منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 7 من تشرين أول (أكتوبر) من العام 2023، عاد الحديث مجددا عن المحاور الدولية مع الاصطفاف الغربي غير المسبوق إلى جانب الاحتلال الإسرائيلي في حربه ضد الشعب الفلسطيني..

وبرزت إيران كواحدة من أهم الأطراف المؤثرة في المشهد بالنظر إلى تبادل الضربات العسكرية بينها وبين الاحتلال الإسرائيلي، الذي عمد إلى اغتبيال عدد من قادة الحرس الثوري الإيراني في العراق وسوريا.

وكان الاستهداف الإسرائيلي الأخير لقنصلية طهران في دمشق نقطة فاصلة في هذه العلاقة، حيث أعلنت طهران أنها لن تصمت على هذا العدوان، وأنها سترد، وقد كان لها ذلك حين أمطرت إسرائيل بعشرات الصواريخ والطائرات بدون طيار من إيران إلى الأراضي اتلمحتلة مباشرة..

وقد أعاد هذا الاحتقان الذي ميز العلاقات الإيرانية ـ الإسرائيلية على مدى العقود الماضية، وكذا اشتداد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، امكانية وحدة الصف السني ـ الشيعي في مواجهة هذا العدوان، الذي زاده الدعم الأمريكي والغربي وحشية، على نحو ما كان أيام الحروب الصليبية حين توحد الشيعة والسنة في مواجهة الصليبيين في عدد من المواقع..

وقد أثار الأستاذ الجامعي الموريتاني الكاتب محمد مختار الشنقيطي ذلك من خلال عدد من تغريداته على صفحته على منصة "إكس"، مستذكرا كتابه "أثر الحروب الصليبية على العلاقات السنية الشيعية"، داعيا إلى توحيد الصفوف ليس في نصرة المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وإنما في الانحياز إلى الصف العربي والإسلامي في مواجهة حرب صلايبية جديدة بقيادة إسرائيل ودعم الدول الغربية وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية.

وأعاد الدكتور الشنقيطي نشر قراءة سابقة للكاتب والباحث السوري الدكتور عرابي عبد الحي عرابي عن كتابه المذكور، وهو ما أثار جدلا فكريا بين النخب العربية والإسلامية، ليس فقط عن العلاقات السنية ـ الشيعية، ولا الإيرانية ـ العربية، وإنما عن دور إيران في إضعاف العرب وتمكين عدوهم منهم.

"عربي21"، تفتح نقاشا فكريا عميقا حول كتاب الدكتور الشنقيطي أولا، وما إذا كان من الوارد أن يتم تحالف سني ـ شيعي في مواجهة العدوان الإسرائيلي والغربي على فلسطين والعرب والمسلمين..

وبعد أن نشرنا رأي الدكتور عرابي عبد الحي عرابي، ثم رأي الدكتور أحمد القاسمي الأستاذ الجامعي التونسي، ننشر اليوم رأي الدكتور بلال التليدي الباحث المغربي في شؤون الفكر الإسلامي..

ترميم الذاكرة التاريخية

سبق لي أن قرأت أطروحة الدكتور المختار الشنقيطي بعد أن ترجمها إلى اللغة العربية ونشرها سنة 2016 في الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ووقتها اعتبرت أن ترجمة هذا العمل الهام، الذي استحق عليه المؤلف درجة الدكتوراه من جامعة "تكساس تك" بالولايات المتحدة الأمريكية سنة 2011، يعتبر إضافة نوعية في حقلين من حقول الدراسات الاجتماعية (التاريخ، وعلم السياسة).

