أحترم كل الآراء التي ترى أن اجتماعات القمة العربية «لا فائدة منها» وليس لها قيمة عملية يمكن أن تنتظرها الشعوب العربية، لكني أرى أن مجرد وجود كيان عربي، حتى لو كان غير فاعل مثل الجامعة العربية، يحمل أهمية كبيرة ويمكن في يوم من الأيام إصلاحه بناء على فكر عربي جديد تشكله إرادة عربية مختلفة عن الإرادة الحالية، ويحوّل من كيان غير فاعل إلى كيان فاعل ومحوري في العمل العربي المشترك.
وأعرف يقينا أن هذا الرأي قد لا يُعجِب البعض؛ لأنه يتجاهل السياق التاريخي للجامعة، وبين هؤلاء البعض من أثق في رأيه واحترمه كثيرا، وأفهم منطق أيَّ رأي يُقِّيمُ الجامعة العربية ومواقفها خلال العقود الثمانية من الزمن العربي الصعب لكن لا بد أن نفهم قبل كلِّ شيء أن العالم العربي يعيش الكثير من التناقضات السياسية والاجتماعية، وهذه التناقضات هي التي شكلت الكثير من الهوان العربي، وهي التي بنت الصورة الذهنية عن الجامعة العربية وعن قممها السنوية وعن قراراتها التي لا يصل أثرها إلى خارج القاعة التي عُقدت فيها. وتلك التناقضات العربية هي التي تَحُول دون نجاح أي تحرك عربي حتى في اللحظة التي يعادل فيها التحرك حياة الأمة وكرامتها أو بقاء كيان دول من دولها.. رغم ذلك فإن الحل ليس في غلق الجامعة العربية وبيع ممتلكاتها في مزاد علني.. وإنما في إصلاحها وفي إصلاح التناقضات والخلافات العربية وفي اتحاد عربي حقيقي في المواقف وفي الرؤى يقوم على المشتركات بعيدا عن الصراعات والتناقضات التي تعيشها الأمة، ويقوم على فهم حقيقي للأسباب التي جعلت الأمة العربية في هذا الوضع المأزوم.
كنتُ في مملكة البحرين خلال الأيام الماضية أتابع عن قرب القمة العربية «التي تنعقد في ظروف استثنائية» كما هو الحال في جميع القمم العربية، وكان الجميع يتحدث عن «نجاح البحرين في تنظيم القمة» حتى قبل بدئها، وهذا حديث لا شك فيه وقد أدت البحرين ما عليها كدولة منظمة وتفوقت على تحدياتها، ولكنّ النجاح الحقيقي للقمة لم يكن في يوم من الأيام في تنظيمها، وإنما في قراراتها وفي مواقفها، فكل قمة عربية لا بدّ أن تكون استجابة للوضع الماثل في العالم العربي أو ما يحيط به.
تحدث القادة العرب وممثلوهم في القمة، التي استمرت أربع ساعات فقط، حول قضايا مختلفة، وكانت القضية الفلسطينية جوهر تلك الخطابات ومحورها حتى من قِبَل الدول التي تعيش مجازر لا تقل وحشية عن المجازر التي تعيشها غزة كما كان الحل في كلمة ممثل السودان.. كان قد مضى في تلك اللحظة الخطابية العربية، أكثر من سبعة شهور على بدء عملية الإبادة الجماعية في قطاع غزة، وارتكبت آلاف المجازر التي راح ضحيتها أكثر من 35 ألف فلسطيني جُلَّهم من الأطفال والنساء، وهُجِّر قَسريّا أكثر من مليون فلسطيني، ووقعت في قطاع غزة عشرات النكبات التي تعادل كل واحدة منها نكبة 1948. لكن نتيجة كل تلك الخطابات العربية مجرد إدانة وشجب، بل إنَّ أحدا لم يعلِ الصوت بالطلب المباشر من الدول المطبعة مع إسرائيل بغلق سفاراتها فورا كموقف عربي تخرج به القمة العربية يحفظ بعضا من ماء وجهها. وحده الرئيس الفلسطيني محمود عباس قال: «على الأشقاء مراجعة علاقاتهم مع المحتل». والمراجعة درجة منخفضة جدا من الدعوة الصريحة إلى قطع العلاقات التي لا مسوغ لها في أي وقت من الأوقات دع عنك في لحظة الحرب الكبرى ولحظة الإبادة التي تحدث في قطاع غزة.
أليس في كل ما حدث ويحدث في العالم العربي تناقض كبير جدا، خطابات تتهم إسرائيل بارتكاب جرائم حرب في جزء أصيل من العالم العربي وفي المقابل هناك علاقات ومصالح مع دولة الاحتلال تصل إلى حد حمايتها!.
