا تنجو من ذلك: فما أنا غير مورد أستثمره وصولا إلى نتائج مرغوبة.
والمجتمعات حينما تصبح ليبرالية تماما، تهمل حقيقة جوهرية، وهي أنه من أجل أن تزدهر المجتمعات الليبرالية فإنها بحاجة إلى الاعتماد على مؤسسات تسبق الاختيار الفردي ـ من قبيل الأسر، والأديان، والتعلُّقات بمكان مقدس. فالناس لا يتشكلون بقوة المؤسسات التي يرتبطون بها ارتباطا واهيا، إنما تتشكل أرواحهم وشخصياتهم داخل الروابط الأولية بأسرة معينة، وثقافة أخلاقية محددة، وقطعة من الأرض لها تاريخ طويل لدى (قومي)، وطاعة معينة لـ(إله أسلافي).
وهذه الارتباطات المغيرة للحياة لا يجري اختيارها في العادة اختيارا فرديا، ولكنها في العادة تنضفر منذ الميلاد في نسيج كيان الناس، في تقاليدهم وثقافتهم وإحساسهم بشخصياتهم.
لقد أوضح الحاخام جوناثان ساكس الفارق بين العقود التي تزدهر في عالم الخيار الفردي والعهود التي تزدهر على أفضل نحو في عوالم أعمق من عوالم المنفعة الفردية قائلا إن «العقد يتعلق بمصالح، والعهد بهوية. العهد يتعلق بك وبي إذ نصبح نحن. ولذلك فالعقود منفعة، والعهود تكوين».
نقطة القوة لدى المستبدين الذين يعارضون المبادئ الليبرالية، هي أنهم يلعبون مباشرة في المصادر البدائية للمعنى، وهي مصادر أعمق من التفضيل الفردي، وتتمثل في الإيمان والأسرة والأرض والعَلَم. يقول المستبدون لجماهيرهم: إن الليبراليين يريدون أن يسلبوهم كل ما هو متماسك ـ من أخلاق ونوع جنسي ـ ويختزلونه في النزوة الشخصية المضطربة. وهم يقولون لحشودهم إن الليبراليين يهددون ولاءاتهم العتيقة. ويمضون قائلين: إن علينا أن ننتهك القواعد لكي ندافع عن هذه الروابط المقدسة، ونحتاج إلى رجل قوي يدافع عنا ويدفع هذه الفوضى الاجتماعية والأخلاقية.
وثبت أن هذه حجج قوية، فقد تبين لاستطلاع رأي أجرته أخيرا رويترز وإيبسوس أن 52% من الجمهوريين يعتقدون أن أمريكا بحاجة إلى «رئيس قوي يتاح له أن يحكم دونما تدخل كبير للغاية من المحاكم والكونجرس».
ولعلنا نعيش سنة يحصل فيها المستبدون على سلطة أو يبقون فيها في بلاد بأوروبا وأمريكا اللاتينية والولايات المتحدة، في حين يواصل بوتين التقدم في أوكرانيا وتنجو حماس من حرب غزة، وباختصار لا يزال الزخم في جانب المستبدين.
والأدهى هو أن الليبرالية تؤدي إلى رد فعل مضاد لها في مجتمعاتنا، إذ يجد كثير من الناس أنهم جياع روحيا، يشعرون أنهم عرايا، محصورون، مستوحشون. فيتعلقون بسياسات عسى أن تملأ ذلك الفراغ الأخلاقي والروحي، ويتعلقون بها لتمنحهم إحساسا بالانتماء، والمعنى الأخلاقي، والهدف وكل ما كان يمنحه الإيمان والأسرة والأرض والعلم لأسلافهم. وهم بهذا يغيرون السياسة من كونها محض نهج عادي للتعامل مع الاختلافات إلى حرب مقدسة تحمي موقفي الأخلاقي وتدمر موقفك غير الأخلاقي. فتبدأ السياسة في القيام بدور شمولي ووحشي في حياتهم الشخصية وفي حياتنا الوطنية، وهم يطلبون من السياسة أكثر مما يمكن أن تحققه.
لو كان مقدورا لليبرالية أن تنجو في هذا التنافس، فعلينا أن نحتفي بالليبرالية مع اعترافنا بأوجه قصورها. فالليبرالية طريقة رائعة لإقامة مجتمع عادل يساعد أشتات الناس على الحياة معا في سلام، لكن الليبرالية لا يمكن أن تكون الغرض النهائي في الحياة، فعلينا أن نكون ليبراليين في الفضاء العام وأن نتبنى في عمق وجودنا ولاءات ـ فنكون كاثوليكيين أو يهودا أو أو رواقيين، أو مناصرين للبيئة، أو ماركسيين، أو منتمين إلى أي عقيدة مقدسة ووجودية أخرى. فالناس بحاجة إلى الشعور بأنهم مرتبطون بنظام أسمى، والقواعد اللطيفة لا تشبع هذا التوق.
على الساسة الليبراليين أن يجدوا سبلا للدفاع عن المؤسسات الليبرالية مع احترام للإيمان والأسرة والعلم وغيرها من الولاءات التي تحدد الهدف لأغلب الناس في حياتهم. وإنني أشعر أن الرؤساء الأمريكيين، من تيودور روزفلت إلى رونالد ريجان، على سبيل المثال كانوا يعرفون كيف يتكلمون وفقا لهذه الشروط. ونحن بحاجة إلى نسخة منهم للقرن الحادي والعشرين.
فلو أن الليبراليين محض لطفاء ومتسامحين ولا يستطيعون الحديث عن أعمق وأقدس احتياجات القلب والروح، وهي التي تبدو اليوم مهددة في نظر الكثيرين، فسيكون عامنا هذا عاما انتخابيا قبيحا.
ديفيد بروكس معلق سياسي وكاتب عمود رأي في صحيفة نيويورك تايمز
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: بحاجة إلى من قبیل
إقرأ أيضاً:
هاشم: اذا لم تستح فقل ما تشاء كأن ذاكرة الناس قد محيت
قال النائب قاسم هاشم في تصريح: "اذا لم تستح فقل ما تشاء كأن ذاكرة الناس قد محيت ليطل من اقام الدنيا ولم يقعدها وكان الفراغ فعل وطني لعامين ونصف العام ليتكرس رئيسا للجمهورية واحدا ومن غيره المنقذ والمخلص والتغييري يومها كان كل ذلك مطلوب ومباح واليوم ومع الظروف الصعبة والمعقدة والتحديات انقلبت المعايير مع اصحاب النظريات الخنفشارية يومذاك لخدمة وصول الشخص كانت المقاومة لخدمة الجمهورية واليوم في مواجهة العدوان وفق الاهواء والمزاج المنقلب لم تعد الحاجة لمقاومة العدو واخطائه، يبدو ان المرآة اصبحت تعكس صورة ضبابية".