ومع أن قصد الأطروحة الأول، اتجه إلى محاولة ترميم الذاكرة التاريخية، أو بالأحرى التأسيس لتاريخ جديد وذاكرة جديدة، تطوي صفحة  ماضي الصراع والقطيعة بين السنة والشيعة، خاصة في لحظات الاستهداف الغربي (الصليبي بالأمس، والصهيوني الأمريكي اليوم)، فإن الأهم في هذا العمل، في تقديري، هو محاولة التأسيس للحاضر من خلال العودة  إلى الماضي، والانطلاق من  فترة زمنية محدودة في الامتداد (القرنين السادس والسابع الهجري)، أي فترة الحملات الصليبية التي اجتاحت العالم العربي، للتأسيس للتواصل بين السنة والشيعة، ومحاولة بحث إمكان التحالف بين الطرفين، على الأقل، في مواجهة التهديد الوجودي الذي يمثله الكيان الإسرائيلي والحليف الأمريكي الأوربي، تماما كما كان بالأمس يمثله الصليبيون في الحقبة المذكورة.

في الواقع، مع الإقرار بصعوبة البحث التاريخي، وتداخل المذهبي والطائفي بالحقيقة التاريخية في عمل المؤرخ وفي الوثيقة التاريخية نفسها، فإن التأسيس للذاكرة المتواصلة، يعتبر أصعب بكثير من المحاولة البحثية، التي قام بها محمد بن المختار الشنقيطي وغيره من الباحثين، الذين ركزوا على موقف الشيعة من الحروب الصليبية.

من المفيد أن أؤكد أن عددا من الباحثين المشهود لهم بالجدية البحثية، وأيضا بالصرامة المنهجية في التعامل مع الحقيقة التاريخية، استطاعوا إلى حد كبير أن يتخلصوا من إرث الصراع المذهبي، وأن يتجردوا من نزعاتهم الطائفية، ويقرروا في خلاصاتهم المتنوعة حقيقة مشتركة تتعلق بعدم وجود ما يثبت حصول تواطؤ بين الشيعة وبين الصليبيين في مواجهة السنة أو في محاولة تقليص نفوذهم، وحتى في حالة الفاطميين في مصر أو الإمامية في طرابلس (ابن عمار)، فإن أقصى ما أثبته الدارسون خاصة للموقف الفاطمي من الغزو الصليبي، هو  تقدير سياسي تبناه الفاطميون، سرعان ما تبين لهم خطأه بعد أن سقط بيت المقدس بيد الصليبيين، واقترب الخطر الصليبي أكثر من منطقة نفوذهم وعاصمتهم (مصر)، وأن ذلك دفعهم إلى إعادة قراءة الموقف من جديد، والسعي نحو  الدخول في جبهة مع السنة لقتال الصليبيين.

فالدكتور أسامة زكي زيد في كتابه: "الصليبيون وإسماعيلية الشام في عصر الحروب الصليبية"، أثبت هذه الحقيقة، وذلك بعد تحقيق علمي استوفى فيه كثيرا من الجهد والمقابلة وتحرى فيه استقراء المصادر الأجنبية. وإذا كان أغلب المؤرخين العرب وفي مقدمتهم ابن الأثير وابن ترغي، قد استنكروا تقاعس الفاطميين في الجهاد ضد الصليبيين، وتفكيرهم في مصالحهم بمعزل عن التبصر بمقاصد الافرنجة السياسية والعسكرية، فإن أحدا منهم لم ينكر حقيقة قيامهم بثلاث حملات عسكرية ضد الصليبيين لاستعادة بيت المقدس، ولجوؤهم في الأخير، بعد أن تلقوا هزائم متتالية، إلى طلب سند السنة، من السلاجقة الأتراك، وانهم دفعوا ثمنا كبيرا مقابل ذلك، إذ خسروا نفوذهم في الشام، وانهارت دولتهم في مصر بعد ذلك.

أطروحة الشنقيطي.. المقاصد والحقائق التاريخية:

مع أن موضوع الأطروحة هو التنقيب التاريخي في جزئية تتعلق بأثر الحملات الصليبية على العلاقات بين السنة والشيعة، فإن صاحبها لم يخف قصده السياسي والحضاري من الاشتغال العلمي على هذه الجزئية، فالاشتغال على الذاكرة التاريخية بقصد بناء المستقبل، أي التأسيس للوحدة أو التحالف بين السنة والشيعة، تقف دونه إشكالات كثيرة، جزء منها يسكن في التاريخ، وتمتد تداعياته الثقافية والدينية والمذهبية والسياسية إلى الحاضر. والجزء الآخر، يسكن في واقع السياسة اليوم، وطبيعة العلاقات القائمة بين إيران (باعتبارها الدولة الشيعية الأم الراعية) والدول السنية، والشكل الذي تتعاطى به مع القضية الفلسطينية، وبشكل خاص مع المقاومة الفلسطينية في مقاومتها الاحتلال الصهيوني.