لم تعالج الخطابات العربية الكثيرة في القمة المشكلة الحقيقية التي تعيشها الأمة العربية وأسبابها وحلولها.. وحده أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش شَرَّح في كلمات قصيرة المأساة العربية وأعادها إلى جذورها التاريخية وتحدث عن أهم سبب في الوضع العربي الراهن وهو غياب «الاتحاد» الذي اعتبره حجر الزاوية في معالجة التحديات التي تواجه العالم العربي. واستشهد بالتاريخ الغني في المنطقة العربية، وقارن بين أمجاد الماضي وإمكانات الحاضر.. واعتبر أن «الاتحاد» هو كلمة السر في استعادة العالم العربي لدوره العالمي.
كانت كلمة أنطونيو غوتيريش أهم كلمة ألقيت في قمة البحرين، لكنها في الوقت نفسه كشفت حجم التناقضات التي يعيشها العالم العربي.
يرى أمين عام الأمم المتحدة أن العالم «يتغيّر من جديد، وإنني أرى في المنطقة العربية إمكانات هائلة.. فلديكم الموارد، ولديكم الثقافة، ولديكم البشر، ولكن ثمة شرطٌ أساسي وحيد للنجاح في عالم اليوم، ألا وهو الاتحاد». ويضيف في كلمته «لقد أظهر التاريخ مرارا وتكرارا أن الانقسامات تفسح المجال لتدخل أطراف خارجية - مما يغذّي الصراعات ويؤجج التوترات الطائفية، ومن ثم يشعل فتيل الإرهاب ولو بغير قصد.. وهذه عقبات تحول دون تحقيق التنمية السلمية وتعيقكم عن ضمان رفاه شعوبكم. ويتطلب التغلب على هذه العقبات كسر الحلقة المفرغة من الانقسام وتلاعب الأطراف الأجنبية - ويتطلب المضي قدما معًا لبناء مستقبل أكثر سلما وازدهارا لشعوب المنطقة العربية وخارجها».
يعرف الغرب جيدا، كما تعرف الأمم المتحدة ويعرف أمينها العام، أسباب ضعف العالم العربي والأسباب التي يمكن أن تعيد له قوته ومكانته وتجعله يتجاوز كل هذا الهوان الذي يعيشه وهذا الضعف الذي يُغِّيبه عن الفعل الحضاري وعن القدرة حتى في حماية نفسه من الذبح والقتل اليومي.. لكن قمة عربية تأتي وسط روائح الموت والإبادة الجماعية لا تريد أن تتحدث عن ذلك أو تتحرك نحوه، ولا تريد أن تتحدث عن سيطرة الانقسامات الطائفية في العالم العربي والانقسامات السياسية والأيديولوجيات، وأدنى استراتيجية سياسية عربية متماسكة، الأمر الذي خلق سياسات متباينة تعمل على تقويض المصالح العربية الجماعية.. إلى درجة لم تعد الكثير من الدول العربية تثق في بعضها البعض. ناهيك عن وجود أي رؤية اقتصادية عربية أو القدرة على بناء كتلة اقتصادية واحدة، رغم الوفورات المالية الضخمة في بعض الدول العربية، والتي تستطيع منافسة القوى الإقليمية الكبرى.. وباختصار غياب أي تكامل عربي على كل المستويات اللهم إلا في السياق الخطابي وفي سياق الأمنيات.
كانت كلمة الأمين العام للأمم المتحدة، التي لم ينتبه لها الكثيرون، ترتكز على رؤية استراتيجية للاستفادة من القوة الجماعية.. فالاتحاد العربي في المواقف السياسية وفي الاستراتيجيات الاقتصادية والاجتماعية من الممكن أن يحول العالم العربي إلى قوة عالمية كبرى تستطيع التأثير على السياسات الدولية وتأمين نتائج أفضل للشعوب العربية، أو تستطيع على أقل تقدير وقف المذابح اليومية المستمرة منذ أكثر من سبعة شهور في الشعب الفلسطيني.
يختتم أمين عام الأمم المتحدة حديثه مخاطبا القادة العرب بالقول: «ما من وقت أفضل من هذه اللحظة لكي تقف المنطقة العربية صفّا واحدا.. فمن شأن الاتحاد والتضامن على كامل نطاق العالم العربي إسماع صوت منطقتكم ذات الأهمية الحيوية بمزيد من القوة، وتعزيز تأثيركم في الساحة العالمية.. ويمكن بذلك مساعدة هذه المنطقة على الاهتداء إلى سبيل السلام، وتعظيم الاستفادة من إمكاناتها الهائلة، والإسهام بشكل أكبر في تحقيق ما فيه الخير للعالم».