يقرر الشنقيطي في أطروحته أن السمة العامة التي طبعت العلاقة بين السنة والشيعة على مدار التاريخ هي التواصل لا القطيعة، والتعايش لا الصراع، ويستثني من ذلك أربع محطات أساسية، ثلاثة منها تنتمي إلى التاريخ "الوسيط":( الصراع بين المالكية والإسماعيلية في الحكم الفاطمي لتونس الذي دام بضعة عقود، الصراعات الحنبلية الشيعية في زمن الحكم البويهي ببغداد الذي دام مائة وخمسة أعوام، وصراع النفوذ بينم العثمانيين والصفويين على العراق وشمال الشام وشرق الأناضول) والمحطة الرابعة تنتمي إلى التاريخ المعاصر(الحرب الإيرانية العراقية 1980ـ 1988)، ويؤكد أن أسباب القطيعة لا تعود إلى اعتبارات عقدية أو مذهبية، وإنما ترجع إلى أسباب سياسية وعرقية، وأن الدين والمذهب والمعتقد هي مجرد أدوات استعملت لتذكية هذه الصراع وتبريره.

اشتغل الشنقيطي على أربعة أسئلة محورية، يهمنا منها الثلاثة الأولى، أي بحث أسباب تمدد التسنن وانحسار التشيع خلال المرحلة الصليبية (القرن السادس والسابع الهجري)، واختبار مدى تأثير هذه الحروب في ذلك؟ ودراسة أثر هذه الحملات الصليبية في تكييف العلاقات السنية الشيعية (تطور العلاقة)؟ فهذه الأسئلة هي التي تتعلق بالتأسيس التاريخي الذي يرفع رهان وحدة الجبهة النضالية بين الشيعة والسنة اليوم لمواجهة الاحتلال الصهيوني المدعوم أمريكيا وأوربيا، أما سؤال تأثير تلك الأحداث (شكل تعاطي الشيعة مع الحروب الصليبية) على الحجاج الطائفي بين السنة والشيعة اليوم؟ فالجزء الأكبر من النخب السنية اليوم تدعم فكرة تواطؤ الشيعة مع الصليبيين ضد السنة، وتعيد إنتاج أطروحة أطروحة التحالف الإيراني الأمريكي على حساب القضية الفلسطينية، باستثناء نزر يسير من التعابير السياسية التي لا تزال تبحث في التاريخ عن وقائع أخرى لترميم الذاكرة والاستثمار في بناء "مستقبل جديد".

وبغض النظر عن الوقائع والأحداث الكثيفة، وعن التشعبات التي تخترق الخارطة الشيعية، سواء منها المذهبية، أو حتى الجغرافية، والتحولات التي طبعت مواقفهم، فإن الخلاصة التي انتهت إليها أطروحة الشنقيطي، تبقى مفتوحة على أكثر من رهان مستقبلي، فإذا كان التأثير الأساسي للحروب الصليبية على الشيعة دعم فكرة انحسار التشيع وضعف نفوذهم في كل من الشام ومصر خلال القرن السادس والسابع الهجري، وسقوط دولتهم في مصر، وانتقال مركز ثقل التشيع من بلاد العرب إلى بلاد فارس، فإن العبرة التاريخية المرتبطة ببناء المستقبل تحتمل قراءتين: القراءة التي ترى أن مقاومة الشيعة للصليبيين بشكل مبدئي من أول يوم، وعدم التعويل على الإفادة من حروبهم لكسب مواقع على حساب (السنة) أو بقصد إضعافهم سياسيا، سينتج عنها تمدد التشيع واكتساب الدولة الراعية له قوة وشرعية.

وقراءة مقابلة، ترى أن الشيعة، لم يجنوا من وراء مقاومة الصليبيين سوى انحسار مذهبهم واضمحلال دولتهم، وأن التحاقهم بالسنة بشكل متأخر لمواجهة الصليبيين، وإبعاد التهديد الوجودي عنهم بعد أن سقط بيت المقدس وأخرج من نفوذهم، لم يشفع لهم، ولم يمكنهم من تجديد شرعيتهم أمام الأمة، ومن تقوية سلطتهم ونفوذهم كدولة في مصر وأن الذي كسب في النهاية هم السنة من خلال الدولة السلجوقية (التركية).

في الواقع ليس للباحث أي ضمانة للحكم على التاريخ في حال تغير بوصلته، "فلو" الافتراضية لا تصلح أن تعمل في وقائع التاريخ، فما جرى هو الذي حصل، ولا يمكن افتراض سيناريو آخر، لاختبار هل كانت النتائج ستسير على نفس النسق أم كانت ستصير إلى أحوال أخرى، لكن مع ذلك، ينبغي أن نطرح السؤال المتعلق بالتركيبة السوسيولوجية، وبنية الدولة، وشرعيتها، ووزنها في المسرح الدولي، لا السؤال المتعلق بالموقف من الحرب الصليبية، فالذين يرون أن مستقبل الفاطميين كان سيسير في اتجاه آخر لو اتجهوا من أول يوم، وبشكل مبدئي إلى حرب الصليبيين إلى جانب إخوانهم السنة، لا يمكن أن يقدموا أي حجة، تربط الانحسار والتمدد في المذهب بالموقف أي بالمقاومة، في حين، نظريا، ليس ثمة حجة تدعم  إمكان تمدد الدولة الفاطمية أو تمدد مذهبها الإسماعيلي، في حالة اختيارها منذ أول يوم الوقوف إلى جانب السنة في مقاومة الحملات الصليبية. فقياس التمدد والانحسار في الواقع يرتبط بأمة يتجاذبها مذهبان هما السنة والشيعة، وهما في الحالة هذه كلاهما مقاومان، فعلى حساب من سيكون التمدد؟ وعلى حساب من سيكون الانحسار؟

ولذلك، نرجح أن يكون وراء سقوط الدولة الفاطمية، وانحسار التشيع في القرنين السادس والسابع الهجري، عوامل أخرى، تتدخل فيها بنية الدولة، والجغرافية التي تحكمها، والتركيبة السكانية والمذهبية للجماعة التي تحكمها، والإطار الإقليمي الذي يحكمها، وموازين القوى وطبيعة العلاقة التي تربطها بخصمها (السنة) في مختلف تشكيلاته وتحيزاته الجغرافية، وأيضا بالفاعل الأجنبي  والتهديد الجغرافي الذي يشكله وطريقة الاشتباك معه وكلفة ذلك، وأن قضية سوء تقدير الموقف من الحملات الصليبية، لم يكن إلا عاملا محدودا ضمن هذه العوامل المتشعبة.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير الحروب الصليبية مسلمون جدل مذاهب سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الحملات الصلیبیة الحروب الصلیبیة فی مواجهة على حساب بعد أن فی مصر

إقرأ أيضاً:

رمضان في مناطق الحوثي .. من أجواء روحانية إلى موسم للقمع الطائفي والتلقين السياسي.. شوارع تعج بالمتسولين وأزقة تمتلئ بالجواسيس

 

لطالما كان شهر رمضان في اليمن موسمًا للروحانية والتقرب إلى الله، حيث تكتسي المساجد بحُلة إيمانية خاصة، وتمتلئ بالمصلين الذين يؤدون الصلوات ويستمعون إلى الخطب والمواعظ التي تذكرهم بقيم التسامح والمحبة، كانت صلاة التراويح تجمع الناس في أجواء من الطمأنينة يعلو فيها صوت القرآن، وتُلقى الدروس التي تعزز الأخلاق وتحث على التكافل والتراحم بين أبناء المجتمع.