فهل يتحد العالم العربي ويجعل المصالح العربية العليا فوق كل اعتبار ويتجاوز كل تناقضاته السياسية والاجتماعية والفجوة الاستراتيجية والفردانية التي تتعالى على الآخر الذي يشكل جزءا من الكل العربي ويتغلب على تحدياته؟ وهل يدرك العالم العربي خطورة هذه اللحظة التاريخية على مستقبله وعلى مستقبل شعوبه؟ هذا سؤال كبير يطرح في كل أرجاء العالم العربي.. ورغم تفاؤل الأمين العام للأمم المتحدة بالأمة وبهذه اللحظة التاريخية إلا أن المؤشرات لا تبشر بالخير، مع الأسف الشديد، وستبقى كل الطرق إلى الاتحاد العربي، في رؤية الخطر على أقل تقدير، محفوفة بالكثير من التحديات.. رغم ذلك فهي رحلة تستحق القيام بها من أجل الصالح العام للمنطقة والعالم. ومن أجل ذلك، أيضا، سنقول إن الحل ليس غلق الجامعة العربية وإنما إصلاحها، وليس في لعن الظلام إنما في إشعال شمعة يخترق ضوؤها الضئيل دياجي الظلام ويشتته.
عاصم الشيدي كاتب ورئيس تحرير جريدة عُمان
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الجامعة العربیة المنطقة العربیة العالم العربی الأمم المتحدة أکثر من
إقرأ أيضاً:
صفقة ترامب للمعادن.. هل يتجه للتكنولجيا الخضراء التي يسخر منها؟
منذ توليه منصبه، انسحب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من اتفاقية باريس للمناخ، التي تُعتبر أهم اتفاقية عالمية للمناخ. ليس هذا فحسب بل هناك تقارير تفيد بأنه منع العلماء الأمريكيين من المشاركة في أبحاث المناخ الدولية، وألغى الأهداف الوطنية للسيارات الكهربائية.
وكان دائما يسخر من محاولات سلفه تطوير تكنولوجيا خضراء جديدة، واصفاً إياها بـ "الخدعة الخضراء الجديدة".
ومع ذلك ربما يهدي ترامب أكبر هدية لمؤيدي التكنلوجيا الخضراء، بحسب تقرير لـ"بي بي سي".
يأتي ذلك في ظل الاهتمام الكبير لترامب بمسألة المعادن النادرة. حيث تُعد هذه المعادن أساسية في صناعات تشمل الفضاء والدفاع، لكن من المثير للاهتمام أن لها استخداماً رئيسياً آخر أيضاَ، وهو تصنيع التكنولوجيا الخضراء، التي يستهزئ بها ترامب.
تناول تقرير نشرته لجنة حكومية أمريكية في كانون الأول/ ديسمبر 2023 ضعف موقف الولايات المتحدة في المعادن الأرضية النادرة والمعادن الحيوية (مثل الكوبالت والنيكل).
وجاء في التقرير: "يجب على الولايات المتحدة إعادة النظر في نهجها السياسي تجاه سلاسل توريد المعادن الحيوية وعناصر الأرض النادرة نظراً للمخاطر التي يشكلها اعتمادنا الحالي على جمهورية الصين الشعبية".
وحذر التقرير من أن عدم القيام بذلك قد يؤدي إلى "توقف الإنتاج الدفاعي تماماً وخنق تصنيع التقنيات المتقدمة الأخرى".
وتنبع هيمنة الصين على السوق من إدراكها المبكر للفرص الاقتصادية التي توفرها التكنولوجيا الخضراء. التي "تستحوذ على 60 في المئة من إنتاج المعادن الأرضية النادرة العالمي، لكنها تُعالج ما يقرب من 90 في المئة منها، وهي المهيمنة في هذا المجال"، بحسب غريسلين باسكاران، مديرة برنامج أمن المعادن الأساسية في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن.
وووفق كريستوفر نيتل، أستاذ الاقتصاد التطبيقي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا فـ"إنها مصادفة سعيدة أن هذا قد يُسهم في نهاية المطاف في دعم التكنولوجيا الخضراء".
ويبدو أن جهود ترامب الأخيرة للحصول على هذه المعادن الأساسية تُشير إلى أن التركيز على العمليات الأولية قد يكون قائماً الآن.
ويفيد عاملون في القطاع إن الهمسات في أروقة البيت الأبيض تُشير إلى أنه قد يكون ترامب على وشك إصدار "أمر تنفيذي للمعادن الحيوية"، والذي قد يُوجِّه المزيد من الاستثمارات لتحقيق هذا الهدف.
ولا تزال التفاصيل الدقيقة التي قد يتضمنها الأمر التنفيذي غير واضحة، لكن خبراء مُلِمّين بالقضية قالوا، بحسب "بي بي سي" إنه قد يشمل تدابير لتسريع التعدين في الولايات المتحدة، بما في ذلك تسريع إصدار التصاريح والاستثمار لبناء مصانع المعالجة.
تختم "بي بي سي" تقريرها بالقول إنه "بالنسبة للمهتمين بقضايا المناخ، فإن ترامب ليس بالتأكيد مناصراً للبيئة. ومن الواضح أنه لا يهتم بجعل إرثه بيئياً، بل اقتصادياً، مع أنه قادر على تحقيق الأمر الأول إذا اقتنع بأنه سيعزز الاقتصاد".