 

لكن هذه الأجواء تغيرت في المناطق الخاضعة لسيطرة ميليشيات الحوثي، إذ لم تعد المساجد كما كانت، ولم يعد رمضان شهرا تملؤه السكينة، بل باتت المساجد ساحات لفرض الأيديولوجيات السياسية، واستُبدلت الدروس الدينية بخطابات دعائية تمجد زعيم الجماعة وتروج لمشروعها الطائفي، ومع استمرار هذا التضييق، بات المواطنين مجبرين على سماع ما لا يعبر عن واقعهم، وما لا يلبي احتياجاتهم في ظل الأوضاع الاقتصادية والمعيشية الصعبة التي يمرون بها.

 

أجواء الشحن الطائفي 

 

 تحولت الأجواء الرمضانية في مناطق سيطرة المليشيا من روحانية تعبّدية إلى بيئة مشحونة بالإجبار والتلقين السياسي، حيث لم يعد للمصلين مجال للراحة أو ممارسة شعائرهم بحرية، بل باتوا مجبرين على الانخراط في أنشطة الجماعة، سواء كانت دينية ذات طابع تعبوي أو سياسية موجهة، كما يروي معاذ أحمد، أحد أبناء محافظة إب لـ"مأرب برس".

 

ويضيف معاذ أن حتى صلاة التراويح، التي كانت تجمع اليمنيين في أجواء إيمانية خاصة، لم تعد بمنأى عن هذا التسييس القسري، فالأولوية لدى الحوثيين ليست للعبادة وإنما لما يليها من خطابات دعائية مفروضة بالقوة. "نُجبر على حضور محاضراتهم في المساجد والساحات العامة، ومن يرفض الامتثال يواجه التهديد أو حتى الملاحقة"، يقول معاذ، مشيرًا إلى أن هذه الممارسات تعكس استراتيجية الجماعة في فرض أيديولوجيتها على المجتمع بالقوة، وتحويل المساجد من بيوتٍ للعبادة إلى منصاتٍ لنشر خطابها الطائفي والتعبوي، في محاولة لترسيخ سلطتها عبر أدوات القمع والترهيب.

 

كان اليمنيون طوال عقود يستمعون في المساجد خلال شهر رمضان إلى خطب التراويح التي تتناول مواضيع دينية وإرشادية، إلا أن الحوثيين اتضايقوا من هذه الخطب واستبدلوها بكلمة سيدهم وهو سلسلة من المحاضرات التي تتضمن خطابات زعيم الجماعة عبد الملك الحوثي، وتروي "بطولات" جماعته منذ انطلاقها من صعدة وحتى استيلائها على صنعاء وبعض المحافظات الاخرى. 

 

هذا الكلمة التي يتم تقديمها على أنها توعية دينية لا تهدف إلا إلى غرس الفكر الطائفي في عقول الناس، حيث يتم ربط الأحداث السياسية بمفاهيم دينية مشوهة لتبرير سياسات الجماعة، لم تقتصر هذه الدروس على المساجد فقط، بل أصبحت تُفرض في المدارس والجامعات وحتى في التجمعات العامة، مما يعكس رغبة الحوثيين في تشكيل وعي المجتمع وفقًا لأيديولوجيتهم.

يقول المهتم بالشأن السياسي اليمني محمد النمر لـ"مأرب برس"استهدف الحوثيين للمساجد لم يأتي من فراغ، فالحوثيين يسعون من خلال السيطرة على المساجد تكثيف خطابهم الطائفي وإرغام السكان على الالتزام بتوجهاتهم، في مسعى لإحداث تغيير مذهبي يعتقدون بأنه سيوفر لهم قاعدة جماهيرية بعد أن أصبح اليمنيون يصفون الجماعة بأنها الوجه الآخر للسلالة، وتسعى لاحتكار الحكم في البلاد. 

 

ويضيف النمر مع تصاعد الخطاب القومي الوطني التوعوي، وامتداده إلى الدراما الرمضانية التي تبثها غالبية المحطات التلفزيونية المحلية، أمرَ الحوثيون كما هي العادة ببث محاضرات زعيمهم عبد الملك الحوثي في المساجد وفي الأسواق وتقاطعات الشوارع، حيث نصبت مكبرات الصوت لهذا الغرض.  

 

حشد حوثي في مساجد المحافظة الكبيرة بغرض مضايقة المصلين أثناء أداء صلاة التراويح، مبررين ذلك ببث محاضرات زعيمهم، وتوجيه أئمة المساجد بالتقيد بتعليماتهم فيما يخص مواعد الإمساك والإفطار، حيث يشكو العديد من المواطنين الذي يعيشون في مناطق سيطرة الحوثيين من القيود التي تفرضها الجماعة على العديد من جوانب الحياة الرمضانية حسب ما حديث النمر. 

 

إلى جانب فرض خطاباتهم، قام الحوثيون بتحويل المساجد إلى أماكن تخضع لرقابة مشددة، حيث يتجول المسلحون داخلها بلباسهم العسكري، يراقبون المصلين ويرهبونهم، لم تعد المساجد في مناطق الحوثيين فضاءات مفتوحة للعبادة بل باتت أماكن تُفرض فيها الطاعة بالقوة ومن يرفض الامتثال يواجه المضايقة أو حتى الاعتقال.

 

لم يسلم الأئمة والخطباء من هذه الضغوط، فالكثير منهم أُجبروا على الترويج لأفكار الجماعة، بينما أُقصي من رفض التعاون. بعضهم تعرض للاختطاف أو الإخفاء القسري، في حملة ممنهجة لإسكات أي صوت معارض للهيمنة الحوثية على الخطاب الديني.

 

وضع مأساوي وترويج طائفي. 

 

في الوقت الذي يعاني فيه اليمنيون من أوضاع اقتصادية كارثية، حيث تتفشى المجاعة والبطالة وانعدام الخدمات الأساسية ينشغل الحوثيون بفرض خطاباتهم الأيديولوجية، بدلاً من البحث عن حلول لمعاناة المواطنين، والمفارقة أن الجماعة ترفع شعارات التضامن مع قضايا خارجية، مثل دعم فلسطين ولبنان، بينما تفرض على شعبها الجوع والفقر والاستبداد.

 

لم يعد المشهد الرمضاني في إب والحافظات الاخرى يعكس قيم التكافل والطمأنينة، بل أصبح مشهداً مأساوياً متسولون يملؤون الشوارع، أطفال فقدوا ذويهم في حرب الحوثي العبثية، أسواقٌ تحتضر بسبب الضرائب الباهظة والإتاوات، وموظفون سابقون تحولوا إلى عمالٍ يبحثون عن أي فرصة للبقاء على قيد الحياة.

 

 يقول صلاح فارع أسم مستعار أحد تجار محافظة إب، إن الأزمة الاقتصادية الخانقة التي فرضتها سياسات الحوثيين حولت رمضان من شهر للبهجة والتراحم إلى موسم للمعاناة وشظف العيش. "لم يعد الناس قادرين على شراء ما اعتادوا عليه في هذا الشهر الكريم، فقد باتت الأولوية فقط لتأمين الحد الأدنى من المواد الغذائية الأساسية". 

 

ويضيف فارع أن لحوم العيد والحلويات الرمضانية التي كانت جزءًا أصيلًا من طقوس الشهر الفضيل أصبحت حلمًا بعيد المنال. ويعكس هذا الواقع المأساوي تدهور القدرة الشرائية للمواطنين، في ظل الضرائب الباهظة والإتاوات المفروضة على التجار، والتي أفرغت الأسواق من زبائنها، وحولت رمضان إلى مجرد أيام صيام بلا أي ملامح للفرح أو الاحتفال.

 

قمع ممنهج. 

 

لم يقتصر التضييق على المساجد فحسب، بل امتد ليشمل الشوارع والأحياء، حيث تنتشر دوريات مسلحة تفرض أجواء من الرعب وتُجبر الناس على حضور محاضرات تُبث عبر مكبرات الصوت. 

 

من يرفض الامتثال قد يواجه الاعتقال أو المضايقة، في وقتٍ بات فيه الخروج لأداء العبادات محفوفاً بالمخاطر وكأن رمضان الذي كان شهراً للسلام، تحول إلى فترةٍ إضافية من القمع والإنهاك النفسي.

 

إب ليست سوى نموذج مصغر لما تعيشه المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين، حيث أصبح رمضان موسماً لزيادة المعاناة بدلا من أن يكون فرصةً للتراحم، ففي الوقت الذي يرفع فيه الحوثيون شعارات التضامن مع القضايا الخارجية يعاني شعبهم من الجوع والفقر والاستبداد.

 

لقد أثبتت التجربة أن السيطرة على المنابر والمساجد، ونهب مقدرات الدولة، وتجويع السكان، لن يمنح الحوثيين الشرعية التي يبحثون عنها، فكما رفض اليمنيون عبر التاريخ أي محاولاتٍ لفرض فكرٍ متطرف عليهم، فإنهم اليوم أكثر وعياً وإدراكاً لما يُحاك ضدهم. رمضان الذي أرادوه شهراً للهيمنة، أصبح شهراً يكشف حقيقتهم، ويؤكد أن مشروعهم محكوم عليه بالفشل، لأن الشعوب لا يمكن أن تُجبر على الإيمان بشيءٍ لا يعكس واقعها، ولا يحل مشكلاتها.

 

وفي هذا السياق يفسر الناشط الحقوقي يونس الشجاع التحدي الاقتصادي القائم بقوله: مع ارتفاع الأسعار والغلاء، أصبح الناس غير قادرين على تجهيز متطلبات الشهر كما كانوا يفعلون في السابق. لم يعد بالإمكان شراء المواد الأسياسية لا سيما الكمالية. 

 

يسعى الحوثيون لاستنساخ النموذج الإيراني للحكم في اليمن، ولا يقبلون التعايش مع أحد، ولا يلقون أي اعتبار للدستور والقوانين النافذة،. 

 

ورأى الشجاع أن هذه الأطروحات تتجاهل في المقام الأول حالة التنوع والتعدد القائمة في البلاد، وكذا الرفض الشعبي العارم للحوثيين في المناطق الخاضعة كافة، بما في ذلك معقلها الرئيسي في محافظة صعدة وباقي المناطق الخاضعة بالقوة لسيطرتها، ورفض ما قام به الحوثيون منذ نشأتهم من فضائع في محاولة لفرض أفكارهم "المتخلفة" على اليمنيين بقوة السلاح. 

 

ويشير الشجاع يجب على المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية إدارك أن الحوثيين " تنظيم إرهابي" لا يقبل الشراكة ولا التعايش، وينتهج القوة والعنف والإرهاب. 

 

واتهم الشجاع الحوثيين باستهداف النسيج الاجتماعي، عبر تغذية النزعات المناطقية والعنصرية والمذهبية والعرقية، ومسخ الهوية الوطنية وإحتلال الثقافة الفارسية؛ سبيلاً لفرض مشروعهم، ورهن اليمن بيد إيران.

مقالات مشابهة

  • رمضان في مناطق الحوثي .. من أجواء روحانية إلى موسم للقمع الطائفي والتلقين السياسي.. شوارع تعج بالمتسولين وأزقة تمتلئ بالجواسيس
  • توقعات بارتفاع الذهب إلى 3200 دولار للأوقية مدفوعا بمخاطر التجارة
  • لماذا دافع مقتدى الصدر عن الحسن بن علي واتهم الشيعة بالتقصير بحقه
  • الإقليم الشيعي إلى الواجهة.. مطالبات سياسية تصطدم بحائط صد أمريكي
  • الإقليم الشيعي إلى الواجهة.. مطالبات سياسية تصطدم بحائط صد أمريكي - عاجل
  • الصدر يحذر: التصعيد الطائفي يهدد المنطقة وحكام العرب أمام مسؤولية
  • مقتدى الصدر ينتقد الشيعة لـتقصيرهم في حق الحسن بن علي.. ماذا قال؟
  • «الشباب والرياضة بالقليوبية» تواصل حملات التوعية بمخاطر الإدمان والتعاطي
  • الخارجية: توجهات الإدارة الأمريكية بإنهاء الحروب تعزز الأمل في وقف الصراعات العالمية
  • السودان في الصدارة .. توقعات “بارتفاع مذهل” للنازحين عالميا